الدكتور أحمد كافي يكتب عن التراجعات والتوبة العلمية

 من جليل الأعمال في ديننا وعند الأعلام التوبة مما تبين لهم خطؤهم فيه. ولكن هناك قطاع طرق التوبة الذين لا يريدون للمسلم أن إذا تبين له الخطأ أن يرجع عنه.
أن يناقش أهل العلم العالم في رأيه الأول أو في تراجعه، هذا حقهم. بل إنه هو الواجب الذي يطوق ذمتهم. فهم مسؤولون أن يقولوا بعلم ابتداء ووسطا وانتهاء، ومأجورون على كل الذي قالوا به.
فالرأي الابتدائي عن علم، والتراجع عنه عن علم مثله.
المحمدة للمتراجعين:
لهم المحمدة من جهتين:
الجهة الأولى: أنهم صدروا عن علم في القول الأول وإن أخطأوا في حقيقة ما صدر عنهم، وبين لهم الآخرون الخطأ فلم يقتنعوا به. لأن التكليف في حقهم ما استبان لهم، لا ما استبان لغيرهم. وكل مسلم مكلف بالبيان المستقر عنده لا عند غيره.
الجهة الثانية: أنهم تراجعوا عن علم. فإنهم كما صدروا علم وهم سعداء به، فقد تراجعوا عن علم وهم أحق به وبإكرامه.
لكن السفهاء التفهاء يشنعون على العالم تراجعه.
قطاع طرق التوبة العلمية:
لكن هناك قطاع طرق التوبة، لأنهم فرحون بعدم التوبة حتى يستمروا في الثرثرة وبعثرة الكلام. لا تهمهم القضايا العلمية التي لهم فيها رأي أن يتسلحوا بالعلم في فريها، بل غرضهم الأشخاص والقائلين. ولذلك لا تجد عندهم قول في البيان، وأنا أندبك ان تنظر في بضاعتهم، فلن تجد إلا التشنيع.
هؤلاء شياطين إنسية وتعمل عمل الشياطين عندما يشهروا بالمتراجع، وأنه تراجع عن هذه أو تلك.
إذ متى كان أهل العلم يشنعون على المتراجع عن قوله، ويتمسكوا بما لم يعد لقائله بقول له إثر تراجعه عنه؟.
الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
وأما الصحابة الكرام فقد تراجع كثير منهم عما بدا لهم الخطأ فيه، من أمثال عمر وعلي وغيرهما لمن أدمن مطالعة تراجمهم.
تراجع الفاروق عن تحديد سقف المهور، وتراجع عن قضايا في الفقه معروفة. وأراد البعض منهم أن يرجع إلى سابق قوله الذي لم يعد له قولا، فقال كلمته الذهبية التي أصبحت قاعدة: تلك على ما قضينا، وهذه على ما نقضي.
ثم أرسل إلى صاحبه يضع له صوى القول الفقهي، فقال له في رسالته في القضاء:” ولا يمنعنَّك قضاءٌ قضيتَ فيه اليوم فراجعت فيه رأيك، فَهُدِيتَ فيه لرشدك، أن تُراجعَ فيه الحق، فإن الحقَّ قديمٌ لا يُبْطله شيءٌ، ومُراجعة الحق خير من التمادي في الباطل”.
لا يريد التافهون الخير بالمتراجعين، بل إرادتهم تتعلق بالتمادي في الباطل.
لا تسألوني ماذا هذا الحبر فيكم:
وتراجع أبو موسى الأشعري في قضية ميراث ابنة الابن مع البنت…فقال كما في الصحيح:” لا تسألوني ما دام هذا الحبر فيكم”(البخاري).
سفيان الثوري(ت161هـ):
وهو من أعاظم الأئمة من أهل العلم، وكان من اجتهاده تقديم علي على عثمان مع تشيع ملحوظ، وكان يبيح النبيذ الذي كثيره مسكر، وكان يشربه كي يراه الناس كما ذكروا. ولذلك قال عن هذا الاجتهادات الذهبي: واغتفر له غير مسألة اجتهد فيها، وفيه تشيع يسير، كان يثلث بعلي…”، ثم قال بالتقليل في القول:” ويقال: رجع عن كل ذلك”.
الإمام مالك: أجئت تبكتني بذنوبي
وتراجع مالك رحمه الله تعالى عن أقوال صدرت منه في الدين. منها تراجعه عن عدم تخليل الأصابع، ومنها ومنها… ولقد قال هؤلاء السفهاء في بعض تصرفاته التي أرادوا منه أن تجري على ناموس واحد، وأن لا يقول قولين أو يصدر عنه موقفين، فرد عليه الإمام بغضب: أجئت تبكتني بذنوبي.
التشهير بالخطإ:
يعتقد هؤلاء الذين تزببوا باكرا فأفسدوا بدو صلاح الثمرة أن عاجلوا قطفها ببدوها، أنهم سيسيؤون لمن أخطأ أو تراجع. وأنها فرصة النيل ممن لا يرتضونه من أهل العلم مواتية.
ما أقبحهم وما أتفههم.
لقد حضر الدارقطني مجلس ابن الأنباري، فصحف في اسم، قال: فأعظمت أن يحمل عنه وهم. وهبته، فعرفت مستمليه”.
أي أنه لم يقم بالتشهير به وهو بين طلبته ومكانته في نفوسهم عظيمة. بل أخبر مستمليه فقط أن يعلم شيخه.
قال الدارقطني: فلما حضرت الجمعة الأخرى، قال ابن الأنباري لمستمليه: عرف الجماعة أنا صحفنا الاسم الفلاني، ونبهنا عليه ذلك الشاب على الصواب(سير أعلام النبلاء).
فتراجع من غير عقدة أو خوف من التراجع. ولم يهتبلها الدارقطني فرصة للحط من إمامة الرجل. فإنها لا تسقط أقدار الرجال بالأخطاء إن لم يتراجعوا عنها لأنها في نظرهم ليست كذلك، ولا بالتراجعات إن صرحوا بها.
وذكروا أن ابن الأنباري أملى (غريب الحديث) في خمسة وأربعين ألف ورقة. وأنه بهذا العدد يكون الكتاب في أزيد من مائة مجلد.
أو يعتقد معتقد أن مثل هذا الكتاب الواحد عنده بهذه الضخامة سالم كله من الغلط والأخطاء.
لا يكون ذلك لكتاب في الأرض، وإنما هو لكتاب واحد فقط: القرآن الكريم.
رجع عن هذا:
وكثيرة هي التراجعات التي وقعت من أهل العلم، وهي عند العقلاء دليل إيمان وإخلاص وعلم ويقين. وتجد أهل التراجم والطبقات يذكرون عن هؤلاء عبارتهم المشهور: ثم رجع عن هذا.
ولأمثل لكم بما كان من موقف الشافعي من أحاديث أهل العراق. فقد قال يونس بن عبد الأعلى: قال الشافعي: كل حديث جاء من العراق، وليس له أصل في الحجاز، فلا تقبله وإن كان صحيحا، ما أريد إلا نصيحتك”.
وعلق الذهبي على هذه المقالة قائلا:” قلت: ثم إن الشافعي رجع عن هذا، وصحح ما ثبت إسناده لهم”(سير أعلام النبلاء).
التراجعات دليل على الإمامة:
ولا يقوم بالتراجع إلا كبير النفس لا يخشى من القول يصدع به، ولا يخشى من التراجع عنه إذا بدا.
ولذلك تراجع في هذا العصر: الشيخ ناصر الدين الألباني في جملة من أخطائه، ورد على السفهاء التفهاء الذين أرادوا تبكيته بأخطائه وتراجعاته.
وتراجع قبله الشيخ محمود شلتوت في قوله في الربا. وتراجع الشيخ علي عبد الرازق عن كتابه كله، وذكر أنه كان من وحي الشيطان جرى على لسانه وقلمه. وتراجع الشيخ خالد محمد خالد عن كتابه من هنا نبدأ، وتراجع الشيخ يوسف القرضاوي عن قضايا معلومة، منها مأ اعلن عنه، ومنها ما ذاكر فيها أهل العلم وجهر بآخر ما استقر عليه قوله.
وقد استفاق الصغار متأخرين على موقفه من التقريب، واكتشفوا أنهم وجدوا ما به يعتبون ويشهرون…
ما أتفههم،
وما أتفهم منطقهم،
وما أتفه مقصودهم السيء.
قطاع طرق التوبة:
فمن تعلق بالتراجعات دون مناقشة الفكرة وتقليب النظر في المسألة لبيان خطإ فلان أو علان، فهذا سفيه تافه، للذي سبق قولي وبياني، وهو أنهم قطاع طرق التوبة على أهل العلم.
أما من ناقش الموضوع، وصال وجال في البيان، ونصح الأمة بأن حذرها من أخطاء الرجال، فهذا من الراشدين العقلاء.
المجلدات:
ولو رحت تجمع تراجعات أهل العلم ما وسعك كتاب، ولا ضم بحثك المجلدات. لأن الأخطاء ملازمة للمسلم. وإذا كانت المعاصي قليلة فيهم، بما عندهم من العلم الحاجز عنها عموما. فإن المعاصي والأخطاء العلمية لا أعلم إماما أو عالما سلم منها. وهي التي جعلت الشافعي يقول في بعض تراجعاته: أبى الله أن يتم إلا كتابه.
الانتفاع بالتوبة العلمية:
ونحن ننتفع بصواب أهل العلم انتفاعا كبيرا، وننتفع بأخطائهم انتفاعا عظيما مباركا. لكن المشكلة أن الصغار يحولون الأخطاء والتراجعات حلبة للتراشق. ولو علموا أن من عظيم نعم الله تعالى على خلقه أن يخطأوا فيتطورا ويتحسنوا بالأخطاء، ما قالوا هجرا، ولا نطقوا إثما.
لأن الله تعالى يفرح بتوبة عباده، وهؤلاء يشيعون في الناس الخوف من الأخطاء، فيسلون سيف قبحهم عليها بعدوان.
كيف وقد قال سيد الخلق:” والذي نفسي بيده، لو أخطاتم حتى تملأ خطاياكم ما بين السماء والأرض، ثم استغفرتم الله لغفر لكم”، “والذي نفس محمد بيده، لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون، فيستغفرون الله فيغفر لهم”(مسلم).
ولو تتبعت منطقهم هذا لوجدتهم أقرب في تفكيرهم إلى الفرقة القائلة بالعصمة، وإن كانوا من جهة القول يرفضون ذلك، غير أن ما يفكرون به ويعملون على وفقه هو من هذا القبيل. غير أن القلب الممتلئ بالضغينة أعمى بصره، وورطه في هذه المعصية مع أهل العلم.
بقلم الدكتور أحمد كافي
-*-*-*-*-*-*
“مقالات رأي” المنشورة بهذا الموقع  لا تعبر بالضرورة عن رأي الهيئة الناشرة

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى