مهاجر.. وقع أجره على الله – خديجة رابعة

“لقد جاؤوا الحياة في أوانهم المرتقب، و يومهم الموعود..

فحين كانت الحياة تهيب بمن يجدِّد لقِيَمِها الروحية شبابَها وصوابَها، جاء هؤلاء مع رسولهم الكريم مبشرين وناسكين..

وحين كانت تهيب بمن يضع عن البشرية الرازحة أغلالها، ويحرر وجودها ومصيرها، جاء هؤلاء وراء رسولهم العظيم ثوارا ومحررين..

وحين كانت تهيب بمن يستشرف للحضارة الإنسانية مطالع جديدة ورشيدة، جاء هؤلاء روادا ومستشرفين.” رجال حول الرسول/ خالد محمد خالد.

إنهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذلك الجيل الفريد؛ الحميد الفعال، الجميل الخصال، أصدق الناس بذلا للمهج وتضحية بالنفوس، وأشدهم مناصرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحرصهم على اتباعه والاستجابة لأمره.

بين أيدينا في هذه السطور سيرة أحد هؤلاء الأعلام، إنه ضمرة بن جندب لا يعرفه الكثير من الناس، لكن كفاه شرفا أن يعرفه رب العالمين، وأن ينزل فيه قرآن يتلى إلى يوم الدين.

هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وضمرة رضي الله عنه شيخ مسِن مصاب البصر، كان موسرا ذا مال، وله أربعة بنين. ولما نزلت: ( لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر) النساء: 95، ترخص عنها أناس من المساكين بمكة، حتى نزلت: ( ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها) النساء:97. فقالوا: هذه مرجفة، فقال ضمرة: اللهم قد أبلغت المعذرة والحجة، ولا معذرة ولا حجة، لئن كان ذهاب بصري إني لأستطيع الحيلة، لي مال ورقيق، اللهم إني أنصر رسولك بنفسي، غير أني أعود عن سواد المشركين إلى دار الهجرة، فأكون عند النبي فأكثر سواد المهاجرين والأنصار، فقال لبنيه: أخرجوني من مكة فإنه قد قتلني غمُّها، فقالوا إلى أين؟ فأومأ بيده إلى ها هنا نحو المدينة – يريد الهجرة – فأكون مع النبي صلى الله عليه و سلم فحملوه وهو شيخ كبير، فلما بلغ التنعيم مات، فقال بعض الصحابة: مات قبل أن يهاجر، فلا ندري أ على ولاية أم لا؟

وقول القائل ( أ على ولاية أم لا؟ ) يقصد بها قوله تعالى: ( إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم و أنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض، والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم شيء حتى يهاجروا ) الأنفال:72

فنزلت فيه خالصة ( ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على

الله ) النساء:100

ولقد أخبر أبو الحسن الواحدي في كتابه : ” أسباب النزول ” عن هذه الآية، قال بن عباس رضي الله عنهما في رواية عطاء: كان عبد الرحمن بن عوف يخبر أهل مكة بما ينزل فيهم من القرآن، فكتب الآية التي نزلت :  (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم..) فلما قرأها المسلمون ، قال حبيب بن ضمرة – وهو من الأسماء التي عرف بها ضمرة بن جندب – لبنيه وكان شيخا كبيرا: احملوني فإني لست من المستضعفين، وإني لا أهتدي إلى طريق، فحمله بنوه على سرير متوجها نحو المدينة، فلما بلغ التنعيم ، أشرف على الموت فصفق يمينه على شماله وقال : اللهم هذه لك وهذه لرسولك، أبايعك على ما بايعتك يد رسول الله صلى الله عليه و سلم ومات حميدا، فبلغ خبره أصحاب النبي فقالوا: لو وافى المدينة لكان أتَمَّ أجرا، فأنزل الله فيه هذه الآية : (ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله و رسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله).

يا له من أجر!

إبهام الأجر ونسبته إلى الله دليلان على عظمته.

وقد أشار الشيخ الشعراوي رحمه الله في خواطره إلى معنى ( وقع أجره على الله ) قائلا: ” الوقوع هنا هو سقوط، ولكنه ليس كالسقوط الذي نعرفه، بل هو الذهاب إلى الله.. ولماذا يستخدم الحق هنا  “وقع ” بمعنى ” سقط “؟

وهذا ملحظ هام يجليه الباري جل جلاله، حيث يكون الجزاء أحرص على العبد من حرص العبد عليه، فإذا ما أدرك العبد الموت فالجزاء يسعى إليه وهو عند الله، ويعرف الجزاء من يذهب إليه معرفة كاملة .”

كان ظني أن الإنسان هو الذي يسعى إلى الأجر، لكن أن يسعى الأجر إلى الإنسان وأن يتكلف به رب العزة، فهذا لعمري دليل أن لهذا العبد شأن خاص مع الله.

ترى ما الذي جعل ضمرة بن جندب يستأهل هذا الشرف ويحظى به؟

إنها شفافية الشعور وحساسية الضمير والصدق مع العزيز القدير.

إنه الحب الصادق لهذا الدين، ضمرة بن جندب رضي الله عنه رجل أعذره الله، فهو مسن لا يستطيع السير، وضرير لا يهتدي إلى طريق، والمسافة بين مكة والمدينة ما يناهز 450 كلم، كل ذلك لم يضعف عزيمته ولم ينل من إرادته للخير، تلفت يمينا وشمالا في مكة فاغْتَمَّ، لم يجد حواليه سوى الكفر والنفاق، فتملكه الشوق لرؤية رسول الله وصحبته، فأمر أبناءه وخدمه أن يحملوه لوجهته،

فهو رضي الله عنه يعلم عين اليقين أنه لا يستطيع مبارزة ولا يطيق قتالا، ولكنه يأبى إلا أن ينصر رسول الله بنفسه ولو أن يكثر سواد المهاجرين والأنصار.

ولما باغثه الموت في طريق الهجرة، جدد بيعته لله ورسوله، وما أجلها من بيعة ! : “اللهم أبايعك على ما بايعتك يَدُ رسول الله صلى الله عليه وسلم “.

وفي زمن تبريرات القعود وأعذار النكوص، نحتاج إلى تذكر مثل أولئك العظماء لنتعلم منهم من جديد، نتعلم منهم كيف نرتقي لنكون في مستوى هذا الدين.

وفي زمن الحداثة السائلة التي تنسف القيم وتلغي المبادئ، وتعلي من شأن الأثرة والأنانية، وتسعر نار الشهوات، يأتي حدث الهجرة ليذكرنا بالنفوس الكبيرة التي بذلت الغالي والنفيس في سبيل مبادئها وعقيدتها مستعلية عن مصالحها الشخصية وأطماعها الدنيوية.

يأتي حدث الهجرة ليوقظ فينا الوعي بالمعركة المستمرة بين الحق والباطل.

يأتي ليسائلنا أين نحن من هذه المعركة؟ وماذا قدمنا لنصرة الدين ؟

هل لا زلنا على العهد والوعد الذي قطعناه لربنا في أن نقيم الدين في أنفسنا وفيمن حولنا؟ أم سقطنا في مستنقع الدنيا ومفاتنها فاتبعنا الأهواء وأخلدنا إلى الأرض.

هذه دعوة لتجديد بيعتنا لله ورسوله تأسِّيا بضمرة بن جندب رضي الله عنه حين قال : ( أبايعك اللهم على ما بايعتك يَدُ رسول الله صلى الله عليه وسلم).

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى