متاهات الغرائز – بنداود رضواني

حضيت الغريزة منذ وجدت بمكانة مركزية في تركيبة الإنسان، وشكلت مصدرا هاما للعديد من الممارسات التي تنشأ بسبب مثيرات ومنبهات خارجية لا تربطها أية علاقة بالعقل.

ومع ذلك، فتوصيفها يظل غاية في التعقيد والإبهام، أولا: من جهة خفائها وضمور كينونتها مثل الروح والنفس والفطرة…، وثانيا: من جهة احتلالها أحيازا رمادية في الخريطة التكوينية للإنسان وباقي الكائنات الحية….

لذا يبقى شأن الغريزة شأنا محاطا بالعديد من الأسرار ومسيجا بالكثير من الألغاز!!!…

وكلمة الغريزة هاته قد جاءت لغة من الغرز، لذا يقال: غرَزتِ الجرادةُ : أثبتت ذنَبَها في الأرض لتبيض، وغرَز الإبرةَ في الثّوب : أدخلها فيه وأثبتها. والغَرْزُ : المغروزُ في الأرض. أما في الإصطلاح فيعبر بها عن تلك النفسية الشديدة التجدر في كيان الإنسان، والمتمثلة في التعلق بالحياة والرغبة في التملك والولع بالمواقعة وحب قهر الغير والسيطرة عليه…

ومما تستبطنه لفظة ” الوحي ” من المعاني في القرآن الكريم، معنى الإلهام الغريزي، كما في قول الله تعالى ( وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ )، سورة النحل/68. وهذا المعنى تتقاسمه عموم الكائنات الحية، بل في بعض الدراسات الإحيائية نصادف في سلم الإرتقاء الغريزي تفوقا لكوكبة من الحشرات على الجنس البشري !!!.. وإن كان يبدو – هذا الأخير – الأكثر تطورا في مراتب المخلوقات الحية…. عموما وإجمالا.

هذا التفوق النسبي أدى بالبعض إلى ربط الغريزة بالحياة البُدائيَّة قوة وضعفا، ظهورا وضمورا..، من خلال التوسل ببعض الدراسات الأنثروبولوجية الحديثة والتي تفيد: امتلاك المجموعات البشرية البُدائيَّة فعلا غريزيا قويا أكثر من الجماعات البشرية المتحضرة…

لكن الحالة التي عليها الإنسان اليوم لا تذعن لمثل هذه الدراسات و لا تسلم لخلاصات هذه الأبحاث، لأن متاهات الغرائز في ظل سيطرة الحضارة المادية صارت أكثر التواء وامتدادا وأشد إطباقا على الإنسانية من ذي قبل.

لذا فمن الحقائق التي لا يجدر إخفاؤها هي أن القرن العشرين والمشهود له بالإنجازات العلمية والكشوف العقلية الجليلة، والتي توجت ببلوغ القمر، هو القرن نفسه الذي خضعت أحداثه بشكل سافر لغريزة السيطرة والقهر، واستسلمت وقائعه طواعية لسعار العهر والفجور، حتى أضحت هذه الحضارة الأكثر دموية و الأعتى إباحية… في تاريخ البشرية.

ومادام هذا شأن إنسان القرن العشرين، فليس من داع- إذن – للاستمرار في ترديد مقولات من قبيل: أن طور البُدائيَّة يقابل طور التحضر و أن البدائية هي المحضن الأمثل للغرائز !!!..

ومع ذلك، فلربما تقبع هذه الأخيرة في حيز آخر سوى حيز البُدائيَّة، وتتفاعل بصورة أخرى مع بيئة مغايرة للبيئة الحشرية والحيوانية…..، ولم لا ؟ فما ذكره جان جاك روسو في مؤلفه “خطاب في أصل التفاوت وفي أسسه بين البشر”، إنما يعزز هذا الإفتراض، من أن الإنسان حين عاش في الطبيعة – لعله يقصد عاش على الفطرية – كان محبا للخير ومناوئا للشر بامتياز.

إن حالة التيه الغريزي التي تلُفّ المجتمعات الإسلامية وغيرها…إنما ترتبط حقيقة بالعلاقة الواهنة للنفس الإنسانية بوحي السماء، لا ببدائية الناس أو تحضرهم، ولا بجهلهم أو تعقلهم….( قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ )، المائدة/15-16.

والنفس مادامت وعاء للشهوات، وفي ذات الوقت محضنا للخير والفضائل، فالغريزة ستظل إثر ذلك خاضعة لتقلبات النفس وأهوائها، تابعة لها في يقظتها وشرودها، ورقيها وانحدارها…..

لذا فتهذيب النفس وتزكيتها هو أولى الأولويات وأزكى المَهَمّات، تهذيب يستهدف الإصغاء إلى تعاليم الوحي، واستعادة فطرية الإنسان والخِلْقَة الأولى التي جبل عليها أبناء آدم، أما وأن تكون المقاربة خلاف ذلك، عبر مصادرة الفعل الغريزي أو تكبيله فسيفضي بالنفس حتما إلى المزيد من التوترات والمنغصات، هذا إن لم يفجرا حربا لا تبقي شيئا من إنسانية الإنسان ولا تذر….

مصداق هذا القول ما عليه الرهبنة الكاثوليكية والأرثوذكسية من تقييد للغريزة الجنسية والمطالب الجسدية، والتي أفضت بالقساوسة إلى حمى جنسية وفضائح أخلاقية مقيتة. قال جل جلاله ( ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ )، الحديد /27.

ويوما بعد آخر، وأمام هذه الفضائح المتتالية التي تعج بها ردهات الكنائس، يظل السؤال السائد دون إجابة – للأسف – حول: أيهما أولى بالتصدي والمواجهة، متاهات الغريزة أم فضائح الرهبنة؟

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى