مفكير يكتب: المسؤولية، صورها وسبل علاج التخلي عنها

الناظر إلى واقع المسلمين يصاب بالانهيار النفسي لما يراه من تخلف وتبعية وغياب المبادرة وتحمل المسؤولية ، ويقارن حالهم بحال غيرهم فيتساءل عن الخلل هل هو في قيم الإسلام ومبادئه أم هو مرتبط بالمنتسبين إليه . ولعل من مكامن الخلل التي يعاني منها المسلمون عدم تحملهم للمسؤولية .

المسؤولية في القرآن والسنة:

لم ترد كلمة مسؤولية في القرآن والسنة بهذا اللفظ ولكن ورودها في القرآن بمعناها كثير جدا ، بل المسؤولية من أكثر المعاني تكرراً في القرآن على الإطلاق فالشرع الحنيف يعد كل ما يجب على العبد أداؤه تجاه خالقه أو ما يجب عليه أداؤه تجاه نفسه أو ما يجب عليه أداؤه تجاه بني جنسه، بل ما يجب عليه أداؤه تجاه غير بني جنسه من الدواب وغيرها مسؤولية.

بعض الأمثلة لورود المسؤولية في القرآن:

وردت المسؤولية بلفظ الأمانة قال الله تعالى: (إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا). فهذه الآية تدل على المسؤولية بمعناها العريض، فقد جاءت عبارة الأمانة في هذه الآية بمعنى المسؤولية تماما.- قال الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون).وفي هذه الآية سمى الله تعالى التقصير في تحمل المسؤولية –الأمانة- بالخيانة وهذا كالاستعمال في الآية السابقة.

 قال الله تعالى: (إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا)، ورد في هذه الآية التصريح بمسؤولية الإنسان عن جوارحه، محاسب على ما اجترح بها- قال الله تعالى: (وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا)، هذه الآية تدل على مسؤولية الإنسان عما يقطعه على نفسه من العهود ويلزم به نفسه من المواثيق مع الآخرين.- قال الله تعالى: (ولتسألن عما كنتم تعملون)، فهذا المؤذن الذي انبعث إلى إخوة يوسف يخبرهم أنه فقد صواع الملك وأنه يتهمهم بسرقته ثم بين لهم أن رده من مسؤولياته التي لا يصح أن يفرط فيها.- قال الله تعالى: (فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين)، قال السدي: “فلنسألن الأمم: ما عملوا فيما جاءت به الرسل؟ ولنسألن الرسل: هل بلغوا ما أرسلوا به؟”.فهذه الآية تدل على أن المحاسبة على المسؤوليات ستطال الرسل والمرسل إليهم كل حسب ما ألقي عليه من التبعات والمسؤوليات.

وقد سبقت الإشارة إلى أن المسؤولية من أكثر المعاني تكرارا في القرآن فما ذكر ما هو إلا أمثلة لورود معنى المسؤولية في الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

وورود معنى المسؤولية في السنة النبوية على نحو ما وردت به في القرآن الكريم فقد صورت لنا الأحاديث النبوية أن المسؤولية لا يخلو منها مكلف، وأنها تشمل جميع مناحي الحياة، ونكتفي هنا بحديث واحد أحاط بالمسؤولية من جوانبها وجلاها فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:” كلكم راع ومسؤول عن رعيته فالإمام راع وهو مسؤول عن رعيته والرجل في أهله راع وهو مسؤول عن رعيته والمرأة في بيت زوجها راعية وهي مسؤولة عن رعيتها والخادم في مال سيده راع وهو مسؤول عن رعيته” قال فسمعت هؤلاء من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحسب النبي صلى الله عليه وسلم قال:”والرجل في مال أبيه راع وهو مسؤول عن رعيته فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته” .

قال ابن حجر رحمه الله: ” قوله كلكم راع يعم جميع الناس فيدخل فيه المرعي أيضا فالجواب أنه مرعي باعتبار راع باعتبار حتى ولو لم يكن له أحد كان راعيا لجوارحه وحواسه لأنه يجب عليه أن يقوم بحق الله وحق عباده”.

فالمسؤولية أمر لا يخلو منه مكلف أبدا بل التكليف أصلا عبارة عن مسؤوليات وهذا ما يقرره الحديث السابق.

من صور المسؤولية:

المسؤولية كما سبق تشمل كل جوانب الحياة الاجتماعية والشرعية وغيرها ولذا فإن حصرها لا يتأتى وقد أشار حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما إلى بعض صورها، فإلى بيان الصور التي أشار إليها الحديث وغيرها من الصور المهمة التي نعرضها ليس للحصر بل لأنها من أهم صور المسؤولية.

مسؤولية الإمام تجاه الرعية ومسؤولية الرعية تجاه الإمام:

مسؤولية الإمام تجاه الرعية والرعية تجاه الإمام تأتي في مقدمة المسؤوليات، ولذا فقد ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم أولاً في حديث ابن عمر رضي الله عنهما المذكور آنفا فقال: “الإمام راع وهو مسؤول عن رعيته”.

وقد بينت آيات الكتاب الكريم حقوق الراعي وحقوق الرعية، ففي حقوق الراعي قال الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم).

فبين أن من أوجب الواجبات تجاه الإمام طاعته في المعروف، قال الطبري رحمه الله في تفسيره: “فإذ كان معلوما أنه لا طاعة واجبة لأحد غير الله أو رسوله أو إمام عادل وكان الله قد أمر بقوله : (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم)، بطاعة ذوي أمرنا كان معلوما أن الذين أمر بطاعتهم تعالى ذكره من ذوي أمرنا هم الأئمة ومن ولوه المسلمين دون غيرهم من الناس).

وفي البخاري باب السمع والطاعة للإمام وأورد فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: “السمع والطاعة حق ما لم يؤمر بالمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة”.

من المسؤوليات تجاه الإمام النصح له وإعانته:

عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الله عز وجل رضي لكم ثلاثا وكره لكم ثلاثا رضي لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأن تنصحوا لمن ولاه الله أمركم وان تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا وكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال”.

من مسؤوليات الإمام تجاه رعيته:

قال شيخ الإسلام : “الواجب بالولايات : إصلاح دين الخلق الذي متى فاتهم خسروا خسرانا مبينا ولم ينفعهم ما نعموا به في الدنيا وإصلاح ما لا يقوم الدين إلى به من أمر دنياهم”.

فمتى ما قام كل من الأمراء والرعايا بالمسؤوليات الموكلة لهم صلح الأمر واستقام.

مسؤولية الرجل في بيته:

من المسؤوليات العظيمة مسؤولية الرجل في بيته وعلى أهله وهي تلي مسؤولية الحاكم في رعيته، ولذا عقب النبي صلى الله عليه وسلم بذكر هذه المسؤولية بعد مسؤولية الإمام: “والرجل في بيته راع وهو مسؤول عن رعيته”

ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: “كفى بالمرء إثما أن يضيع من يعول “.

فعلى الأب تقع مسؤولية رعاية الأبناء رعاية مادية ومعنوية ومتى قصر في ذلك فقد ضيع المسؤولية وخانها.

وقد ذكر الله تعالى خبر لقمان عليه السلام وقيامه بمسؤوليته تجاه ابنه ليقتدى به في نصحه وإرشاده بل سمى الله تعالى في القرآن سورة كاملة باسمه.

فمسؤولية الوالد تجاه أولاده مسؤولية عظيمة، قال الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة)، قال الطبري رحمه الله: “يقيهم؛ أن يأمرهم بطاعة الله، وينهاهم عن معصيته، وأن يقوم عليهم بأمر الله يأمرهم به ويساعدهم عليه فإذا رأيت لله معصية ردعهم عنها وزجرتهم عنها”.

وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الوالدين بإرشاد أبنائهم وتوجيههم وحمّلهم هذه المسؤولية فقال: “مروا أبناءكم بالصلاة لسبع سنين واضربوهم عليها لعشر سنين وفرقوا بينهم في المضاجع”.

مسؤولية المرأة في بيت زوجها:

قال النبي صلى الله عليه وسلم: “والمرأة راعية في بيت زوجها وهي مسؤولة عن رعيتها”، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن مسؤولية المرأة حفظ الرجل والقيام على أولاده إرشادا وتوجيها وتربية وحفظ ماله وصون عرضه وهذه من أعظم المهام والمسؤوليات قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه: “ألا أخبرك بخير ما يكنز؟ المرأة الصالحة؛ إذا نظر إليها سرته، و إذا أمرها أطاعته، و إذا غاب عنها حفظته”.

فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم بأسلوب مشوق لعمر رضي الله عنه مسؤولية المرأة تجاه زوجها وأسرتها، فأولها إدخال السرور على البيت وتقوية عوامل السكينة فيه، وثانيها حفظ نفسها ومن في يدها من أبنائها ورعايتهم ماديا ومعنويا.

