فضل شعبان وحسن استقبال رمضان
شعبان شهر الخير والبركة بين رجب ورمضان، شهر يغفل عنه الناس لكونه بين شهر محرم وهو رجب وشهر فضيل وهو رمضان، وهو – لو علموا – فهو فرصتهم الحقيقية لتكوينهم وتأهيلهم وتسليمهم إلى رمضان في أحسن حال، وبعد تأهيل نفسي وتربوي واجتماعي شامل ومتكامل، وهو تأهيل ضروري لكل منا، وما تلك النتوءات التي تظهر على كثير منا خلال رمضان من فتور وعياء عن العمل والعبادة.. ومن توتر وإسراف في استهلاك الطعام حد الاستدانة والبدانة..ومن تخمة فظيعة وسهر مجاني ونوم ثقيل..ومن..ومن..ومن..، إلا لغياب هذا التأهيل أو على الأصح ضعفه. ترى كيف للمؤمن في هذا الظرف الوبائي العصيب أن يؤهل نفسه وأهله لهذا الشهر الطيب المبارك وما دور شعبان في ذلك؟
1 – في الجانب التربوي:
قالت عائشة رضي الله عنها:”ما رأيته (ص) أكثر صياما منه في شعبان”، ولما سئل عن ذلك (ص) قال:”ذاك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم”. رواه أحمد. يعني أن رسول الله (ص) كان يحاسب نفسه، وكانت الطاعة قربانا له بين يدي أعماله إلى الله سبحانه وتعالى، وكان أهم ما يتعبد به (ص) في شهر شعبان هو الصيام، صيام نفل يستقوي به المرء على صيام فرض في رمضان، وذكر عن الصحابة رضوان الله عليهم أن بعضهم كانوا يغلقون دكاكينهم وهم يستعدون لرمضان أشهرا عدة قبله ويعيشون بأفضاله عليهم الباقية الباقية، وكانوا يعيشون خلال هذا الاستعداد مع القرآن الكريم تلاوة وحفظا ومراجعة، ومع ما يصاحب القرآن الكريم من الصلاة والقيام وعمارة المساجد، والذكر والدعاء ف”اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا رمضان”، وغير ذلك من مأثورات الصباح والمساء و الاستغفار، التي ولاشك يفتر عنها الكثيرون.
ومعلوم عن العبادة في أي شهر كانت لابد لها من أن تكون خالصة لله وصوابا على الشريعة، من هنا حاجتنا في هذا الشهر المبارك شعبان على مزيد من التدريب على إخلاص النية لله في أعمالنا وسلامة الصدر اتجاه الناس في معاملاتنا ،والتفقه في الدين لمزيد من الخشية والتزكية ومعرفة الأحكام والفضائل.
ما طموحنا في رمضان وماذا نريد أن نحققه أو يلزمنا أن نحققه فيه، وبالأخص ما خطتنا لتحقيق ذلك حتى نكون من المتقين مصداقا لقوله تعالى:”يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون”البقرة / 183. فهل نطمح إلى ختم القرآن خلاله؟ هل نعزم المواظبة على صلاة الجماعة والقيام مع الإمام أثناءه؟ هل سنصحح فينا سلوكا سيئا كهجر القرآن الكريم، والتخلف عن صلاة الجماعة في المسجد، أو التعاطي للتدخين أو الإدمان المجاني على مواقع التواصل.. أو التقاعس عن القراءة وممارسة الرياضة، وغير ذلك مما إن ألفناه واستمرأناه قد يضيع علينا فضل رمضان إيمانا واحتسابا وهو فضل الأفضال، قال تعالى:”قل بفضل الله وبرحمته ، فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون”يونس/58.
2 – في الجانب الاجتماعي:
جرت العادة والمواطنون في كل شعبان واستقبالا لرمضان – في اعتقادهم – يتنافسون في تهيء الأكلات الخاصة بالشهر الفضيل وبكميات وكميات في البيوت والمحلات، ويتسابقون في اقتناء العطور والبخور والهدايا وتفصيل الألبسة الخاصة والمكلفة لهم ولأزواجهم وأبنائهم، وبشكل محموم وهيستيري أحيانا، حتى أن رمضان – كما يقال – تساءل يوما هل أصبح الناس كلهم أغنياء ولهم من السيولة ما يكفي، فأخبره شعبان بأنهم إنما يستدينون من أجلك يا رمضان من الأبناك، ويرهنون ممتلكاتهم لدى وكالات القروض، ومجوهرات نسائهم لدى المجوهراتيين، الذين يوهمونهم بالتوسيع عليهم شهرا ليلفوا على أعناقهم وأرزاقهم حبال الضيق والهموم بقية الشهور كلها.
الاستعداد لرمضان يا سادة، هو التخلص من هذا العبث إلا بالقدر الضروري الذي يخلص المواطن من هموم الاستدانة والاستهلاك المفرط والتباهي الاجتماعي، بما يفرغه للعبادة في شهر العبادة عله يتوب في شهر التوبة وينال الغفران في شهر الغفران، هو التدرب نفسيا وعلميا وعمليا على التصدي لما قد يتعرض له في رمضان من توتر واستفزاز وسباب وشجار إن رد عليه بالمثل أفسد عليه صومه، هو الجرأة على التخلي على الضغائن والشحناء والغيبة والنميمة التي تأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب، هو التعود على تفقد أحوال المساكين والمحتاجين والتكافل معهم قدر المستطاع، خاصة في هذه الظروف الوبائية الحرجة وتعدد وسائل التضامن، هو المشاركة في مشروع قفة رمضان وكسوة العيد وإفطار الصائم في بيوتنا أو مع أصحاب المقاهي أو جمعيات المجتمع المدني الخبيرة، هو التفكير في أشكال صلة الرحم المعلقة بالعرش تقطع من يقطعها وتصل من يصلها، وغير ذلك مما يجعل شهر رمضان فعلا، شهر الجود والكرم والخير والبركة، على سنة رسول الله (ص)، وقد:”كان أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان”متفق عليه.
شعبان وتحويل القبلة مع الدكتور محمد شاكر المودني |
3 – في الجانب الدعوي:
وأكيد أن الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، وإرشاد الناس إلى الخير، والعمل لهذا الدين والتمسك به، واجب شرعي فردي وجماعي حسب العلم والفقه والموقع والإمكان، وينبغي أن يكون لهذه الدعوة حظ في هذا الشهر الفضيل كما في كل الشهور، وأكيد كذلك أن كثير من معطيات العصر قد جعلت هذا الواجب الدعوي صعبا بقدر ما هو سهل في نفس الوقت، وحتى ينجح الداعية في دعوته اليوم لابد من أن يطرح على نفسه أسئلة ملحة بل ويجد لها أجوبة واضحة. ما هي أهداف الدعوة المعاصرة؟ ما هي مواضيعها؟ ما هي وسائلها وحواملها؟ ما هي مجالاتها مراجعها ومرافقها ومرافقيها؟ ماذا يملك ويتقن الداعية من ذلك؟ أو على الأصح كيف له أن يمتلك ويتقن بعض ذلك واللازم منه؟ أية كتب قرأها وأية محاضرات سمعها و فهمها حق فهمها، من أية كلية تخرج وأية أبحاث علمية واجتماعية أنجز أو ساهم في إنجازها؟
ماذا أعد الداعية المعاصر من خطب للمساجد المتاحة؟ ومن مواعظ للولائم المنتظرة ومن نصائح للفصول المسندة؟ ومن رسائل تواصلية وحملات تضامنية مع المحتاجين؟ ومن مقالات تربوية وفكرية للمواقع الإلكترونية، و”ليفات” تفاعلية لصفحات التواصل الاجتماعي، ومن جلسات تربوية ترفيهية لأسرته ومع الشباب والزملاء،و خلوات إيمانية وعلمية مع نفسه ومن..ومن..ومن..؟ وبأية جودة وحرفية، وبأية حمولة فكرية ورؤية إصلاحية؟
ولعل الحجر الصحي – رغم قساوته – هو فرصة لبرامج فردية وجماعية عن بعد وغير بعد في هذا الاتجاه، فقط كم سننتصر فيه على نفسياتنا الملولة؟؟ ولعل شعبان أيضا هو فرصة لإنضاج هذه المشاريع الدعوية أو على الأصح إتمام إنضاجها والتدرب عليها أو على بعضها حتى يتمكن الداعية بدعوته وحنكته وربانيته من ولوج مدرسة رمضان والرواء بروائه في غرس الإيمان في القلوب وزرع المحبة في النفوس وبذر الأخلاق في الطباع، والمساهمة في بناء الأجسام الصائمة القوية والنفوس المطمئنة الأبية والأرواح التقية الزكية وصلة الأرحام وصهر الخصام، في موسم تجارة نيل الحسنات ومحو السيئات، يقبل عليها الجميع في رمضان بكل قوة وطمأنينة وتلقائية؟
بقي أن نشير، أن خير ما يعيننا على تحقيق هذه الأهداف والفضائل، هو إدراكنا لمكانة شعبان كفرصة تكوينية وتدريبية لاستقبال الشهر الفضيل، فضلا عن مكانته هو في حد ذاته، ففي الحديث:”أن الله تعالى يطلع على خلقه في ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن”.
رمضان ضيف كريم لابد أن نهيء له كل الفضاءات الجميلة، وندعو لمجالسته كل الشخصيات الفضيلة، ونصحح له منا كل السلوكات القبيحة، ونكرمه كما يكرمنا بكل ما يرضى به ربنا عنا، شهر قد بشر به رسول الله (ص) فقال: “قد جاءكم المطهر…شهر أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار” إلى أن قال:”فيه ليلة خير من ألف شهر(ليلة القدر)..من حرمها فقد حرم”.
وأخيرا، وبمناسبة هذه الظروف الوبائية وما أحدثته من الخوف والهلع في المجتمع، لابد من اتخاذ الأسباب وكافة الاحترازات وشيء من الطمأنينة والسكينة رغم كل شيء، فيحكى أن وباء قد تفاوض مع ملك على دخول بلاده ولابد، فأذن له على ألا يقتل فيها أكثر من ألف شخص، ولكن حدث عند نهاية الوباء وأن ماتت عشرة آلاف، فلما سأل الملك الوباء لماذا هذا التجاوز، قال الوباء إنما قتلت الألف المتفق عليها، أما البقية الباقية فإنما قد قتلهم الخوف والهلع، نعم، الخوف والهلع يقتلون قبل الوباء أحيانا، لذا علينا تقوية إيماننا وعقيدتنا التي تعلمنا أن الموت بالأجل من رب الأسباب قبل الأسباب، وتعلمنا أن سنة الله في مواجهة الأسباب إنما تكون باتخاذ الأسباب كأنها كل شيء والتوكل على رب الأسباب كأنها لاشيء، وتعلمنا أن من اهتم بربه وركز في أمره كفاه ما سواه، فهذه غزالة جاءها مخاض، وعن شمالها صياد يريد رميها وعن يمينها أسد يريد افتراسها، وأمامها غابة تحترق وورائها نهر جار، موت أو احتراق أو غرق، فما كان منها إلا أن سلمت أمرها لله وركزت في الذي تستطيعه وهو مخاضها، وإذا بالبرق من السماء يعمي الصياد ويربكه فيطلق سهمه نحو الأسد فيرديه قتيلا، وإذ بالرعد يفجر المطر من السماء فيطفئ نيران الغابة، فتقوم الغزالة من مخاضها بعناية الله وحفظه لها من كل مكروه.
وفقنا الله وإياكم لحسن استثمار شعبان، وسلمنا الله وإياكم إلى رمضان سالمين وعلى أحسن حال، ورفع عنا وعن العالمين هذا الوباء والبلاء والغلاء والعناء.. وأعان كل من يتصدى له أو يساعد على ذلك من أي موقع وبأي إمكان، آمين والحمد لله رب العالمين.
الحبيب عكي