النموذج التنموي الجديد وسؤال الأسرة – لحبيب عكي
لا شك أن مؤسسة الأسرة على رأس المؤسسات المتضررة من النموذج التنموي الحالي (الفاشل رسميا في توزيع الثروة وتحقيق العدالة الاجتماعية والإنصاف المجالي)، وفي أوجه متعددة قيمية واقتصادية وعلائقية طالتها وتطالها التحولات المجتمعية والدولية الصارخة، مما يطرح واقعها ومستقبلها على المحك بألف سؤال وسؤال؟؟ ولا يطلع المرء على أي رقم من الأرقام المتعلقة بالأسرة المعاصرة والتي قد نفرد لها مقالة خاصة إلا ويصاب بالصدمة رغم ما قد يكون لديه اتجاهها من تحفظ، أرقام مهولة تظل عنوانا لأزمة أسرية ومجتمعية قاتمة وعميقة سواء من حيث الهوية والمرجعية والقرارات والاختيارات..أو من حيث القيم والأخلاق..أومن حيث التماسك وأحوال المعيشة والتضامن..، أو من حيث المفاهيم والممارسات السياسية المؤسسة لكل ذلك أو من حيث..ومن حيث..؟؟ ولكن هل كل هذه المظاهر المأزومة والمؤزمة التي تتحدث بها الإحصائيات الأسرية وضجيجها،هي مجرد أسباب أو مجرد نتائج كيفما كان الجواب أيضا فيبقى السؤال في كل الأحوال هو ما العمل؟؟
ما العمل؟ وكيف سيكون هذا النموذج التنموي الجديد؟ وكيف ستكون فيه الأسرة؟ سؤال عميق يتطلب مدارسات مجتمعية مفتوحة من طرف خبراء وعلماء متخصصين، وفاعلين مدنيين وباحثين مهتمين، وبمعالجات عميقة واقعية أصيلة ومعاصرة خاصة ما يرتبط منها بالمرجعيات الفكرية المؤسسة والتي ينبني على استقامتها وصوا بيتها استقامة وصواب ما يبنى عليها من الهياكل والأشكال، ولهذا سنحاول الخوض في بعض مداخل الإصلاح و حوامل التغيير الممكنة وربما الناجعة والناجحة في نظري وعلى رأسها:
1 – مفهوم الأسرة وأهميتها:
ونعني بها الأسرة الشرعية على كتاب الله وسنة رسول الله، وليس ما يكتسح الساحة المجتمعية اليوم من أشكال وأنماط الأسر التي يحاول الكثيرون التطبيع معها والدفاع عنها وهي سبب كل الكوارث التي تعرفها الأسرة والمجتمع، مثل العلاقات الرضائية (زنا) والزواج المدني(سفاح)، الزواج العرفي(سري قد لا يحفظ الحقوق) وزواج المتعة (متعة)، والأمهات العازبات(40 ألف اغتصابا أو غواية أو رضا)، وما يجهزن به على المجتمع بأبناء الشوارع (حوالي 200 طفل يوميا) وما يشغلن من ملاجئ مستقبلة وجمعيات مساعدة بقوة الواقع، الأسرة المختلطة التي تستبعد شرط التدين خاصة من البنات(حفظ الدين)، الأسرة الرابطة بين الآدميين والحيوانات من القطط والكلاب(حفظ النسل)،الأسرة المثلية من السحاقيات واللواطيين(وفيها غياب كل المقاصد).
هذه الأسرة الشرعية هي التي تكون ذات هوية ومرجعية، فضاء للراحة والاستقرار، فيها يتم الحوار ويتخذ القرار، محضن للتربية على القيم والأخلاق، وهي النواة الفطرية للمجتمع، وهي كما يقول المقرئ أبو زيد الإدريسي:”هي المعقل الأخير للأفراد عندما تتغول الدولة من دولة الرعاية إلى دولة الجباية والتخلي عن المواطن وحقوقه، وعندما تتمزق الأمة ويصبح بأس أبنائها بينهم شديد، وتطغى العولمة بمواثيقها وطوابيرها الخامسة، ففيها سيجد “المرأة الصبورة والمساهمة في الإنفاق والإنتاج، المودة والرحمة والرعاية، الإنفاق والعناية الممتدة إلى جميع الأطراف، دعم التمدرس في كل المراحل من الابتدائي إلى الجامعي، داخل وخارج الوطن”، إنها شرنقة لتنفس الهواء النقي وغير الموبوء، لأنه إذا كان ملوثا يخشى على مستنشقه من الهلاك.
2 – الأسرة بين الوظائف والرسالة:
للأسرة أدوار أساسية يمكن إجمالها في 3 وهي:
أولا – دور الوجود والنمو: وما يرافقه من الولادة/عدم الإجهاض/اختيار أجمل الأسماء/النمو الجسدي والنفسي والروحي والفكري…/توفير الأكل واللباس والسكن والصحة والتعليم..،إلى غير ذلك من لوازم الحياة الكريمة والآمنة..والتي تجسدها وتدعو إليها(المادة 54 في ميثاق حقوق الطفل العالمي).
ثانيا – دور الحماية والرعاية والتوجيه: وما يتطلبه من الحماية النفسية / الحماية الجسدية../الحماية من الأمراض/ الحماية من الجهل/من سوء التغذية / من سوء الأخلاق../من الاستغلال الجنسي والاقتصادي/من الحروب وكل أشكال العنف والاتجــــار بالبشر/من كل ما قد يسبب له كل أشكال الإهانة والإساءة والحرمان/وتلك من مقاصد الإسلام في حفظ الكليات الخمس( حفظ العقل/النفس/الدين/العرض/المال)
ثالثا – دور أو حق الإشراك: وفيه حق الرأي/حق التعبير/حق الاستشارة خاصة فيما يهمه/حق المشـاركة خاصة فيما يستطيع/حق المبــــادرة/حق الخصوصية/حق اللعب والترفيه…
ومن توازن الإسلام أنه جعل مقابل حقوق النشء عليه واجبات ومنها:
واجب الطاعة للوالدين/واجب الاجتهاد في الدراسة وغيرها/واجب المساعدة حسب المستطـــاع/واجب الاعتراف بالمعروف والقول لصاحبه شكرا/واجب اختيار الأصدقـــــــــاء/واجب احترام الدين والأخلاق/واجب احترام الكبار والأساتذة والعلماء/الواجب المـــــــــدرسي/واجب التنظيم والنظافة/واجب الصدق والأمانة…، وطبعا ترتب هذه الواجبات حسب السن ولابد للآباء والمربون الوعي بها وبمراحل ووسائل غرسها.
3 – الأسرة والحاجة إلى المنهج التربوي السليم والمتكامل:
لاشك أن نجاح النموذج التنموي الجديد، لن يتحقق من دون منهج تربوي أسري “والدي” جديد وناجح أيضا، منهج يعتمد على الواضح من كتاب الله وسنة رسول الله والإرث التربوي للأمة، يعتمد على الرحمة والمودة بدل الاستسلام للإكراهات المادية وضغوطات الحياة (المربي من عند ربي…والمجتمع هو المربي بدل فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)، منهج يعرف بحق معنى التربية ويضع لها مقاصد خاصة في علاقتها مع التعليم والتكوين والتدريب والتأهيل والتنشيط..، منهج يراعي مراحل النمو عند النشء والحاجيات النفسية والسلوكية..، منهج يراعي الاكراهات المطروحة: تراجع المدرسة – تفسخ الإعلام – محاصرة المسجد – تراجع القيم وصراع الأجيال – غول الشارع وتنافر الرفاق – شبكات ومواقع التواصل الاجتماعي – الجهل بأحكام الأسرة – الاستلاب والتغرير بالمرأة وخروجها إلى العمل- البطالة والفقر والهجرة القسرية – تفكك الأسرة وابتلاؤها بالانحرافات السلوكية و الإدمان على تداول المحرمات كالكحول والمخدرات، وشيوع ضعف الإرادة وتنازع الأدوار بين الأزواج وهم أعمدتها- ضعف المجهود المدني اتجاه التربية…، منهج يفقه من وسائل التربية المختلفة حسب المقامات: القدوة – القصة – الحدث – التنشيط – اللعب…/ منهج ينتقل من المثلث التربوي(معرفة – ناشئ – مربي)إلى المربع التربوي(ناشئ – معرفة – مربي – وسائل) والخماسي التربوي(ناشئ – معرفة – مربي – وسائل – مواقف وسلوك واستثمار في الحياة).
ويمكن دعم كل هذا حسب الباحثين والمهتمين ببعض المقترحات والمشاريع كالتالي:
أولا – استراتيجيا:
1 – جودة الخدمات اليومية للمواطن
2 – المقــــاربة التشاركية الحقيقية.
3 – تقوية نفس الديمقراطية والتنمية.
4 – تنزيل اللامركزية والجهوية الموسعة.
5 – محاربة الفساد وترشيد الاستهلاك والرفع من الإنتاج ومعدل النمو لتحقيق المتطلبات.
ثانيا – علميا وعمليا:
1 – كرسي الدراسات الأسرية والتربوية وعلم النفس وعلم الاجتماع في الجامعة
2 – مركز لتجديد فقه الأسرة على ضوء الواقع والمستجدات والظواهر
3 – دعم التأليف والنشر والبحث الميداني والقصة والرواية في مجال الأسرة
4 – دعم البحوث الميدانية المهتمة بالمشاريع الإصلاحية والتنموية في مجال الأسر
5 – تعميم المنهاج الدراسي للتربية الأسرية وتركيزه على هموم الأسرة قبل الأكلات والعصائر.
ثالثا – سياسيا واقتصاديا:
1 – اعتماد سياسة تحفظ هوية الأسرة الإسلامية ومرجعيتها الوطنية وانتمائها الحضاري.
2 – محاربة كل ما يسبب في تنمية الظواهر التي لا تخدم الأسرة كالفقر والبطالة والجهل والأمية.
3 – إعادة هيكلة الوزارات المكلفة بالأسرة حتى لا تغرق في التعاون الوطني وذوي الاحتياجات على حساب الأسرة.
رابعا – تربويا واجتماعيا:
1 – حفظ ثوابت الهوية والمرجعية والانتماء واللغة والمكتسبات الحضارية للأسرة كالتماسك والتضامن../.
2 – مشروع تأهيل المقبلين على الزواج ومواكبة المتزوجين ومحاربة العنوسة والعزوف عن الزواج
3 – دعم مراكز وتعاونيات النساء وصقل المواهب وتعليم المهارات ومحو الأمية بكل أشكالها
4 – انفتاح الآباء والأولياء على الدورات التكوينية والتربوية لجمعيات المجتمع المدني
5 – دعم وتشجيع فضاءات الطفل والأسرية كالأندية والمخيمـــــــات والرحلات والمسابقات
6 – مشروع المرشدين والمرشدات ومراكز الاستماع والصلح لمحاصرة المشاكل.
خامسا – سياسيا واقتصاديا:
1 – محاربة السياسات المؤسسة للاختلالات الأسرية والتفكك كالفقر والبطالة والجهل والأمية
2 – دعم السياسات الرامية إلى الحد من الفوارق الاجتماعية بقوة كدعم الأرامل والمطلقات والمنح وتيسير وراميد
3 – تحقيق الكرامة والعدالة الاجتماعية والمجالية في مجال الأسرة كالتشغيل والسكن اللائق والبنيات التحتية والمرافق
4 – تشجيع الجمعيات والتعاونيات والمقاولات المهتمة بالتكوين والتأهيل والرفع من الإنتاج الأسري وترشيد الاستهلاك
5 – دعم القدرة الشرائية للأسرة المغربية،وتشجيع ترافع الجمعيات المدنية من أجل تماسكها واستقرارها وتجويد حياتها.
إلى غير ذلك من مقترحات المشاريع الإصلاحية التربوية والتنموية الحقيقية، حتى يكون النموذج التنموي جديدا بالفعل وعملا ميدانيا وأملا حقيقيا، وليس مجرد عبوة للاستهلاك سرعان ما ستفقد بريقها وتنتهي صلاحيتها كغيرها من المصطلحات المماثلة التي تتحطم على صخرة الواقع دون كثير جدوى (…) أو غيرها من العبوات التي ولدت قوية وجذابة وفي طياتها بوادر فسادها وهلاكها.