مسؤولية المعلم:

من المسؤوليات العظام مسؤولية المعلم، فهو المربي الذي على يده تتخرج الأجيال، وعلى يده يبنى مستقبل الأمة.

أرأيت أشرف أو أجل من الذي يبني وينشئ أنفسا وعقولا

فعلى المعلم أن يبذل علمه وألا يبخل به على طلابه وبذا يكون قد أدى الأمانة وقام بالمسؤولية وما أحسن ما قاله الشافعي رحمه الله:

                   ومن منح الجهال علما أضاعه … ومن منع المستوجبين فقد ظلم

فترك تعليم المستحقين ظلم وخيانة للمسؤولية واستهتار بها.

وقد كان السلف يهتمون بأمر السلوك والتهذيب جدا، وكان المعلم يدرك أن من أول مسؤولياته أن يتمثل الخلق الرفيع ليدل الطلبة بعمله على الأدب، وقد كان بعض الطلاب يجالسون مالكا ليتعلموا منه الأدب والسمت.

مسؤولية رجال الإعلام:

الإعلام يقوم بدور كبير في توجيه الرأي العام، وفي ترسيخ القناعات حسنها وقبيحها، وعلى أهل الإعلام أن يعوا هذا الخطر العظيم وأن يعرفوا أن على عاتقهم مسؤولية عظيمة ما لم يقوموا بها حق القيام فإن كثيراً من المبادئ ستتزعزع في نفوس بعض المسلمين بسبب الإعلام المضاد.

لقد كان الشعر هو أقوى وسيلة إعلامية في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ولذا فقد تفرغ من وهبه الله تعالى ملكة نظم الشعر لجهاد الكافرين باللسان كحسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة وكعب بن زهير رضي الله عنهم.

وقد كان الإعلام الإسلامي المتمثل في أولئك الشعراء وسيلة فاتكة فعن عائشة رضي الله عنها قالت: “أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال اهجو قريشا فإنه أشد عليهم من رشق بالنبل فأرسل إلى ابن رواحة فقال اهجهم فهجاهم فلم يرض فأرسل إلى كعب بن مالك ثم أرسل إلى حسان بن ثابت فلما دخل عليه قال حسان قد آن لكم أن ترسلوا إلى هذا الأسد الضارب بذنبه ثم أدلع لسانه فجعل يحركه فقال والذي بعثك بالحق لأفرينهم بلساني فري الأديم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تعجل فإن أبا بكر أعلم قريش بأنسابها وإن لي فيهم نسبا حتى يلخص لك نسبي فأتاه حسان ثم رجع فقال يا رسول الله قد خلص لي نسبك والذي بعثك بالحق لأسلنك منهم كما تسل الشعرة من العجين قالت عائشة: فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لحسان إن روح القدس لا يزال يؤيدك ما نافحت عن الله ورسوله” .

فعلى رجال الإعلام أن ينافحوا عن الإسلام في زمن سخر فيه الأعداء من تعاليمه وهجو نبيه حاولوا تشويه صورته ولهم في حسان بن ثابت وكعب وعبد الله بن رواحة رضي الله عنهم أسوة حسنة.

كما أن من القيام بالمسؤولية تجويد الأداء وابتكار ما يشد المشاهد والسامع وقد كان الإعلام الإسلامي إعلاما منافسا بل كان يتفوق على إعلام الآخرين.

فالكلمة والمقالة مسؤولية عظيمة لأنها تؤثر في القراء وتوجههم فإن استعملت في الخير كانت سلاحا ماضيا يقيم الحق وينصر العدل وإن استعملت في الشر كانت معول هدم ودمار.

مسؤولية الدعاة وأهل الحسبة:

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر صمام أمان المجتمع، فالمجتمع الذي لا يقوم بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مهدد بالمخاطر قال الله تعالى: (لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون).

كما أن أهل العلم بصفة خاصة تقع على عاتقهم هذه المسؤولية العظيمة قال الله تعالى: (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون).

وقال الله تعالى: (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم).

وعلى أئمة المساجد وخطباء المنابر تقع مسؤولية عظيمة فإن خطبة الجمعة أداة فاعلة في توجيه المجتمع وتحريكه، فمتى ما كان الخطيب موفقا في اختيار الموضوع متفاعلا معه مؤمن بقضيته ويهمه أن يحرك لها الناس كان قائما بالمسؤولية ومتى جعل من خطبة الجمعة وظيفة يؤديها وهو غير مكترث لها كان مضيعا للمسؤولية.

مسؤولية الوظيفة:

عندما تصل بعد عناء إلى مرفق عام لإجراء معاملة ما فتجد أن الموظف لم يحضر مع أن الدوام قد بدأ منذ ساعات فعندئذ ستضطر إلى التضحية بوقت ثمين وربما يطول ويكثر مجيئك ورواحك وكل ذلك بسبب من لا يقدر قيمة العمل ولا يتحمل مسؤولية الوظيفة التي وقع عقدا على تحملها وتقاضى عليها أجرا.

عن عبد رحمن بن شماسة قال: “أتيت عائشة أسألها عن شيء فقالت ممن أنت؟ فقلت رجل من أهل مصر فقالت كيف كان صاحبكم لكم في غزاتكم هذه؟ فقال ما نقمنا منه شيئا إن كان ليموت للرجل منا البعير فيعطيه البعير والعبد فيعطيه العبد ويحتاج إلى النفقة فيعطيه النفقة فقالت أما إنه لا يمنعني الذي فعل في محمد بن أبي بكر أخي أن أخبرك ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في بيتي هذا ( اللهم من ولى من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فأشفق عليه ومن ولى من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به”.

فقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم لمن يقوم بمسؤوليته تجاه الآخرين، كما دعا على من يشق على الناس فيما كلف من أمرهم.

مسؤولية التكاليف الشرعية:

هذه المسؤولية هي أصل المسؤوليات بل كل المسؤوليات تندرج تحتها وإنما أفردتها بالذكر هنا إجمال بعد تبيين، فالصلاة مسؤولية قال الله تعالى: (وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين)، والصوم مسؤولية قال الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم)، وكذا سائر التشريعات.

إن من الملاحظ إهمال كثير من المسلمين لهذه المسؤوليات، فكثير ممن توفرت لهم القدرة على الحج لا يحجون، وكثير من المسلمين عن الصلاة يتشاغلون ولها يضيعون.

كما نشهد كثيرا حالة الانتكاسة بين صفوف الملتزمين والتخلي عن مظاهر التدين وشعائره، وما ذاك إلا لفقدنا الإحساس بالمسؤولية، مسؤوليتنا تجاه الفرائض.

لقد استشعر السلف عظم مسؤولية التكاليف الشرعية قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: “ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف”.

ولما نزل قول الله تعالى: (يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن)، التزمت نساء الأنصار بهذا الحكم وطبقنه فعن صفية بنت شيبة قالت : بينا نحن عند عائشة قالت فذكرنا نساء قريش وفضلهن فقالت عائشة رضي الله عنها إن لنساء قريش لفضلا وإني والله ما رأيت أفضل من نساء الأنصار أشد تصديقا بكتاب الله ولا إيمانا بالتنزيل لقد أنزلت سورة النور (وليضربن بخمرهن على جيوبهن) انقلب إليهن رجالهن يتلون عليهن ما أنزل الله إليهم فيها ويتلو الرجل على امرأته وابنته وأخته وعلى كل ذي قرابته فما منهن امرأة إلا قامت إلى مرطها المرحل فاعتجرت به تصديقا وإيمانا بما أنزل الله من كتابه فأصبحن وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم معتجرات كأن على رؤوسهن الغربان”.

فأين كثير من نساء المسلمين ممن تخلين عن هذه المسؤولية الشرعية العظمى وخرجن متبرجات كأن آية الحجاب لم تنزل وكأن الله تعالى لم يأمرهن به.

ولما نزل قول الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس) إلى قوله : ( فهل أنتم منتهون) فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: انتهينا انتهينا!!

فأين شبابنا الذين أدمن بعضهم على تناول المخدرات من مثل هذه الهمة العالية في تحمل التكاليف الشرعية والقيام بها على أتم وجه وفي أسرع ما يكون.

فهذه بعض صور المسؤولية التي يجب مراعاتها والقيام بها وعدم التقصير فيها.

من أسباب التخلي عن المسؤولية:

ضعف الوازع الديني، فمن عمر الإيمان قلبه، وتمكنت مراقبة الله من نفسه علم أنه غدا موقوف أما الله تعالى وسيسأله عما كلفه من تكاليف ولا نجاة له إلا بالقيام بالمسؤوليات الملقاة على عاتقه وأداء الأمانات المؤتمن عليها، والوفاء بما يجب عليه من الواجبات، فيكون المعين الأول له خوفه من الله تعالى وسعيه في مرضاته.

ضعف الهمة، إن مسؤوليات يسيرة يعجز عنها كثير من الغلاظ الشداد وما ذلك إلا لأن الهمم قد ماتت والعزائم قد خارت، فتجد الصغار وقد اجتازوا العقبات وحققوا النجاحات وتحملوا المسؤوليات وغيرهم ممن أوتي أكثر مما أوتوا ويقوى على أكثر مما تحملوا وقد خذله الكسل الذي استعاذ منه النبي صلى الله عليه وسلم.

التربية غير الرشيدة، فتعليم الطفل منذ صغره تحمل ما يستطيع من المهام، والقيام بما يجب عليه من واجبات مدرسية أمر له بالغ الأثر في شخصيته، ومن الأخطاء الشائعة قيام بعض أولياء الأمور بحل الواجبات الدراسية لأبنائهم مما يدفعهم للتسيب ويبعدهم عن الاستعداد لتحمل المسؤوليات في كبرهم.

الاتكالية، فكل واحد منا مسؤول مسؤولية مباشره عن كثير مما وقعت فيه الأمة في الحاضر من تخلف مادي وفكري ولكنا نتكل على بعضنا في تغيير هذا الواقع فالعامة يلقون بالمسؤولية على النخبة والعلماء، والعلماء يلقون باللائمة على الحكام، والحقيقة أن الكل له مسؤوليته التي يلزمه القيام بها.

الإحباط، الإحباط من أبرز أسباب القعود عن العمل وترك المهام والتقصير في المسؤوليات، وما جنى محبط غير الخسران والفشل، والتفاؤل هو روح الإنجاز، فالمسؤوليات لا يقوى عليها المحبطون لأن نظراتهم المتشائمة تمثل حجابا يمنعهم من الإقدام ويحجبهم عن التقدم وإنجاز ما هو من واجباتهم.

عدم وضوح الرؤيا، فكثير من الناس لا يعرف المسؤوليات الموكلة له أصلا حتى يقوم بها، فمن الآباء من يظن أن مسؤوليته تجاه أولاده تنتهي بتوفير المأكل والمشرب والمسكن وأن التوجيه والإرشاد ليس من مهمته ولا مسؤوليته، وكثير من المسلمين لا يعرف أن عليه مسؤولية تجاه أمته ودينه.

تعاظم المسؤوليات، نعم لقد صار الجميع يصارع في كل الأصعدة، وقديما قيل إذا عظم المطلوب قل المساعد، لقد كان الناس في السابق لا يعانون كثيرا مما يعاني منه أهل زماننا فمثلا مسؤولية تربية الأبناء ومتابعتهم كانت في السابق أسهل بكثير منها في هذا الزمان الذي كثرت فيه وسائل الإفساد ولكن هذا ليس مسوغاً لعدم القيام بما يجب القيام به من المسؤوليات وعلى المرء أن يبذل وسعه وأن يؤدي ما يستطيع وإذا أديت ما عليك فلا عليك وبقدر البذل تحصل النتائج وبقدر الاستعداد يكون الإمداد.

الغزو الفكري، الذي صور لكثير من شرائح المجتمع الإسلام أن خروج المرأة ضرورة لا بد منها وأنها لن تحصل على حقوقها وهي قابعة في بيتها فتخلت بعض نساء المسلمين من أجل هذه الدعوى عن مسؤولياتها في البيت وخرجت لتستلم مسؤولية غيرها.

كما زين هذا الغزو المسموم لكثير من النساء التخلي عن المسؤوليات الشرعية كالحجاب وغيره واصفا هذه التكاليف الشرعية بالتخلف والرجعية، وبذات القدر حبب إلى الرجال والنساء على حد سواء الخلاعة والمجون وهذا الغزو قامت عليه كثير من وسائل الإعلام ودعمته.

عدم وجود المحاسبة الجادة في كثير من المرافق والمؤسسات، فمن الناس من لا رقيب عليه من داخله ولا ضمير يؤنبه إذا تخلى عن مسؤولياته الموكلة له، فلا بد من وجود المحاسبة الخارجية من رؤسائه ومديريه، ومتى وجدت هذه المحاسبة اضطر المتسكع للقيام بمسؤولياته الوظيفية على أتم وجه وأكمله.

عدم تقدير من يقوم بمسؤولياته، إن المساواة بين الذين يعملون والذين لا يعملون ميزان مختل، قال الله تعالى: (أم حسب الذين اجترحوا…) وهو من عوامل التقصير في أداء المهمة والقيام بالمسؤولية، فمثلا المعلم الذي لا يتوفر له من الكسب المادي ما يتناسب مع أمانته ومسؤوليته يشعره ذلك بالدونية ويصرفه عن تحمل المسؤولية.

سبل علاج التخلي عن تحمل المسؤولية:

  • التبصير بالمسؤوليات والتعريف بالتكاليف، إن المرحلة الأولى من مراحل تحمل المسؤولية أن يعرف المرء ما يجب عليه لأنه لا يمكنه القيام بما يجب عليه إذا جهله، وحتى التكاليف الشرعية لابد من معرفتها ووضوحها ليسهل بعد ذلك على المكلف تطبيقها ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل: “كف عليك هذا -وأخذ بلسان نفسه- قال: فقلت يا نبي الله وإنا لمؤاخذون مما نتكلم به؟ فقال ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم”، فمعاذ بن جبل رضي الله عنه مع أنه أعلم الأمة بالحلال والحرام إلا أنه احتاج لبيان أن الكلمة مسؤولية.
  • التحريض على تحمل المسؤوليات، فإن التحريض يؤدي إلى علو الهمة ويرفع الإحباط ولذا فهو نهج تربوي قويم في تحمل المسؤوليات، وقد استخدمه أبو سفيان يوم أحد ليرفع من همة جنوده، وإن كان قد استعمله في باطل إلا أنه يبقى وسيلة نافعة، قال ابن اسحاق: “وقد قال أبو سفيان لأصحاب اللواء من بني عبد الدار قد وليتم لواءنا يوم بدر فأصابنا ما قد رأيتم وإنما يؤتى الناس من قبل راياتهم إذا زالت زالوا فإما أن تكفونا لواءنا وأما أن تخلوا بيننا وبينه فنكفيكموه فهموا به وتواعدوه وقالوا نحن نسلم إليك لواءنا ستعلم غدا إذا التقينا كيف نصنع وذلك الذي أراد أبو سفيان”. وقد استبسل حملة اللواء وكانت لكلمات أبي سفيان دورها في تحملهم ما أوكل إليهم.
  • مواجهة الغزو الفكري وبيان تفوق الإسلام الحضاري وملائمة تعاليمه السمحة لفطرة الإنسان وفضح الواقع المرير الذي يعيشه غير المسلمين من انحلال وتفكك والذي يحاولون جهدهم جر المسلمين إلى مستنقعه.
  • العناية ببرامج التزكية التي تدفع إلى تحمل التكاليف الشرعية بانشراح صدر وقبول ورغبة وبيان الثواب الجزيل الذي ينتظر الملتزم القائم بمسؤولياته الشرعية في الدنيا والآخرة.
  • المحاسبة والرقابة لمن يتخلى عن مسؤولياته ويقصر فيما يجب عليه تجاه المجتمع والضرب على أيدي العابثين بالوظائف العامة.
  • تقدير من يقومون بالمهام والمسؤوليات والتنويه بدورهم وتقديم الجزاء الأوفى لهم والذي يستحقونه.
  • تعويد الأطفال منذ الصغر تحمل المسؤولية والقيام بمهامهم الصغيرة التي تتناسب مع أعمارهم وتبغيض الاتكالية إليهم فإنها داء خطير.
  • بث روح التفاؤل وإشاعة الأمل بانقضاء زمن الضعف الذي يعيشه المسلمون وبزوغ فجر الإسلام من جديد وأن المستقبل لهذا الدين وما علينا إلا أن نسعى لخير أمتنا بالقيام بمهامنا فيتحقق لنا النصر المنشود.
  • إبراز النماذج المعاصرة التي تخطت العقبات وقامت رغم العوائق بالمسؤوليات فسعدت ونجحت وصارت مثلا يحتذى وقدوة تؤتسى، فإن للأمثلة العملية تأثير كبير على النفوس.
  • ترسيخ مفهوم السعادة في القيام بالمهام والنهوض بالمسؤوليات ليقدم المقدم على المسؤولية إقدام المتشوق الذي يطلب فيها السعادة والراحة.

وأخيرا يجب التذكير بأن فوز الدنيا والآخرة مرتهن بالقيام بالمسؤوليات على الوجه الأكمل وخسارة الدنيا والآخرة في التهرب من المسؤوليات، فمن شمر عن ساعد الجد أعانه الله ووفقه فكان من القائمين بما أوجب الله عليهم المفلحين في الدنيا والآخرة.

عبد الرحيم مفكير

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى