القراءة الحداثية للقرآن بين الإبداع والتقليد (2) – حسن المرابطي

اعلم أن انتقاد القراءات الحداثية للآيات القرآنية من طرف علماء المسلمين لا ينبغي أن يتوقف عند هذه المرحلة فقط، وإنما وجب مواصلة العمل لتحقيق وتقديم قراءة جديدة أو قل تجديدية حتى تتجدد الصلة بالقراءة النبوية، ذلك أن القراءات الحداثية المقلِّدة أحدثت قطيعة معرفية بين القراءات التراثية، لأن أصحابها قلدوا غيرهم في قطع الصلة بأسباب الماضي وآثاره كما وقع في التطبيق الغربي. للتذكير، فإن القراءات التراثية على نوعين حسب ما تقرر عند طه عبد الرحمن في كتابه «روح الحداثة»: قراءات تأسيسية كانت من نصيب المتقدمين (مفسرون، فقهاء، متكلمون، صوفية)، وقراءات تجديدية قام بها المتأخرون (سلفيون إصلاحيون أو أصوليون أو إسلاميون علميون)، وهذه القراءات التراثية ذات صبغة اعتقادية تختص في تفسير القرآن وتضع للإيمان أسسه النظرية كما تقوي أسبابه العملية، لكن القراءات الحداثية، فهي قراءات لا تريد أن تُحصل اعتقادًا من الآيات، إنما تريد أن تمارس نقدها على هذه الآيات.

لقد سبق معنا في الجزء الأول من هذه المساهمة الحديث عن القراءات الحداثية المقلِّدة وكيف انتقدها الفيلسوف المغربي د.طه عبد الرحمن، بل اعتبرها قراءات القاصرين، لا قراءات الراشدين، ما جعله يقدم إجابة عن السؤال: كيف نحقق الإبداع في قراءة الآيات القرآنية؟ بعدما تقرر عنده أن لا حداثة إلا بالتحرر من الوصاية والخروج إلى الإبداع، شريطة أن يكون موصولًا بتراث الأمة، وليس مفصولًا عنه. والإجابة عن السؤال أعلاه تم تقديمها بما أطلق عليه طه «القراءة الحداثية المبدِعة»، محددًا شروط الإبداع، وموضحًا خطط القراءة الحداثية، ذلك أن طه عبد الرحمن من خلال مؤلفاته يحاول التأسيس لحداثة إسلامية بديلة عن الحداثة غير الإسلامية، مبرزًا أن الحداثة حداثات كثيرة ولها أشكال مختلفة، وما اجتهاده إلا شكل لا يستبعد مطلقًا إمكان تنقيحه وتهذيبه، بل إمكان تصحيحه وتحويره.

القراءة الحداثية المبدِعة: شروط الإبداع وخطط القراءة (تلخيص موجز مع التصرف من خلال كتاب روح الحداثة).

قبل البدء في عرض شروط الإبداع وخطط القراءة كما هي مسطرة عند طه عبد الرحمن لا بد من التنبيه إلى ما نبه إليه في كتاب «روح الحداثة»، حيث نبه إلى الأخذ بحقيقة « لا دخول للمسلمين إلى الحداثة إلا بحصول قراءة جديدة للقرآن الكريم» وحقيقة « أن واقع الحداثة في المجتمع الغربي قام على أساس مواجهة المؤسسات الكنسية»؛ وهذه الحقيقتين يترتب عليها أساسًا أن مقتضى الحداثة الإسلامية يُضاد مقتضى الحداثة الغربية، حيث إن التصارع مع الدين كان المعتمد في قيام الفعل الحداثي الغربي، أي حصول إبداع مفصول، بينما الفعل الحداثي الإسلامي الأول ابتدأ مع القراءة النبوية للقرآن، ولن يتحقق تدشين الفعل الحداثي الإسلامي الثاني إلا بتجديد الصلة بهذه القراءة النبوية، أي التفاعل مع الدين لحصول إبداع موصول. واعلم أن النظر في هذه الحقيقتين كفيل بإدراك شناعة الخطأ الذي ارتكبه أهل القراءة المقلِّدة عندما قلدوا غيرهم في قطع الصلة بالدين، بل يحيلنا إلى شناعة التقليد الذي صاحب الحداثيين، لا سيما أن التقليد والحداثة ضدان لا يجتمعان حسب تعريفهم، وأن التراث والتقليد صنوان لا يفتقران.

شروط الإبداع في قراءة النص القرآني:

لقد قرر طه عبد الرحمن أن قراءة الآيات القرآنية لا تكون حداثية مبدعة بحق حتى تستوفي شرطين أساسين:

أحدهما؛ ترشيد التفاعل الديني، أي رعاية قوة التفاعل الديني مع النص القرآني، حيث إن القراءة الحداثية تأخذ بالآلية التنسيقية التي تنبني عليها كل خططها الثلاث ( التأنيس، التعقيل، التأريخ) ذات الصبغة الانتقادية. وتحصيل هذا الترشيد سيكون بنفس الآلية الانتقادية في كل خطة من خططها.

والثاني؛ تجديد الفعل الحداثي، أي إعادة إبداع الفعل الحداثي المنقول، حيث إن القراءة الحداثية تقصد من خلال كل خطة من خططها الهدف النقدي والذي يتخذ صبغة سلبية أو قل هدمية، بينما الفعل الحداثي ينبغي تحصيل هدف ذي صبغة إيجابية أو قل بنائية، لأن مبدأ البناء في القراءة المبدعة مقدم على مبدأ الهدم كما تقرر عند طه عبد الرحمن.

واعلم أن أسلوب طه عبد الرحمن في كثير من القضايا خلال معالجتها يختلف عن ممارسة غالبية المشتغلين على التراث، سواء «فئة الحداثويين» أو «فئة التراثويين» كما سماهم، بل نبه كل واحد منهم، حيث قصد الفئة الأولى وبصرهم بتقليدهم لأصحاب الحداثة الغربية من غير تحصيل الأسباب التي جعلتهم يبدعون ما أبدعوه، والفئة الثانية دعوتهم إلى الاجتهاد وعدم تقليد السلف من غير تحصيل الأسباب التي جعلتهم يبدعون ما أبدعوه. ونتمنى أن تحظى اجتهادات هذا الفيلسوف بعناية أكثر من قبل المهتمين والباحثين دراسة وتحليلا، حتى إن انتهوا من المرحلة الاولى، اشتغلوا على التنقيح أو التصحيح في المرحلة الثانية.

خطط القراءة الحداثية ذات الإبداع الموصول

اعلم أن القراءة الحداثية المبدعة ذات خطط ثلاث كما أخذ بها طه عبد الرحمن، وكل خطة تتوسل بالآلية التنسيقية ذات الخاصية الانتقادية، بيد أن القراءة المبدعة تقصد الهدف البنائي عكس القراءة المقلدة التي تقصد الهدف الهدمي. كما تزاوج كل خطة بين التفاعل الديني الراشد (الشرط الأول) والفعل الإبداعي الجديد (الشرط الثاني).

أولا: خطة التأنيس المبدعة

وتقصد تكريم الإنسان عبر نقل الآيات القرآنية من وضعها الإلهي إلى وضعها البشري، ذلك دون إضعاف التفاعل الديني؛ لأن القرآن الكريم اتخذ في شكل تبليغه وتحققه اللساني وضعًا إنسانيًا، حيث نزل بلغة الإنسان العربي، بل خرج عن وضعه الإلهي الذي لا تُكيفه ولا تحده لغة؛ أو الإخلال بالفعل الحداثي؛ لأن الإنسان يستعيد اعتباره بموافقة إرادة الإله، بل إن الإله أراد أن يكون الإنسان خليفة له في تدبير شؤون هذا العالم، ومن يكن أمره هكذا لا شك أنه سيفوز بغاية التكريم؛ بل يتحقق الإبداع الموصول عند الاشتغال بآلية النقل هذه؛ ذلك أن تكريم الإنسان أصل من الأصول القيمية لنص القرآن وما الاشتغال إلا لتبيان وجوه التكريم.

وعليه، فإن خطة التأنيس المبدعة أكثر انشغالًا بالإنسان، حيث يتولى جلب ما ينفع الأصالة الإنسانية ودفع ما يضرها من القداسة الزائدة كما يُؤخذ بها في خطة التأنيس المقلدة، حتى وجد من يعظم اجتهادات القدماء تعظيمًا يضاهي تعظيمهم كتاب الله ورسوله. وكل هذا الانشغال لكشف مظاهر التكريم وأسبابه ومواضعه ومراتبه حتى تتولى إثبات مبدأ الاستخلاف، والذي يقتضي تحقيق أسمى مراتب التكريم دون الخلط بين مرتبة الألوهية مع استعمال عبارات التعظيم في حق الآيات ومنزلها جل وعلا.

إن النص القرآني بموجب أشكاله التعبيرية يحمل من المضامين التبليغية حيث يتصدرها المضمون العقدي، حتى إنه لا آية فيه إلا وتحمل وجهًا عقديًا يتعين طلبه وفهمه، ولهذا يكون تحديد المعيار المعتمد لمماثلة النص القرآني هو المضامين العقدية الجديدة، لا سيما أن الآيات القرآنية ترفع مفهوم التوحيد إلى أعلى درجات التجريد التي لم يرفعه إليها قول لا سابق ولا لاحق، وبهذا يكون النص القرآني في حداثته اللغوية بلا نظير عكس ما أقام التأنيس المقلد لأخذه بالمماثلة اللغوية.

ثانيًا: خطة التعقيل المبدعة

وتقصد توسيع نطاق العقل عبر التعامل مع الآيات القرآنية بكل وسائل النظر والبحث التي توفرها المنهجيات والنظريات الحديثة، ذلك دون إضعاف التفاعل الديني؛ لأن الظفر بأسباب منهجية مختلفة دون أسلوب الإسقاط تمكن من استكشاف بعض المعالم المميزة للعقل الذي يختص به القول القرآني؛ أو الإخلال بالفعل الحداثي؛ لأن توسيع آفاق العقل لإدراك أسرار التوجهات القيمية للإنسان يجعله يزدوج فيه المادي بالمعنوي وينقذه من أخطائه؛ بل يتحقق الإبداع الموصول عند التعامل العلمي هذا؛ ذلك أن توسيع العقل شرط في إدراك القيم وما التعامل العلمي إلا لبيان وجوه توسيع العقل.

وعليه، فإن خطة التعقيل المبدعة أكثر انشغالًا بالعقل، حيث يتولى جلب ما ينفع الفكر العقلاني ودفع ما يضره من الغيبية الغالية، حتى وجد من اعتقد أن كل أحداث المستقبل غيب لا يمكن أن يحيط ببعضه الإنسان، مع العلم أن الإله علمه ما لم يكن يتصوره أن يعلمه وما زال يعلمه ما ليس في حسبانه. وكل هذا لتعقب مظاهر توسيع العقل في الآيات القرآنية ومواطنه وأقداره حتى تتولى إثبات مبدأ التدبر، والذي يقتضي تحقيق الوصل بين أفق الإدراك حسيًا والعقلي والوصل بين أفق الإدراك العقلي والروحي، لأن القلب في القرآن ملكة جامعة ومصدر كل الإدراكات الانسانية.

إن النص القرآني بموجب ما يتضمنه من عبادات وقصص تمثل الوسيلة لممارسة عقل أعلى عكس النص الديني الوثني، بل يهيمن على النصوص الدينية المنزلة قبله، حيث بلغ مبلغًا في توجيه العقل إلى مزيد السداد لجعله يرتقي إلى رتبة الإحسان، أي، ما يجعل النص القرآني في حداثته الدينية بلا نظير عكس ما أقام التأنيس المقلد لأخذه بالمماثلة الدينية بين النص القرآني وباقي النصوص.

ثالثًا: خطة التأريخ المبدعة

وتقصد ترسيخ الأخلاق عبر وصل الآيات القرآنية بظروف بيئتها وزمنها وسياقاتها المختلفة، ذلك دون إضعاف التفاعل الديني؛ لأن الظروف والسياقات الخاصة التي وردت فيها الآيات القرآنية هي التحقق الأول والأمثل للمقاصد أو القيم؛ أو الإخلال بالفعل الحداثي؛ لأن مضمون الحكم له وجهان: وجه قانوني وآخر أخلاقي مع تبعية الوجه القانوني للوجه الأخلاقي، وأن الأحكام تقدر بقدر الأخلاق التي تورثها، لا سيما أن الأخلاق ضرورات ينحط الإنسان بتركها وتختل الحياة بفقدها عكس ما رسخ بالأذهان أنها كمالات؛ بل يتحقق الإبداع الموصول عند الاشتغال بآلية الوصل هذه؛ ذلك أن ترسيخ الأخلاق هو الغاية الأولى من البعثة المحمدية وما الوصل الظرفي والسياقي إلا لبيان وجوه ترسيخ الأخلاق.

وعليه، فإن خطة التأريخ المبدعة أكثر انشغالًا بالحُكمية في الحياة، حيث يتولى جلب ما ينفع الحُكمية ودفع ما يضره من الحُكمية الجامدة، حتى وجد من تعلق بأحكام الرق وأحكام التعامل مع المشركين. وكل هذا لكشف أشكال التخليق ومواضعه ونماذجه ودرجاته حتى تتولى إثبات مبدأ الاعتبار، والذي يقتضي تحقيق مقاصد وقيم مخصوصة تشكل عبرًا للإنسان تفضي إلى التغيير.

إن النص القرآني بموجب وضعه التاريخي حيث إنه النص الديني الخاتم، يمتد زمنه بحيث يكون راهنيا بشكل دائم، اختص بقيم أخلاقية وروحية عليا لا ينال منها توالي الزمان، بل إن من القيم ما تنال من الزمن، أي ما يجعل النص القرآني في حداثته التاريخية بلا نظير عكس ما أقام التأريخ المقلد لأخذه بالمماثلة التأريخية بين النص القرآني وباقي النصوص التاريخية.

في الختام، إن هذه المساهمة تقصد أساسًا إلى التعريف بالفيلسوف د. طه عبد الرحمن وبعض ما جاء به من خلال الفلسفة الائتمانية، وأيضا التنبيه إلى وجود وجهة نظر لم يُعط لها الاهتمام الذي تستحق، لا سيما أنها تحمل من الإبداع ما نحن بأمس الحاجة إليه.

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى