علماء القرويين القضاة .. من زمن الأدارسة إلى العلويين (7)
6 – العلماء القضاة في عهد بني وطاس
لم يستطع الوطاسيون تأسيس دولة مركزية بالمغرب، ولم يتمكنوا من فرض سلطانهم ونفوذهم على البلاد، فلم يتجاوز حكمهم مدينه فاس، واقتسمت القبائل والزعامات المحلية باقي البلاد، فنشأت الاضطرابات والانقسامات بينهم. استغل البرتغال والإسبان هذه الأوضاع المضطربة، وفرضوا نفوذهم على بعض الثغور المغربية. ونشبت الصراعات بين الوطاسيين وبين السعديين الذي استمالوا الناس إليهم بحجة الدفاع عن البلاد. لقد تشتت جهود سلاطين بني وطاس بين الممانعة للامتداد العثماني من جهة الشرق، ولبني الأحمر قبل سقوطهم بالأندلس، ومقاومة الاحتلال البرتغالي والإسباني، وغفلوا في البداية عن حركة السعديين في مراكش الذين قويت شوكتهم وقاتلولهم لانتزاع الملك منهم بالقوة.[1]
كان النظام القضائي في عهد الوطاسيين ضعيفا، فلقد تقلصت سلطة القاضي وانحصرت بشكل ملحوظ، فأصبحت وظيفة القاضي تقتصر على القضايا الشرعية، بينما أصبحت القضايا المدنية والجنائية من اختصاص الولاة. لقد وسع الوطاسيون سلطة الولاة وضعًّفوا سلطة القضاة، وهذا هو النظام القضائي الذي أَحْيَتْهُ الحماية الفرنسية في المغرب فيما بعد، حتى ضعفت دائرة اختصاص القضاء في الميدان الشرعي نفسه.[2]
وكان القاضي الشرعي يعززه قاضي التوثيق في شهادات الزواج والطلاق، ولم يكن يتقاضى راتبا رسميا، لأن القضاة كانوا يشتغلون بوظائف أخرى كالتدريس والخطبة.
كان المفتي يعادل قاضي الاستئناف اليوم، وهو الذي يرجع إليه إما بقصد الاستشارة في مسألة قانونية، أو لإعادة النظر في حكم قضائي،[3] وكان الوالي هو الذي يبت في القضايا الجنائية، ويقوم بتنفيذ الأحكام.
اتسعت سلطة العمال في هذا العصر على حساب سلطة القضاة، وشمل اختصاص العمال السلطة الإدارية والعسكرية إلى جانب القضاء المدني، وكان العامل يشرف على صاحب الشرطة، وعلى تنفيذ الأحكام. أما خطة الحسبة فقد انحطت وأسندت إلى أميين، فأصبحت موضوع مساومة.[4]
من قضاة الوطاسيين:
– الفقيه محمد الكراسي قاضي تطوان، درس بالقرويين وأخذ عن الونشريسي وابن غازي وابن الزقاق وابن هارون. ألف “عروسة المسائل فيما لبني وطاس من الفضائل،” وهي أرجوزة بالغة الأهمية، تربو على أربعمائة بيت، تتناول بالتفصيل والتدقيق عددا من جوانب حياة دولة بني وطاس السياسية من فتن وأهوال واضطرابات وحروب، خصص فيها فصلا كاملا لمعركة مليحة أو وادي المخازن الصغرى بعنوان “ذكر مجيء النصارى إلى عمارة جزيرة مليحة” سنة 894هـ. شارك في هذه المعركة علماء القرويين الفقهاء والقضاة والمفتون والطلبة وعامة الشعب من جميع أنحاء المغرب. يروي القاضي محمد الكراسي في هذه الأرجوزة أن السلطان محمد الشيخ الوطاسي كان يحمل الحجارة بيده طيلة النهار مع الجيش لملء وادي اللكوس بالقصب والحجارة، ليصبح غير صالح للملاحة، وذلك لمنع وصول المدد إلى جيش البرتغال. وانتصر الوطاسيون في هذه المعركة، وكانت خسائر البرتغال جسيمة. وتبقى هذه الأرجوزة المصدر الوحيد للتأريخ لعصر بني وطاس إلى جانب كتاب الحسن الوزان “وصف إفريقيا”.[5]
– ابن غازي مفتي فاس، انتهت إليه رئاسة العلم والفتيا، تولى الخطابة والإمامة بجامع القرويين لمدة تزيد على عشرين سنة، أتقن عدة علوم منها: التاريخ والفقه والتراجم والحساب والفرائض والعروض، وكان عبد الواحد الونشريسي كاتباً له، تميز بسلاسة طريقته التدريسية، فكان فصيحا واضحا، مما جعله محط اهتمام العامة والخاصة، فتبوأ منزلة عالية في مجتمعه. كان يخرج على رأس المجاهدين لقتال البرتغال مع السلطان محمد الشيخ الوطاسي، وعاد مريضا من إحدى المعارك وتوفي إثر ذلك. [6]
– محمد بن عبد الله بن محمد اليفرني قاضي الجماعة بمدينة فاس لمدة تزيد عن ثلاثين سنة. كان عادلا وذا فضل وسياسة، وتميز بمهارته الفقهية، وكان عارفا مطلعا على الأحكام والنوازل والفرائض والحساب، من مؤلفاته: “التنبيه والإعلام في مجالس القضاة والحكام” المعروف بالمجالس المكناسية.[7]
– عبد الواحد الونشريسي قاضي فاس الذي رفض أن يبايع محمد الشيخ السعدي الذي حاصر مدينة فاس لمدة سنة. وقيل له لا يبايعك الناس إلا إذا بايعك قاضي فاس ابن الونشريسي، فبعث له ورغبه، لكن عبد الواحد الونشريسي امتنع وقال له: إن بيعة السلطان أبي العباس أحمد الوطاسي المحصور في عنقه. فبعث له جماعة من اللصوص ليحضروه بالقوة إلى ظاهر فاس، فوجدوه بجامع القرويين جالسا على كرسيه يدرس صحيح البخاري في باب -القضاء والقدر- ما بين العشائين، فأخرجوا الطلبة وأهل المجلس وأنزلوه من كرسي الحديث، وأرادوا إخراجه من الجامع فقبض بيده في حلقة باب الشماعين، فقطعوا يده بالسيف وهم يقولون له انصر مولانا محمد الشيخ السعدي، فامتنع فقتلوه. ويسمى باب الشماعين بباب الشهيد أو باب الونشريسي.[8]
عرف المغرب في هذه الفترة أوضاعا اقتصادية صعبة، فكان سلاطين بني وطاس يقترضون الأموال من جامع القرويين. يقول الحسن الوزان الذي كان معاصرا للوطاسيين “ولجامع القرويين دخل يومي يقدر بمائتي مثقال، وقد اعتاد ملوك فاس في وقتنا الحاضر -أي الوطاسيون- أن يقترضوا مبالغ قيمة من إمام الجامع دون أن يرجعوها إطلاقا.”[9] وتدهورت الأحوال الاجتماعية بسبب جور الولاة والقياد الذين ضيقوا على الفقهاء والقضاة والمفتين، ومنعوهم بالقوة من الضرب على يد الظالم. واعتقل السلطان محمد الشيخ الوطاسي الفقيه الشيخ أبا محمد الغزواني، وكان من المتطوعين في الجهاد ضد البرتغال، لأنه كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر. وتعرض العلماء والطلبة أيضا للتقتيل من طرف لص مدعم من طرف سلطان فاس محمد البرتغالي سنة 918.[10] وانتشرت ظاهرة شرب الخمر وظاهرة الانحلال الأخلاقي بدعم وتشجيع من صاحب الشرطة والقياد. وندد علماء القرويين القضاة، الذين لم تعد تحت سلطتهم محاسبة صاحب الشرطة والعمال والقياد، بالسياسات الفاسدة التي كان ينهجها السلاطين والوزراء والقياد. وأدى هذا الوضع السيئ الذي وصل إليه المجتمع المغربي إلى احتلال البرتغال لعدد كثير من الثغور المغربية،[11] وكثرت الحروب والفتن واشتد بأس السعديين وأصبحوا يغيرون على الوطاسيين. تدخل علماء القرويين الفقهاء والقضاة والمفتون لإنهاء الحروب بين الأطراف المتنازعين على الحكم، فعقدوا مجلسا للصلح بين الوطاسيين والسعدييين، وتم الاتفاق على اقتسام النفوذ بالمغرب، وهكذا يحكم الوطاسيون من تادلا إلى المغرب الأقصى ويكون نفوذ السعديين من تادلا إلى سوس. ولم يستطع أحد من شيوخ القرويين تحرير العهد بين الطرفين، وأخذ كل واحد يدفع الدواة إلى الآخر، وعندما وصلت إلى عبد الواحد الونشريسي قاضي فاس ومفتيها وصاحب كرسي الحديث بجامع القرويين، أخذ الدواة بيده وحرر العهد. ولذلك عندما نكث محمد الشيخ السعدي العهد وأغار على فاس رفض أن يبايعه لأنه كان في عنقه بيعة السلطان أبي العباس أحمد الوطاسي، وقتل بسبب ذلك سنة 955هـ. ورفض أهل فاس مبايعة محمد الشيخ السعدي، ودخلها بعد سنة من الحصار سنة 956هـ، وأسر السلطان الوطاسي.[12]
بقلم الدكتورة: آمنة هدار
لقراءة الحلقة (6) اضغط هنا
المصادر:
[1]– انظر أحمد بن خالد، الناصري، الاستقصا لأخبار دولة المغرب الأقصى، تحقيق جعفر ومحمد الناصري، دار الكتب، الدار البيضاء، 1956، ج: 4، ص: 110-111.
[2]– انظر إبراهيم حركات، المغرب عبر التاريخ، دار الرشاد الحديثة، الدار البيضاء، 2009، ج: 2، ص: 197-198.
[3]– انظر المرجع نفسه.
[4]– انظر المرجع نفسه، ص:199.
[5]– انظر عبد الهادي، التازي، “معركة وادي المخازن الصغرى،” مجلة المناهل المغربية، منشورات وزارة الثقافة المغربية، الرباط، عدد 33، ص: 126- 158، دجنبر1985، ص: 155، 141.
[6]– انظر زهير، حميدان، أعلام الحضارة العربية الإسلامية في العلوم الأساسية والتطبيقية في الأندلس والمغرب والجزائر وتونس وليبية، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، 1996. انظر أيضا أحمد بابا، التنبكتي، نيل الابتهاج بتطريز الديباج، مكتبة الدعوة الإسلامية، طرابلس، 1997، ص: 581 – 583.
[7]- انظر أحمد متفكر، قضاة فاس، المطبعة والوراقة الوطنية، مراكش، 2022، ص: 90.
[8]– انظر خير الدين، الزر كلي، الأعلام، دار العلم للملايين، لبنان، ط: 15، 2002، ج:4، ص: 174.
[9]– انظر الحسن، الوزان، وصف إفريقيا، ترجمه عن الفرنسية محمد حجي ومحمد الأخضر، دار الغرب الإسلامي، 1971. ج: 1 ص: 224- 225.
[10]– انظر الحسن، الوزان، وصف إفريقيا، ترجمه عن الفرنسية محمد حجي ومحمد الأخضر، دار الغرب الإسلامي، 1971. ج: 1 ص: 341.
[11]– انظر المرجع نفسه، ج: 1، ص: 124، 320، 330، انظر أيضا أحمد بن خالد الناصري، الاستقصا لأخبار دولة المغرب الأقصى، تحقيق جعفر ومحمد الناصري، دار الكتب، الدار البيضاء، 1956، ج: 4، ص: 145.
[12]– انظر عبد الهادي، التازي، التاريخ الدبلوماسي للمغرب، مطبعة فضالة، المحمدية، 1986، الجزء السابع: عهد بني مرين والوطاسيين.
موقع الإصلاح