المغرب والتدابير التراحمية في التعامل مع الجائحة – الشرقي قصاب

قدم المغرب نموذجا لدولة عريقة بتاريخها وبثقافتها الأصيلة والمتنوعة من خلال تعامله مع وباء كورونا، حيث سلكت الدولة منطق التراحم في دفع الأضرار الناجمة عن جائحة كورونا، وإن كل دولة تقدم رصيدها وذخيرتها المادية والقِيميَّة عند حلول الشدائد، وإن أبرز ذخيرة للمغرب هو التراحم والتعاون والتضامن، تلك القيم الإسلامية العظيمة التي أبان عنها المغاربة كما هي عادتهم وطبعهم، ملكا وحكومة وشعبا، بشكل يجعلنا نشعر بالفخر والاعتزاز.

لقد شاهدنا منطق التراحم من المسؤولين من خلال القرارات الجريئة والقوية التي تم اتخاذها في الوقت المناسب، مما جنَّبَ البلاد الإحتمال الأسوأ، ولم تكن الإصابات بالشكل الذي وقع في دول مجاورة كانت تتباهى بنظامها الصحي والإقتصادي، حيث كشفت دراسة حديثة نشرها موقع “لوديسك” حول تطور فيروس كوفيد-19 في المغرب، أن البلاد تجنّبت 6000 حالة وفاة بسبب الفيروس، بالإجراءات التي اتخذتها المملكة، وتوقعت الدراسة التي قام بها باحثان مغربيان أن تكون ذروة انتشار الفيروس في نهاية شهر أبريل الجاري، وبداية شهر ماي المقبل.

الدراسة التي اعتمدت على معطيات ومقارنة المغرب مع عدد من الدول في تدبير الجائحة قالت أن المغرب لو تأخر في اتخاذ قرار الحجر الصحي، أو تأخر في إغلاق حدوده، مثل عدد من الدول، لوصل إلى مراكمة ستة آلاف حالة وفاة، مع نهاية شهر أبريل الجاري.

وعلى الرغم من التبعات الاقتصادية التي ترتبت عن هذه القرارات والتي ستكون لها آثار سلبية لا شك فيها، حيث أنه من المتوقع أن يخسر الاقتصاد المغربي 10 مليارات درهم خلال النصف الأول من هذه السنة، فإن الدولة أقرت الدعم للمقاولات المتضررة، وكذلك أقرت دعما شهريا للأسر التي يعمل أربابها في القطاع غير المهيكل الذين يتوفرون على خدمة التغطية الصحية “راميد”، أما الذين لا يتوفرون عليها فيكفي أن يسجلوا أنفسهم بمنصة رقمية أعدت لهذا الغرض، هذا الدعم يتراوح بين 800 درهم و 1200درهم، وهو الأعلى مقارنة بدول شمال إفريقيا، كما تم إقرار دعم للأجراء المسجلين بالصندوق الوطني للضمان الإجتماعي CNSS المتوقفين عن الشغل بسبب الوباء.

كما رأينا حجم التراحم من خلال إعفاء الناظر الأعلى للأوقاف وهو الملك محمد السادس لمكتري المحلات الحبسية من أداء واجب الكراء طيلة مدة الحظر، وهو ما يعتبر إعمالاً لروح الوقف في الإسلام وهي خدمة المجتمع والتخفيف عن أفراده.

كما يعتبر هذا العمل قدوة حسنة للمواطنين للتنازل عن بعض حقوقهم اتجاه بعضهم البعض ونمُدَّ يد العون للمتضررين، حتى ينقشع ضباب هذه الجائحة.

وعلى الصعيد المجتمعي هناك تراحم كبير وتعبئة نابعة من القيم الأصيلة لهذا الشعب تجسد روح التضامن التي تجري في دمائه، فهناك مؤسسات وهيئات وأفراد يسارعون لتقديم المساعدات الاجتماعية والغذائية، السكنية في لبعض الحالات المعوزة، وللمساهمة في صندوق مكافحة آثار كورونا حيث بلغت موارد الصندوق 34 مليار درهم.

كما يتجسد التراحم في التعاون بين قطاع الصحة العمومية وقطاع الصحة العسكرية، حيث يمدُّ هذا الأخير الصحة العمومية

بكفاءات عالية التكوين والخبرة، ويزيد من قدراتها وجاهزيتها للتعامل مع الحالات الحرجة جراء الجائحة، ونرى التراحم في التضحيات التي يقوم بها عناصر السلطة المحلية بشكل يومي، لإنجاح العزل الاجتماعي، كذلك وفي التضحيات التي يقدمها رجال التعليم، باستيفاء الدروس المقررة في ما تبقى من الموسم الدراسي عن بُعد معتمدين وسائلهم الخاصة.

 أما الدول التي غلَّبت منطق التعاقد؛ بمعنى الحقوق المترتبة عن قوانين والتزامات الدولة ومؤسساتها، فقد عوَّلت على ذخيرة القوة العلمية، والقوة المالية والاقتصادية. فها نحن نشهد كيف تقف خائرة حائرة، مصدومة من حالها، وقد أفقدها الوباء صوابها فتجردت من أي قيمة، إلا قيم الرأسمال؛ أنتج، ادفع، استهلك…، ورأينا كيف عادت بعض الدول إلى عصر القراصنة بالسطو على معدات طبية وأدوية اقتنتها دول أخرى، ومنها من يهدد العالم إذا لم يأخذ ما يريد من الأجهزة الطبية، مسقطة كل “الشعارات القيمية” التي أنتجها وروجت لها.

إن منطق التعاقد والأولوية التي أعطتها بعض الدول للاقتصاد والسوق على حساب الإنسان أدى إلى التأخر في اتخاذ القرارات اللازمة، حيث لم تستطع هذه الدول حسم الترجيح بين الإنسان (المواطنين) وبين الإقتصاد والسوق، والنتيجة هو تفشي الوباء بأرقام قياسية في اليوم الواحد، مما نتج عنه انهيار الإنسان وانهيار الاقتصاد بأرقام فلكية، في ظل ارتفاع الإصابات وارتفاع الوفيات بحجم لا يمكن السيطرة عليه، فأصبحت الأطر الطبية أمام خيارات محدودة جدا بسبب فقدان القدرة على استيعاب الإصابات بالمستشفيات، ولم تنفع الذخيرة العلمية والطبية، فأصبح الأطباء يختارون من يموت ومن يُسْعَف، فرأينا كيف تمت التضحية بالعجزة والضعفاء وذوي الاحتياجات الخاصة، وهذا منطق مُغرق في العلمانية، لأنه لا يستند لأي قيمة إنسانية أو أخلاقية أو دينية.

فكيف يتم التضحية بالأصول والآباء والأجداد، إنه منطق الرأسمال والربح والسوق، الحاسم فيه هو الجواب على هذا السؤال: ماذا سنربح من العجوز وماذا سنربح من الشاب؟ الجواب هو: لا نربح من العجوز ومن ذوي الاحتياجات الخاصة شيئا، وبمنطق نازي إنها أفواه جائعة وغير منتجة، علينا التخلص منها…! أما الشاب فسنربح منه كثيرا، فهو قادر على الإنتاج والعمل لخدمة “التقدم والتنمية” بنشاطه العضلي والعقلي… فله الأولوية وينبغي معالجته وتقديمه على العجزة. وهنا نقف على حقيقة شعار “الإنسانية” Humanity الذي جاء مع الحداثة الغربية، حيث يتبين أنَّه مجرد كلام دون معنى، وإلا ما الفرق بين العجوز الذي تَقرَّر موته بنزع جهاز التنفس منه وبين الشاب الذي تَقرَّر إسعافه في الإنسانية؟ إنها الرأسمالية حيث تسود قيم السوق والمال، تسعف الشاب لينتج وتضحي بالعجوز الذي لا ينتج.

فشتان بين مقاربة أولوية الإنسان وبين مقاربة أولوية الاقتصاد.

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى