رحمات الأنبياء

حينما نُبحر في تاريخ الأنبياء، وننظر في الأحداث التي مرت بهم نجد أثار رحمة الله قاسماً مشتركاً في حياتهم ، وسمة غالبة تظهر في كل مواقفهم ، وبنظرة متبصرة ندرك تلك الرحمات.

وتلك الفيوضات تكمن في مواطن عدة أبرزها ما يلي :

في الثقة في تقديره سبحانه:

رحم الله رجلاً لم يمنعه غياب الأسباب من دعوة رب الأسباب، ولم يمنعه غياب الإمكانات من سؤال رب الأرض والسموات، فغلف حاجته بغلاف ضعفه، ونادى ربه نداء خفياً ، وحدد مطلبه ومقصده فقال :(وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا),فكانت النتيجة: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَىٰ وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ).

رحم الله داعياً أُغلقت أمامه الأبواب وأحاطت به المخاطر من كل مكان، ولم يجد العقل له مخرجا، ولم تر العين له مهربا، ولم تسمع الأذن لمثله مسلكا، فانتفض قلبه مستسلما ولسانه مستغيثا: (لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) فكانت النتيجة: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَٰلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ).

رحم الله سالكاً عرف قدر ربه فاستسلم لأمره، وذبح هواه، فترك أهله في صحراء لا مجال فيها للحياة إلا عميق الثقة في الله تعالى، ولم يتردد في التبرؤ من والده حينما تمسك بالكفر، وعن الشروع في ذبح ولده استجابة لأمر خاقه وسيده، وعن الطرح في النيران تمسكا بعقيدته واعتزازاَ بدينه، فكانت النتيجة،: (وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا).

رحم الله رجلاً زلت قدمه، أو ظلم نفسه، أوغلبه هواه، أو اختل ميزان العدالة في يده، فسرعان ما عاد نادما، ذاكراً ربه، مستغفراً لذنبه، فكانت النتيجة: (وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّه)، (فَغَفَرْنَا لَهُ ذَٰلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَىٰ وَحُسْنَ مَآبٍ).

رحم الله داعياً أخذ بالأسباب فلما أحاطت به خيول الكفار وجنود الطغيان لم تتزعزع في ربه ثقته، ولم ترتعد فرائصه، والتفت الى صاحبه مطمئناً ، والى من بعده من السالكين مُعلماً (لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا)، فكانت النتيجة:( فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).

في الصبر على البلاء:

رحم الله عبداً رأى في جُب أحزانه رحمات تقديره، وفي كهف محبته واسع رحماته، وفي ظلمة السجن حكمة التدبير، فانطلق يفتح لمن معه آفاق العتق الكبير بالتعرف على الرب العظيم، (يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ)، فكانت النتيجة: (وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ).

رحم الله عبداً صبر على البلاء فلم يتأفف من قدره، ولم يقنط من رحمة ربه، وتأدب في الدعاء مع مولاه وسيده، فدعاه في إخبات وخضوع: (أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)، فكانت النتيجة: (وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنَّا وَذِكْرَىٰ لِأُولِي الْأَلْبَابِ).

رحم الله عبدا غاب عنه الأحباب، وذهبت من بين يديه الأسباب، وابيضت عيناه من الحزن، فلم يكن منه إلا جميل الصبر، ومحاربة اليأس، والأخذ بالأسباب المتاحة، وطرح بثه وحزنه بين يدي ربه، فكانت النتيجة: (فَلَمَّا أَن جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَىٰ وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ).

في رحمة خلقه:

ـ رحم الله داعياً جاءته فرصة لإهلاك من كذبوه، وإفناء من آذوه، ومعاقبة من حاربوه، ولكنه آثر الرحمة في ذرياتهم، ولم يقطع باب الرجاء في هدايتهم ورحمتهم واستنقاذهم، فدعا ربه قائلاً: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون فكانت النتيجة: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا).

ـ رحم الله مربياً رأى جدار الإيمان في نفوس الشباب يريد أن ينقض فأقامه ولم يتخذ عليه أجرا.

ـ رحم الله أماً خافت على ولدها جنود الكفر فصنعت له تابوت الصحبة الصالحة، وحصنته بالدعوات الصادقة، وألقته في بحر العناية الربانية، واستعانت بأخته الشفوق، فألقى الله عليه محبته، فصار محصناً بها من كل عدو، وجعله الله من عباده المخلصين، ثم كانت النتيجة: (فَرَدَدْنَاهُ إِلَىٰ أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ).

ـ رحم الله رائداً رأى سفينة قومه تتعرض للغصب من قطاع الطريق والطغاة المتجبرين فاحتال لإنقاذهم، ورأى مسيرتهم تتعرض للفشل فاجتهد لتوجيههم وإعانتهم، ورأى غلام الفتنة يتهيء لاعتراض طريقهم فقتله رحمة بهم.

ـ رحم الله شاباً رأى نساءً أو فتياتٍ يحتجن إلى المساعدة فأعانهن، ولم يطمع في شيىء منهن (فَسَقَىٰ لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّىٰ إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ)، فكانت النتيجة: إ(ِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا).

في صدق الاستعانة به:

رحم الله شاباً أحاطت به الفتن من كل حدب وصوب فاستعصم بربه، وتحصن بعونه وتضرع إليه مبتهلاً: رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه، فكانت النتيجة: (فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).

ـ رحم الله شاباً ترك الأكل من شجر الهوى، فلم يسمع لتزيين شياطين الإنس والجن، ورفض اتباع خطواتهم أو تصديق قسمهم أو الثقة في وعودهم أو التأثر بتزيينهم، فستر الله سوءته، وغفر زلته، وقبل توبته وكانت النتيجة: (ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَىٰ).

في حسن الخلق وصلة الرحم:

رحم الله رجلاً بحث عن أهله الذين قطعوا رحمه فوصلهم، وآذوه فأكرمهم، وتآمروا عليه فتجاوز عن غدرهم، وبادرهم بكريم عفوه قائلاً: (لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ).

ـ رحم الله أخاً قبل عذر أخيه، فلم يفتح للأعداء باب الشماتة فيهم، ولم يلقي بأخيه في صفوف الظالمين، فهُرع إلى محرابه داعيا: (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ).

ـ رحم الله رجلاً رأى نعم الله على عباده تترى فلم يحمله ذلك على حسدهم أو الحقد عليهم، ولكنه سارع إلى محراب من بيده النعم فدعاه، وإلى باب من بيده الخير فرجاه: (رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ)،

فكانت الإجابة:.(فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَىٰ مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ).

فمن لم يدخل من تلك الأبواب فمتى ينال الرحمات ومتى تتنزل عليه البركات ومتى يسعد بطمأنينة الدنيا وسعادة الآخرة.

د. جمال عبد الستار

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى