كافي يكتب: مسك الختام بعد نهاية الانتخابات

عاد الناس إلى قواعدهم سالمين غانمين، وآثمين موزورين. على سنته في خلقه وأعمالهم في هذه الحياة، بين:” ‌فبائع ‌نفسه، فمعتقها أو موبقها”( ).

وأختم سلسلة ما بدأته بمقالة اليوم، راجيا أن ينفع ربي بها صاحبها ومن شاء من القراء.

الغانمون:
ـــــــــــــــ
والغانم هو من أدى الشهادة لله، لم يخن بلده في الشهادة له، على أي لون من الألوان ذهب صوته، إذا أداه اجتهاده الصادق إليه.
والغانم السالم أيضا من لم يؤد الشهادة التي دعي الناس إليها، لأنه اعتقد والصدق يملأ قلبه أن الخير في عدم التصويت بالمرة.
التعساء:
ـــــــــــــــ
وبقي التعساء الحقراء، الذين وضعوا شهادتهم في المزاد لمن يدفع، أو جعلوها فيمن يعلمون أنه لا يستحق، فأكلوا سحتا، أو مارسوا زورا، وورطوا البلاد بأن اختاروا لها الساسة المرتشين ومفسديها.
السياسة دين:
ـــــــــــــــــــــــ
والسياسة جزء من الدين، وسنبقى نقول في الناس: إن دينكم ما فرط كتابه في شيء من أموركم، فاعتنى بالعبادات والمعاملات…واعتنى بالسياسة الشرعية، لإصلاح أحوال الراعي والرعية.
السياسة ليست هي الدين:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وليست السياسة هي الدين. ليست هي كل شيء. بل لها نسبة محترمة في دائرة الاهتمامات. فإنه يوجد إلى جانبها: العلم، والتربية، والدعوة، والثقافة، والفكر…الخ. وافتعال التعارض بينها ليس من عمل العقلاء.
فلا يتعارضون البتة فيما بينهم، بل يشذ بعضهم بأزر بعض، وينتفع بعضهم ببعض.
وإذا زاد منسوب الاهتمام بالسياسة هذه الأيام، فشيء جميل غير منكور، وليس من التضخم في شيء كما يخيل للبعض أو يروجونه. لأن الموسم يزاد فيه في الوقت والاهتمام لأنه موسم…فإذا انتهى اليوم موسم الانتخابات، فعلى الأحوال أن تعود إلى طبيعتها بعد نهاية ما أهم الناس.
مشاركة العلماء:
ـــــــــــــــــــــــــ
ومن أعظم الأعمال أن ينخرط أهل العلم وطلبته في الشأن العام: كتابة، وإفتاء، وممارسة، وتنظيرا، وتقويما…الخ.
يُرَشِّدون بحضورهم هذا المجال، ويرفعون عن ذمتهم التقصير بأداء الواجب عليهم في حق وطنهم.
ومن مفاسد ما تعرضت له أمتنا إبعاد أهل العلم عن الشأن العام، أو فرضهم الإبعاد على أنفسهم، ولو بالتسديد كتابة وتحريضا على الخير.
ويزداد في رأيي ـ والله أعلم ـ إثم ابتعاد العالم عن شأن بلده وهو يرى الناهبين الكبار يتسابقون على النهب، ويرى الخيانة الغليظة لا يستحيي الخائنون من التورط فيها…ثم هو ينأى بنفسه أن تكون له مساهمة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بحجة الحفاظ على الهيبة والوقار.
الأمر بالمعروف ليس وجهته للبسطاء من عباد الله فقط، ممن يتحلقون حول مائدة درسك أو وعظك. فإنه هو هذا، وهو إلى جانبه يجب أن يتوجه لكبار الناهبين، فإن لهم فيه حق ونصيب، أو تحذير الناس منهم.
والحفاظ على الهيبة والوقار لا يعني الحياد واللياذ بالصمت. فلا أعلم في الشريعة أن السكوت عن الحق شريعة.
بين المقاطعة النافعة والعابثة:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأعتقد جازما أن المقاطعة الفردية لا معنى لها، ولا خير يرجى من ورائها مهما كان عدد المقاطعين.
كما أعتقد أن المقاطعة التي تتولاها المؤسسات والهيئات المحترمة لها عظيم الأثر. وفي بلدنا وجدت هذه وهذه، وكان الملك الراحل يقلقه كثيرا مقاطعة الهيئات، ودخل معهم في اتصالات ماراطونية قوية، حققوا بها بعض ما أرادوا…لكن للأسف ضاعت منهم مطالب أخرى، لأن أحد الرموز الكبيرة، على رأس هيئة كبيرة خان أصحابه، وكسر قوة هذه المقاطعة، فتم التراجع عن بعض المكتسبات الهامة في الشأن العام المغربي(أنظر مذكرات زعماء هذه المرحلة). وكان رحمه الله لا ينزعج من المقاطعة الفردية، لأنه على يقين أنها لا تزعجه، ولم تزعج أي نظام في الشرق أو الغرب، أقصى ما سيقع أن توضع أصواتها ضمن سلة المقاطعين وتحسب هناك، والكلام مع الحاضرين وليس مع الغائبين.
الزجر بالهجر:
ــــــــــــــــــــــ
ويشبه هذا العبث في المقاطعة الفردية، ما يقول به بعضهم بلزوم هجر أهل المعاصي من غير قيد شرعي. والمحققون من أهل العلم، ذكروا أن الهجر إذا كان سيتحقق معه المصالح فقد لزم، أما إن كان سيزداد السوء والفساد معه، فلا.
فالمقاطعة معتبرة إذا كان مآلها إلى تحقيق الخير والنفع. وما عدا ذلك فهروب من تحمل المسؤولية.
القواعد الفقهية خالدة تالدة:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لا تتعلق بتقدم حزب أو تأخره، ولا بالمجال السياسي دون غيره، ولا ببلاد المسلمين وحدهم…بل هي حاكمة على تصرفات الناس، ومن هذه القواعد التي أشبعنا القول فيها:
** اختيار الأصلح عندما نجد أنفسنا أمام الصالحين.
** اختيار الصالح عند وجودنا أمام الصالح والفاسد.
** اختيار أقل الفاسدين سوء عند وجودنا أمام المفسدين.
بهذا قال علماؤنا، وقرروه لنا، فقالوا: يرجح خير الخيرين بتفويت أدناهما، ويدفع شر الشرين بالتزام أدناهما. وغيرها من قواعد هذا الباب.
ولسنا بتاركي هذه القواعد لأمزجة الناس، أو لسخطهم وغضبهم. وإذا ضاع حزب، أو عوقب، فلن نترك قواعدنا الفقهية له.
بعض أصحابنا:
ـــــــــــــــــــــــــ
أعلن أنه سيصوت في الانتخابات المحلية، لأنه رأى بنفسه ما تحقق من الخير والمصالح. ولن يصوت في الانتخابات التشريعية لأن مفاسد القوم ظاهرة.
هؤلاء الأصحاب للأسف الشديد يعملون ببعض القواعد، ولا يلتفتون إلى القواعد المرتبطة بها. إن هذه القواعد السالفة، جميعها حزمة لا ينفك بعضها عن بعض، بل يأتي بعضها إثر بعض. هكذا صرح علماؤنا وأثبتوا ذلك.
لكن أصحابنا قرروا أن يكونوا مع خير الخيرين، وهم منزعجون من إعمال أهون الضررين والشرين. فلهذا كنت مشمئزا من مثل هذا الصنيع.
الاختلاف:
ـــــــــــــــــ
قد نختلف في الأشخاص أو الهيئات…أيهم أهون الضررين. وهذا معقول ووارد، ومقبول شرعا وعقلا. أما وأن نختلف في أصل القاعدة، وفي إعمالها، فهذا الذي أسميته ب: العبث.
أي أنا فقط مع المغانم، ولست مع المغارم.
لا، يا سادة: الغنم مرتبط بالغرم. وخير الخيرين مرتبط بأهون الشرين. وإعمال خير الخيرين ليس بناف لإعمال أهون الشرين عند الاقتضاء.
لا عتب:
ـــــــــــــ
وبعض إخواننا كانوا منطقيين في احترام قواعد السياسة الشرعية، فأعلنوا أنهم سيُعملون هذه القواعد، وأن أهون الشرين عندهم هو الرمز الفلاني، وليس الرمز الفلاني.
هؤلاء على هدى من صنيعهم، احترموا القواعد، وأسلمهم احترامها عند إعمالها إلى هذا الاتجاه أو ذاك.
لا يضر والحمد لله بوصلة توجه إعمال القاعدة، وإنما الذي يضر هو التنكر لها عمليا.
الإصلاح والمصالح:
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأكدت الانتخابات ما كان مؤكدا من أن مزاج بعض الناس مرتبط بمصالحهم، ولا تتعلق همتهم بالإصلاح ومسيرته، وغير مستعدين لأداء تكلفة الإصلاح.
وهذا التأكيد ليس جديدا، في ظل الفقر والهشاشة الماديين والمعنويين.
ولكن أن ينضاف إلى هؤلاء بعض المرتبطين بالفكرة الإسلامية، فترى في أقوالهم ودفوعاتهم وتعليلاتهم نزوعا إلى القضايا المادية..
فهذا شيء جديد.
الاقتصاد الإسلامي:
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
حدثني خبير في الاقتصاد وهو مسؤول في مؤسسة مالية مغربية كبيرة، أن ارتباط الناس بالاقتصاد الإسلامي كما تريده النخبة التي رفعت مبشرة به، لا تتفق مع الجمهرة العريضة من الناس عمليا.
وأكد لي أن البنوك التشاركية تعيش أزمة خانقة، لأن هؤلاء الذين يتكلمون عن الاقتصاد الإسلامي لم يحولوا حساباتهم إليها، ولم يضعوا أموالهم فيها بل تركوها في المؤسسات الربوية..
أكد لي صاحبي والمرارة تعتصر قلبه أن الناس غير مستعدين لإزعاج سلوكاتهم، وأداء تكلفة ما يؤمنون به. وإن لكل مطلب وشعار – يا صديقي – يرفعه الناس كلفة شاؤوا أم أبوا. وإلا بقي كلامهم إن ضنوا بالأداء كلاما ومتمنيات.
المحاسبة حق:
ــــــــــــــــــــــــــ
ومحاسبة الأحزاب حق لكل الناس، بل قد ترتقي عندي إلى الواجب. حتى ترهب هذه المؤسسات جمهور الناس، وتتنافس في خدمتهم.
العقاب حق:
ــــــــــــــــــــ
وإذا قرروا معاقبة أي شخص، أو أي حزب، فهذا أيضا حقهم. وعلى الهيئات التي تقدمت فتراجعت أن لا تعلق تراجعها على أحد. صحيح أن الإكراهات والمعيقات كثيرة. ولكن العقلاء هم الذين يجتهدون في اتهام أنفسهم أولا، حتى يجتهدوا في إصلاحها.
والخير أمام المصلحين لم يضع وقته إن شاء الله تعالى.
البلطجة والرشوة كبائر الإثم:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن توسل لتحقيق وجوده في مؤسساتنا بالبلطجة والرشوة.. وغيرهما من خسائس الأعمال، التي لا يقرها شرع، ولا يعترف بها قانون.. فمن كبائر الإثم وجرائمه في حق البلاد والعباد. نريد أن نرى حسابا وعقابا بعيدا عن استعمال كبائر الإثم والموبقات.
ولا أنتظر خيرا من هؤلاء المجرمين.
والأيام بيننا تصدق ذلك أو تكذبه.
في الأخير كلمة:
ـــــــــــــــــــــــــــ
كان هذا ما عندي في موضوع هذا الأسبوع، ساهمت به أداء لواجب، وتحملا لأمانة. وحيث انفض سامر الناس، فإنا عائدون إن شاء الله تعالى إلى ما كنا نتكلم فيه، متوقفون عن موضوع الانتخابات. والله من وراء القصد، وهو الهادي عباده إلى سواء السبيل.

الدكتور أحمد كافي

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى