مداخلة د.خالد الصمدي في الندوة الاحتفالية بمرور 12 قرنا على تأسيس القرويين

ألقى الخبير التربوي والوزير السابق الدكتور خالد الصمدي مداخلة علمية في الندوة الاحتفالية بمناسبة مرور 12 قرنا على تأسيس القرويين. وجاء فيها النص الكامل للمداخلة:

بسم الله الرحمان الرحيم، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. الحمد الله تعالى الذي يسر هذا اللقاء مع هذه الثلة المباركة من الفضلاء، والعلماء، والطلبة الباحثين، والأساتذة، لمدارسه هذا الموضوع الهام بمناسبة ذكرى الاحتفال بمرور اثني عشر قرنا على تأسيسي جامعة القرويين.

بداية أتوجه بالشكر الجزيل إلى مركز مقاصد للدراسات والبحوث للدعوة الكريمة بحضور هذه الندوة العلمية المباركة والشكر أيضا موصول للجنة التراث بكلية الطب جامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس، وإلى مركز القرويين للدراسات والبحوث، وكل الجهات التي أسهمت في تنظيم هذا الحدث العلمي.

حينما طلب مني أن أتحدث في هذا الموضوع فكرت تفكير العملة بوجهين:

الوجه الأول: جامعة القرويين من حيث تاريخها، وأصالتها وحضارتها، وغير ذلك.. وقد كتب في هذا الشيء الكثير؛

الوجه الثاني: استشراف رسالة جامعة القرويين في ضوء تحولات التعليم العالي والبحث العلمي سواء على المستوى الوطني أو على المستوى الدولي، لأن هذه الجامعة كانت دائمة الحضور في واقعها وفي تاريخها، وبالتالي تتكيف مع كل التحولات التي تعرفها المنظومات التعليمية بصفة عامة.

لذلك لن أركز على الماضي الحضاري، والديني والعلمي والثقافي لأنكم تعلمونه جميعا، لكنني سأحاول أن أتحدث عن هذه الجامعة في الواقع المعاصر، التحولات التي تعيشها، وكيف يمكن أن تتكيف مع التحولات التي تعرفها منظومات التعليم العالي والبحث العلمي ببلادنا وفي العالم، حتى تستأنف رسالتها الحضارية؟ فهذا هو جوهر الموضوع الذي سأحاول أن أقاربه فيما سيأتي:

أولا: التذكير بأن جامعة القرويين كانت إلى حدود سنة 2015 تابعة لوزارة التعليم العالي والبحث العلمي، وقد كنت مشرفا على القطاع، لكن لم يتسنى لي أن أشتغل على موضوع جامعة القرويين، لأنني ولجت إلى الوزارة بعد انتقال جامعة القرويين إلى وزارة الأوقاف، لكن تدبير تركة هذه الوزارة على مستوى قطاع التعليم العالي من الكليات التي كانت تابعة لها كلية الشريعة بفاس، وكلية أصول الدين بتطوان، وكلية اللغة العربية بمراكش، وكلية الشريعة بأكادير، وكلية الشريعة بالسمارة، وغيرها من المؤسسات الجامعية التي كانت تابعة لجامعة القرويين، فبعد سنة 2015 تم إلحاقها بالدائرة الترابية لكل جامعة على حدة، وهذا في تقديري لا زال لحد الساعة يتطلب نوع من التفكير والتدبير لإدماج هاته المؤسسات في محيطها الجامعي، بالتنسيق مع شعب الدراسات الإسلامية، على سبيل المثال، وغيرها من التكوينات الأخرى الموجودة في كليات الآداب.

ونتحدث هنا عن مرحلة انتقالية لا بد وأن يتم فيها التفكير بروية، فالظهير الشريف الذي نقل جامعة القرويين سنة 2015 إلى وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية تحت العناية الشريفة لجلالة الملك حفظه الله مباشرة، وبتدبير رئيس مجلس إدارة هذه الجامعة السيد وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، وطبعا مجلس الإدارة الذي يدير هذه الجامعة إلى اليوم، حيث أن هذه النقلة في تقديري التي جمعت مؤسسات للتعليم العالي، كانت تابعة لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، قبل أن تنضوي تحت جامعة القرويين نتحدث هنا عن دار الحديث الحسنية، ومؤسسة محمد السادس للدراسات القرآنية، ومعهد الفكر والحضارة، والمعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب، وجامع القرويين كمؤسسة للتعليم العتيق، ومعهد محمد السادس لتكوين الأئمة والمرشدات، هذه هي المكونات الجديدة لجامعة القرويين في وضعها الجديد، وهو أمر غاية في الأهمية، لسبب بسيط وهو أن هذه المؤسسات الجامعية، على أهميتها، كانت مؤسسات لم تكن منضوية تحت نظام جامعي موحد، الآن أصبحت تابعة لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية.

ثانيا: التخصصات التي تشتغل عليها الجامعة اليوم هي الحديث الشريف، والقرآن الكريم وعلومه، والعلوم الإسلامية، والحضارة الإسلامية، والتاريخ، والفن، والتراث، والآثار؛ بعد التعليم العتيق طبعا، وتكوين الأئمة والمرشدات، وهو تحول أخذ يعطي ثماره على مستوى تنسيق الجهود ضمن جامعة واحدة بهوية واضحة، بأفق واضح.

إذا سؤالي اليوم:

أولا: كيف يمكن لهاته الجامعة التي خرجت من القانون الإطار 01.00 المنظم للتعليم العالي إلى نظام خاص بها تابع لجامعة القرويين؟

ثانيا: كيف يمكن أن نحدث نوعا من الجسور بين هاته الجامعة وباقي الجامعات على الصعيد الوطني؟ هذا سؤال مهم جدا.

ثالثا: كيف يمكن أن نضمن لهاته الجامعة إشعاعها على الصعيد الدولي؟ بدخولها ليس فقط بتاريخها، وإنما بحاضرها وبمستقبلها، لتتلاءم مع التحولات التي تعرفها منظومة التعليم العالي والبحث العلمي بصفة عامة؟ إذا هذا هو الوضع الجديد من الناحية القانونية، ومن ناحية المؤسساتية، هذا طبعا أثر على مؤسسات التكوين الموجودة الآن في هذه الجامعة التي تعمل على تخريج كفاءات وقدرات مهمة جدا في مختلف المجالات التي سبق وأن تحدثت عنها “اختصاصات هذه الجامعة”

بقي هناك أمرين: الأمر الأول: هو البحث العلمي؛ كيفية تنظيم البحث العلمي بهذه الجامعة؟ والأمر الثاني: كيفية ضمان الإشعاع الدولي لجامعة القرويين؟ وهذا الأخير سأعطي فيه مثالا إن شاء الله.

على مستوى البحث العلمي أعتقد أن الظهير المؤسس لجامعة القرويين أعطى أهمية كبيرة للشراكة والتعاون الوطني والدولي، لذلك لا بد لهذه الجامعة أن تكون لها شراكات على المستوى الوطني، وعلى الصعيد الدولي، وقد بدأ هذا منذ سنة 2017 حيث بدأنا نلاحظ توقيع اتفاقيات الشراكة والتعاون بين جامعة القرويين وجامعات وطنية أو جامعات دولية، فهذا من المفروض أن يعزز بشكل كبير وكبير جدا، فلا بد لهاته الجامعة رغم عدم خضوعها للقانون 01.00 المنظم للتعليم العالي أن تستفيد من اعتمادات البحث العلمي التي توفرها المراكز والجامعات على الصعيد الوطني على سبيل المثال المركز الوطني للبحث العلمي والتقني، حيث يوجد فيه برنامج تم إطلاقه سنة 2018 تحت عنوان مشروع ابن خلدون لدعم البحث العلمي في العلوم الإنسانية والاجتماعية، ولازال هذا البرنامج إلى اليوم قائما، فتضم العلوم الإنسانية والاجتماعية إلى جانب ما تضم كل ما يتعلق بالعلوم الشرعية للدراسات الإسلامية، وما يرتبط بها، واختصاصات هاته الجامعة من حضارة وتاريخ وتراث، وما إلى ذلك. فجزء كبير منه يمكن أن يمول عن طريق هذا المركز الوطني للبحث العلمي والتقني.

إذن من المفيد جدا أن تنفتح جامعة القرويين على توقيع اتفاقية شراكة وتعاون مع المركز الوطني للبحث العلمي والتقني، وأيضا لا بد -في مؤسسة دار الحديث على وجه الخصوص وهي مؤسسة عريقة جدا- أن تكون هناك مختبرات بحث علمي متخصصة في اختصاصات الجامعة، أو على الأقل يُحدث في كل مؤسسة من المؤسسات التابعة لجامعة القرويين مركز بحث علمي متخصص بالمواصفات العلمية المطلوبة، التي يمكنها أن تنجز دراسات وأبحاث بشكل متراكم.

ويمكن أيضا لجامعة القرويين أن توقع اتفاقيات شراكة وتعاون مع قطاعات حكومية متعددة، فمثلا لو تحدثنا عن دراسات الآثار والتراث نجد جزء كبير منها عند وزارة الثقافة؛ وكذلك لو تحدثنا مثلا على كل ما يتعلق بالمكتبة والأرشيف، وكيفية تدبير المخطوطات، وما إلى ذلك، هناك مؤسسة أرشيف المغرب التي ترجع لها هذه المخطوطات وغيرها..

إذن من المفيد أن تكون بينها وبين جامعة القرويين اتفاقية شراكة وتعاون، فالمعروف أن جامعة القرويين هي أول جامعة في العالم، فجلالة الملك رحمه الله المغفور له الحسن الثاني كما تذكرون، وفي هذه المدينة بالضبط في 1984، كانت القمة الإسلامية هنا، وتم اقتراح تأسيس منظمة الإيسيسكو منظمة العالم الإسلامي للتربية والعلوم والثقافة، وضمنها تم تأسيس اتحاد جامعات العالم الإسلامي، ولا زالت هذه الهيئة قائمة إلى اليوم، وأنا أتصور أن جامعة القرويين ينبغي أن تكون قائدة لهذه الهيئة، وهي رسالة أوجهها إلى منظمة الإيسيسكو، وأوجهها إلى اتحاد جامعات العالم الإسلامي، فهذه سنة ذهبية لاحتفال اتحاد جامعات العالم الإسلامي ليس فقط على الصعيد الوطني وعلى الصعيد الدولي، بهذه الجامعة الأم لاتحاد جامعات العالم الإسلامي لكي تقوم بأدوارها العلمية والثقافية والدينية والحضارية، وما إلى ذلك.

ثالثا: عالم الرقمنة حيث لابد أن تدخل جامعة القرويين عصر الرقمنة، وأن تستثمر التكنولوجيا، وأن تشتغل على التعليم عن بعد، فينبغي أن لا ننظر إلى جامعة القرويين دائما على أنها نتاج الماضي، وأنها لا يمكن أن تنفتح على المستقبل، بالعكس، اليوم هناك تكوينات في مختلف العلوم الإسلامية عن بعد، وهناك جامعات افتراضية، وهناك تكوينات على مستوى الإجازة، والماستر في هذه التخصصات هناك رصيد قوي جدا، فإشعاع جامعة القرويين ينبغي أن ينتقل إلى المجال التكنولوجي، واستثمار تكنولوجيا بشكل كبير جدا عن طريق تكوينات للتعليم عن بعد، وعن طريق تحديث موقع الجامعة لكي يقوم بدوره في التواصل، وفي التعريف، وما إلى ذلك، فعالمنا اليوم، شئنا أم أبينا، هو عالم الرقمنة، وبالتالي لا بد وأن تسير الجامعة في هذا الاتجاه.

رابعا: علاقة الجامعة بسوق الشغل، فهل جامعة القرويين هي جامعة لتكوين فكري أكاديمي فقط، لا يمكنها أن تكون كفاءات مرتبطة بقوة بسوق الشغل؟ فجامعة القرويين ذات رأس مالي بشري قوي جدا، ومن بين الأمثلة على ذلك:

المثال الأول: العناية بالوثائق والمخطوطات، وتكوين متخصصين في العناية بالمخطوط، والاشتغال عليه من إخراجه إلى حيز الوجود، وإنقاذه، إلى دراسته، وإلى بحثه، وإلى إخراج ما يوجد فيه من علوم ودراسات وأبحاث وما إلى ذلك. وهذا يتطلب فرق بحث متخصصة في العمق. لا تقوم بعمل تقني فقط، وإنما بعمل تقني وعلمي.

المثال الثاني: تكوين المتخصصين في الدراسات والأبحاث ليس فقط في الوعظ والإرشاد والحديث هنا عن الجالية المسلمة في أوروبا كمثال هل سنظل نفكر فقط في الحديث عن دروس ومواعظ ومحاضرات؟ انتهى؟ لا، حيث ينبغي أن يكون هناك مركز متخصص لدراسة أحوال وحالات والتحولات التي تطال الجالية المسلمة في الغرب؟ وهذا من اختصاص جامعة القرويين، وبالتالي لا يمكنك أن تهيئ وعاظ ومرشدين للقيام بهذه المهمة، إذا لم تبن هذه الأشياء على البحث العلمي، كما يفعل ذلك الكثير من المستشرقين اليوم. حيث توجد هناك مراكز دراسات وأبحاث أوروبية متخصصة في دراسة الإسلام في الغرب؟ وبالتالي تبنى استراتيجيات كبيرة جدا على هاته النتائج.

المثال الثالث والأخير: منظومة التعليم العتيق التي أصبحت اليوم جزء لا يتجزأ من المنظومة التربوية المغربية بسهر متخصصين في التعليم العتيق في تطويره وفي تدبيره بخصوصياته الدينية والحضارية القوية جدا، وبالتالي لحد الان لا توجد مراكز لتكوين متخصصين في التعليم العتيق، هناك المراكز الجهوية للتربية والتكوين التي يتخرج منها أساتذة التربية الإسلامية هذا موجود، ولكن لا، هذه بنية قائمة من التعليم الأولي إلى التعليم العالي، تحتاج إلى خبراء متخصصين في تطوير البرامج، في تطوير المناهج وما إلى ذلك.

خاتمة: سأختم بذكر مثال حيث زرت قبل تولي بذكر مثال حيث زرت قبل تولي المهمة الحكومية، جامعة كوسوفو في البوسنة مبعوثا من طرف منظمة الإيسيسكو للاشتغال على مشروع تطوير التعليم الديني ببوسنة فحينما ولجت إلى الجامعة، وجلس أمامي أساتذة الجامعة وفي إطار التعارف، فوجئت أن معظم الأساتذة الذين يدرسون في الجامعة تخرجوا من المغرب إما من دار الحديث الحسنية، أو من جامعة القرويين، أو من شعبة الدراسات الإسلامية، ففوجئت بهم، وكنت أعرف على أن إخواننا في مصر يهتمون اهتماما كبيرا جدا بتتبع خريجي الأزهر، والأمر نفسه في تونس بالنسبة للزيتونة نفس الشيء، فلم نجد بنية علمية تتابع خريجي المؤسسات العلمية في المغرب لإظهار هذا الإشعاع الكبير جدا بجامعة القرويين بمختلف مؤسساتها للشعب الدراسات الإسلامية إلى غير ذلك..

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى