ما بين التعليم الحضوري والتعليم عن بعد – سعيد طلبي

كان الدخول المدرسي لموسم 2020-2021 دخولا استثنائيا على مستويات مختلفة وبمقاييس عدة، بسبب جائحة كورونا.  فبالنسبة للآباء، وعلى سبيل المثال، وجدوا أنفسهم، فجأة، أمام خيار التعليم الحضوري أو التعليم عن بعد.

هب الآباء واستعدوا، وفكروا وقدروا، واتخذوا القرار، فمنهم من اختار التعليم الحضوري لأبنائهم رغبة في تعلمهم بشكل أفضل وعيشهم أجواء التعلم في المؤسسة ومرافقها … ومنهم من اختار التعلم عن بعد حرصا على صحة وسلامة أبنائهم و خوفا عليهم من الوباء.

يبقى القاسم المشترك بين جميع الآباء هو الحرص على مصلحة الأبناء والخوف عليهم من كل سوء ومكروه سواء أكان هذا المكروه جهلا أو نقصا في التعلم أو مرضا …ولاغرو في ذلك فالمسألة فطرية طبيعية، لأن الأبناء نعمة من الله تعالى، وزينة الحياة، وثمرة القلب ، ومبعث البهجة والسرور. وقد عبر القرآن الكريم عن ذلك في سورة الكهف بقوله سبحانه (المال والبنون زينة الحياة الدنيا ) .

ومع ذلك، وجب التنبيه هنا والاحتياط من مسألة يقع فيها مجموعة من الآباء وهي المبالغة في الخوف على الأولاد، وتدليلهم والتكلف الكبير في توفير كل ما يطلبونه من ماديات الحياة المقدور عليها وغير المقدور عليها من مأكل ومشرب وملبس ومركب ومن أسباب الترفيه، والحرص على تأمين مستقبلهم …إلى درجة أن البعض لم يعد يميز، في ذلك، بين الطرق المشروعة وغير المشروعة ، لم يعودوا يبالون أتم ذلك برشوة أو بنصب واحتيال أو بقروض ربوية  ….المهم هو تلبية حاجيات الأولاد التي لا تنتهي ؟ ولقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا الواقع وعبر عن ذلك في هذا الحديث الشريف :” الولد ثمرة القلب، وإنه مجبنة  مبخلة محزنة ” :

  • مجبنة : تجعل الإنسان يسكت عن النطق بكلمة الحق ، ويسكت عن باطل ومنكر ، وقد يتعرض للذل والحط من الكرامة فيغض الطرف خوفا من أن يلحقه سوء أو يلحق ولده ؛
  • مبخلة : تدفع الإنسان إلى البخل عن الإنفاق في أوجه الخير والإحسان ، وقد لا ينفق حتى على والديه وأقاربه ، كل ذلك لكي يلبي مطالب الأولاد الكثيرة ؛
  • محزنة : فإذا مرض الابن أو أصابه مكروه امتلأ فؤاد أبيه حزنا وشفقة عليه .

والغريب في الأمر أنه، ومع هذا الحرص والتكلف، أصبحنا نلحظ تفشي ظواهر سلبية دخيلة على مجتمعنا كعقوق الوالدين وتعنيفهما معنويا بل وحتى جسديا، لا قدر الله، والتقصير في واجبات الطاعة والإحسان إليهما. أصبحنا نلحظ انحراف الأبناء وشيوع ثقافة اللامسؤولية واليأس والتفاهة والخواء العقدي والهزال الفكري. الكثير من أبنائنا تعوّدوا على الرخاوة والاتكال على الآباء في كل شيء تقريبا حتى وهم كبار، لا يقدّرون حق النعمة، ولا يعلمون قيمة وقدر المجهود المبذول من طرف الأسر. العديد من الأبناء لم يعودوا يتحمسون للدراسة وتحصيل العلم، والنتيجة هي الفشل والهدر المدرسيين وبالتالي ضعف المستوى وضيق الأفق …إلى غير ذلك من النتائج التي أصبح المجتمع يجنيها بسبب الاهتمام الكبير بالجانب المادي على باقي الجوانب وعدم التوازن في أساليب التربية.

مابين التعليم الحضوري والتعليم عن بعد الذي تتولاه المؤسسات التعليمية، هناك تعليم آخر يقع على عاتق الأسرة بالدرجة الأولى . في الأسر ينبغي أن نعلم الأبناء، وبشكل مستمر، الارتباط بالله والتوكل عليه وخشيته ومراقبته والقيام بأوامره ونواهيه، ينبغي أن نعلم أبناءنا ونربيهم على سلامة عقيدتهم وحب الوطن والحفاظ على ممتلكاته ومقدراته، وحب العلم والسعي لطلبه واحترام الأساتذة والمربين.

في الأسر نعلم أولادنا الحرص على سلامة ونظافة أجسامهم، وعلى تبني القيم الإيجابية كالتفاؤل وحب الخير والمبادرة لفعله والجدية وعدم الاتكالية …إلى غير ذلك من العلم النافع الذي يستمر نفعه ويدوم أثره ويِؤتي أكله في الدنيا والآخرة بإذن الله. وأحسب أن بمثل هذا يكون الخوف الحقيقي على الأولاد من المكاره ويكون الحرص الكبير على حاضرهم ومستقبلهم.

أختم بواقعة قد تلخص ما سبق ذكره : دخل مقاتل بن سليمان (وهو من العلماء ) على المنصور يوم بويع بالخلافة ،فقال له المنصور : عظني يا مقاتل .فقال أعظك بما رأيت أم بما سمعت ؟ ! قال : بم رأيت . قال يا أمير المؤمنين …عمر بن عبد العزيز أنجب أحد عشر ولدا وترك ثمانية عشر دينارا،كًفّن بخمسة دنانير، واشتُرِي له قبر بأربعة دنانير ووُزِّع الباقي على أولاده، وهشام بن عبد الملك أنجب أحد عشر ولدا، وكان نصيب كل ولد من التركة مليون دينار، والله يا أمير المؤمنين لقد رأيت في يوم واحد ولدا من أولاد عمر يتصدق بمائة فرس في الجهاد في سبيل الله، وأحد أولاد هشام يتسول في الأسواق !!

 

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى