“كورونا” وانتظار المجهول – عبد الرحيم مفكير

لم نكن بهذا الضعف النفسي أكثر من اليوم، ليس لأن فيريس كورونا قاتل أو مخيف فحسب، بل لأنه لا أحد كان يدرك حجم التنبيهات والتوجيهات النبوية في إحياء القلب الميت الذي لا يذكر الله ولا يدرك أن حياة الإنسان غير ممتدة في المكان وزائلة في زمان محدود، بعمر ما بين الستين والسبعين. كم سخر كثيرون من أقوال تنبهنا إلى عدم انتظار الصباح ولا المساء ” إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء” نخفي التفكير في عالم آخر نجهل عنه كل شيء إلا ما نقرؤه في نصوص شرعية، هم وحدهم المتدينون المعتقدون والموقنون بعالم آخر غير عالمنا الدنيوي، من يدركون في قرارة أنفسهم بوقوفهم أمام خالق رقيب وحسيب، يسمعون صوت ” أقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا” هنا بداية النهاية.

انطلق الوجود بعد انبعاثه من تسخير الكائنات لخدمة الإنسان الذي ميزه الله عن باقي الخلائق بعد أن أودع فيه أسراره ونفخ فيه من روحه، بالعلم ” وعلم آدم الأسماء كلها” ولم تستطع الملائكة التي حق لها أن تسأل الإجابة عن سؤال رب العزة ” سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا” وكان كشف السر ” أنبئهم بأسمائهم ” سبحان الخالق الذي علم الإنسان ما لم يعلم.

بكلمة “اقرأ ” انطلق النور من غار حراء ليضيء درب التائهين، ويبعث أمة من سباتها، ويجعلها خير أمة أخرجت للناس، بعد أن أمرت بالمعروف ونهت عن المنكر وآمنت بالله. فاجتمع لها بناء الإنسان والعمران وفتحت الآفاق، وحققت من الرفاه والرخاء ما لم يصله الأوائل، وانفتحت على باقي الحضارات الإنسانية ونهلت منها، فكانت لها السيادة، لكنها لما حادت عن الطريق السوي والمنهج القويم، أصابها الوهن وانتهت وتراجعت وأصبحت تابعة، فالمغلوب تابع للغالب بلغة ابن خلدون.

ولما انبهر الناس بما حققه الغرب من تقدم علمي وتكنولوجي نبه العقلاء إلا ضرورة بناء الإنسان موازاة مع بناء العمران، وبدأ المستضعفون والمنبهرون بما حققته الأمم الأخرى من تقدم يتمنون أن ينهلوا مما نهلوا، لكنهم أخطأوا الطريق فاعتبروا أن توفير المدنية وبناء العمران كاف للتقدم من تجهيز الطرقات وبناء المصانع وغيرها وتلبية طلبات اللذة لدى الإنسان، وبدأ “موت الإله” ليحل محله ” الإنسان الإله” هي مركزية الإنسان في فلسفة الغرب، لكن بقي العالم الآخر لغزا محيرا.

وتحركت آلة تدمير إنسانية الإنسان، فكرا ومادة، وأصبح الإنسان الشهواني حاضرا بقوة في منظومة استهلاكية، تلبي ملذات النفس وشهواتها دون ضوابط” زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والحرث..” ولتحقيق متطلبات اللذة كان لا بد من توفر المواد الأولية والتحكم في الاقتصاد، والسيولة، وعدم السقوط في الحاجة والفاقة، ولجلب الذهب الأسود تم إسقاط أنظمة واستثمار بلدان تحت مسمى محاربة الإرهاب، فتشكلت دول إرهابية لا تبقي ولا تدر، استعملت كل أسلحة الدمار لقهر الإنسان وتطويعه.

وكان العالم الإسلامي ومنطقة الشرق الأوسط ضحية سياسات الاستكبار العالمي، فبقيت فلسطين محاصرة وفي “غيتوات” تمارس عليها كل أنواع العسف والظلم والإبادة، وتجرب فيها أسلحة الدمار الشامل بما فيها الأسلحة الكيماوية، ومعها سقطت بغداد بعد كابول التي استهدفتها الإشتراكية غير العادلة والرأسمالية المتوحشة، وجعلتها خرابا حبا في بحر قزوين، وما يخفيه من ذهب أسود، وتلتها دمشق التي هي بؤرة للتوتر بعد لبنان، وولدت من رحم الحرب إرهاب الدول ” داعش” بعتاد لا تملكه دول قائمة، وفتحت لها الطرق لتأسيس دولة وهمية في بلاد العراق والشام،  ولم يعلم أحد إنها أطلقت رصاصة واحدة يتيمة على الكيان الصهيوني، وتم تفكيك ليبيا وجلب “خفتر” لكي لا يبقي ولا يدر، والغاية رسم خريطة جديدة لأربع دويلات ببلد “عمر المختار”، وأريد للمغرب العربي أن لا تقوم له قائمة، ويعشش فيه كيان مزعوم ” البوليساريو” على أرض جارتنا التي تناست تضحيات مقاومين مغاربة أيام الإستعمار الفرنسي، قدموا الغالي والنفيس من أجل استقلال جارة النسب والدين، والتي أريد لها أن تكون فرنسا الثانية، بدءا بمعركة إيسلي ودعما للمقاومة الجزائرية بالسلاح والعتاد والرجال.

كما تم إجهاض ثورة الياسمين وتجربة الإسلاميين، والانقلاب على الشرعية في مصر الجريحة، وقتل الرئيس الشرعي، وتقلد الجيش زمام الأمر لإرضاء الجارة اللقيطة، وحصار أهل الإباء والعزة ” غزة” المحاصرة والممانعة والعصية عن الطوع، إنها سياسة التجزيء وتفكيك المفكك وتجزيء المجزء، وخلق شعوب القطيع. هو مسار للإبادات الجماعية منذ أن طغى الرجل الأبيض واستأسد، وقتل وشرد الهنود الحمر وجلب السود لخدمته، وميز الناس على أساس اللون، وناضل السود من أجل حقهم في الوجود، في دولة عظيمة تتبنى ديمقراطية مميزة لبني البشر، ومن أقصى جنوب إفريقيا مكث مانديلا أكثر من 25 سنة في سجن سحيق وأزهقت آلاف الأرواح للمساواة والحرية والعدالة، وسقطت الأبارتايد، وفي جبال الريف استعمل المستعمر الإسباني مستعينا بالفرنسي والألماني كل أسلحته حتى الكيماوية منها، مازال أبناء الحسيمة يعانون منها حيث تسجل أكبر نسبة مرضى السرطان.

هي هكذا آلة الدمار، وسياسات الإبادة أمام مرأى عدالة كاذبة للأمم المتحدة ودول الاستكبار، كوسوفو وسبيرينتشا وسرايفيو لم تعد أوربية لأنها اختارت نداء الله أكبر وولت وجهها قبل الكعبة، وخرج منها كتاب ” الإسلام بين الشرق والغرب” فاستعملت فيها نعرة المسيحية الصليبية وكسرت عهودا من التعايش الإنساني بين الصرب والبوسنة والهرسك وغيرهم من الإثنيات، وتم تدمير بلدة صغيرة أمام أقوى رابع جيش في العالم بعد موت تيتو، إنها الشيوعية بدءا التي حاربت رجعية الإسلام وتلتها آلة المسيحية المقيتة القاتلة.

من هنا وهناك عالم يعج بالحروب والتي كان أخطرها الحرب الكيماوية والجرثومية. ولما تنبهت السينما وقبلها الرواية إلى خطر الإبادة التي سخرت لها الجيوش بالعاصمة الجزائر وجبال الريف وليبيا عمر المختار وفلسطين السلبية، وإفريقيا المنكوبة والهنود الحمر الحضارة الإنسانية، وتلتها سوريا التراث الإنساني واليمن، كتب ألبير كامي” الطاعون” وغابريال غارسيا ” الحب في زمن الكوليرا” ونبهت أفلام إلى إمكانية نهاية العالم على يد فيروس خفي يتخذ أشكالا وتعابير مختلفة. قد لا يكون بحدة كورونا ولكنه ينذر بزمن مظلم ونهاية غير مرتقبة. واستهان البعض بخطورة الوافد الجديد، حتى حين، فتوالت سقطات الطب والعلم وحيرة الخبراء أمام كائن غريب قيل إنه جرثوم صنع في معامل الاستبداد واستغلال الإنسان، بعد شهور توقف نبض الحياة، وبدأ التفكير في السنن الكونية، لم تعد بلدان بعينها أريد لها أن تكون محاصرة من طرف قوى الإستكبار، بل هي دول وقارات حوصرت وفشى في الناس خوف لا مثيل له.

وأحصت البشرية ضحاياها بالمئات والآلاف، وتبددت وحدة دول أوربا ولم يسعفها تقدمها وقوتها في إنقاذ إيطاليا ولا نفسها، وتبخرت في سماء الدنيا كل الملاهي الليلية والفنادق الفخمة وتوقفت الحياة إلا من أخبار عن وجود بوادر الإنفراج هنا وهناك، واقتراب صنع ترياق يعيد للحياة بهجتها، وتمنى الناس الأماني، فكان لزاما أن يصمد أهل الإيمان لمعرفتهم بالسنن الكونية الناظمة لسير الوجود.

كانت البدايات بالطغيان والظلم والاستبداد “وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا”، كلما تأله الإنسان أصبح شيئا غير مذكور وعلم بضعفه وعدم قدرته في مواجهة التحديات.

اليوم يعيش العالم خلوة روحية في تأمل الذات ومحاسبتها ومعرفة زللها وكبريائها وتكبرها، لم يعد لها إلا ” وأن لربك الرجعى” و” للآخرة خير لك من الأولى” علم الإنسان ” يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك..” ولجأ إلى محراب الروح وتذكر سبحته واعترافه بتقصيره وأن الموت أقرب له من حبل الوريد.

لم تعد لمعاني الغطرسة والجبروت قيمة، ولا اللذة وسجن النفس للشهوانية سبيل لإنقاذ الإنسان من حيرته الكبيرة والرهيبة، عادت للبشرية إنسانيتها في إحياء قيم المحبة والخوف والرجاء وانتظار تفريج الكربات والإكثار من الدعاء سرا وعلانية، وتذكر نعم الله ” وأما بنعمة ربك فحدث” وعلم الإنسان ” نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ” وقرأ بتدبر ” فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف” و ذكروا ” واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم..” ائتلاف الأرواح الجنود المجندة ورجوع الإنسان إلى  إنسانيته وفطريته الأولى التي أفسدتها النفس الأمارة بالسوء وغرتها بالأنانية وغواية الشيطان ورفاق السوء.

 قيم اليوم حول اجتماع الناس وحرمانهم الاضطراري من محارب الصلوات والنجوى، منهم من منع بيوت الله ” آرايت الذي ينهى عبدا إذا صلى..” في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها الله ” اليوم يتمنى الناس الأماني في الرجوع إلى حياتهم العادية بمساوئها، يسمعون الآذان ويتمنون تلبية النداء بعد أن صدوا عنه قبل صدودا ” حي على الصلاة حي على الفلاح”، سخر بعضهم من دروس الطهارة واليوم يرجع للطهارة بمعنى الظاهر مرغما، وهو ينسى أو يتناسى أن للطهارة معاني ظاهرة وخفية، أما طهارة الإنسان فخص لها الفقهاء بابا في مقدمات كتب الفقه مستنبطين مقاصدها وغاياتها وأركانها وواجباتها ومستجباتها وسننها ومكروهاتها، واليوم يحتاجون إلى طهارة أخرى هي طهارة الباطن، فمعنى الطهارة طهارة النفس من الحقد والكراهية والضغينة، وهي ضد الفساد بكل تجلياته” أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون”، وفي زماننا أباح قوم زواج المثليين وكانوا أفضع من قوم لوط في كبريائهم وعلوهم وانحرافهم عن فطرة الإسلام، طهارة من البخل ” خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها”، طهارة لبيت الله ممن يتجبر ويطغى ” وطهر بيتي للطائفين والعاكفين ” وتحريمه على أهل الشرك والنجاسة” إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا..”

إنها طهارة في معانيها السامية لا تميز بين بني البشر كلهم من آدم وآدم من تراب التفاضل بينهم ليس على أساس اللون والجنس والنسب وإنما ” إن أكرمكم عند الله أتقاكم”، عالم ما بعد كورونا يعيش فيه الناس بحرية ولا إكراه ” لا إكراه في الدين” فمن شاء فليومن ومن شاء فليكفر” لكل حقوق وواجبات والخط الأحمر إباحة دم البشر ” لا يحل قتل امرء…” ” كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه” مجتمع نتعايش فيه الناس باختلاف معتقداتهم وتصوراتهم.

العالم اليوم ينتظر الفرج القريب في أن يجلي الله ويزيح البلاء والابتلاء، وأخوف ما يخاف العاقل أن يرجع الإنسان بعد الإنفراج إلى سابق عهده في سجن نفسه لشهواتها ولذاتها غير عابئ بما مر من التنبيهات.

إنها وقفات حقيقية وسفر للتأمل في مصيرنا المحتوم وإعادة ترتيب بيوتنا والارتقاء بتزكية أنفسنا وتطهيرها من الدنس العالق بها ومعرفة ” أن لا ملجأ من الله إلا إليه” فقد عجز العظماء والأقوياء والمتغطرسون عن مواجهة فيروس كورونا الصغير الحجم القبيح الأثر المدمر للإنسان.

ولا نملك إلا ” ادعوني أستجب لكم”.

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى