البعوضة والنمرود – عبد الواحد رزاقي

الإنسان مستخلف في هذه الأرض ليعمرها ويصلح فيها لا ليفسد فيها ويسفك الدماء قال بعض العلماء يفسد الإنسان في الأرض حالة السلم ويسفك الدم حالة الحرب.

مصداق ذلك في قوله تعالى على لسان الملائكة:: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) البقرة 30.

لإثبات الاستثناء الذي جرى في علم الله، ولم تدركه الملائكة.

اعتقد الإنسان منذ أن خلق على وجه هذه البسيطة أنه قادر على قهر الطبيعة وتسخيرها كما يحلو له وترويضها حسب هواه.

هناك نماذج بشرية كثيرة عبر التاريخ صدقت نفسها بأنها قادرة على فعل أي شيء. بل ذهب ببعضها الغرور والطغيان وحب الاستعلاء إلى ادعاء الألوهية جاء ذلك في قوله عز من قائل على لسان فرعون مصر.

(وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ 38) القصص.

فأن تصل الوقاحة بابن آدم إلى ادعاء الألوهية واستضعاف شعبه وإذاقته المهانة والمذلة، فذلك والله عين الطغيان والتجبر. ولكن الله تعالى بعد أن استدرج فرعون وظن أنه قادر جاء الرد المزلزل من الجبار فقال سبحانه:”

( وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ 40) نفس السورة.

فالأجساد في الدنيا للغرق وفي الآخرة للحرق.

وكذلك نمرود بن كنعان حينما أدعى أنه يحيي ويميت فواجهه سيدنا إبراهيم عليه السلام بأن الشمس تطلع من المشرق فليأت هو بها من المغرب فبهت الذي كفر.(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ 258) البقرة .

والإحياء إنما تأوله عدو الله. فقد عفا على من كان قد حكم عليه بالإعدام، والإماتة أن ينهي حياة مذنب حسب شريعة الغاب التي يعتنقها. فلما قتل أحدهما بادره سيدنا إبراهيم بإحياء القاتل فعجز نمرود عن الإجابة. وقد تحداه عليه السلام رغم عدم اقتناعه بحجة الإحياء والإماتة بآية أكبر وأعجز بأن الله يأتي بالشمس من المشرق فلتتفتق عبقريته وقدرته المزعومة بإتيانها من المغرب، فأسقط في يديه وأحس بالخزي والصغار ودعا بالويل والشنار. وذلك ما عبر عنه القرآن الكريم: “فبهت الذي كفر” تعبير دقيق على الصدمة وهول المفاجأة. والعجز التام عن فعل أي شيء مهما صغر.  وقد حكى المؤرخون أن نمرود ابتلاه الله بأصغر مخلوقاته وهي البعوضة التي دخلت أنفه لتستقر في دماغه، فأحدثت له من الألم والعذاب، ما دعاه إلى اعتماد طريقة مؤلمة وهي ضرب رأسه بالمطارق والأحذية حتى يهدأ عنه الصداع. فمكث زمنا طويلا يعذب وينكل به، فمات شر ميتة وقضى عليه ربه الجبار بأحقر مخلوقاته.

القصة الثالثة قوم عاد الذين بنوا ارم ذات العماد فطغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد فحكى الله عن مصيرهم:” 

( فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ 16) فصلت.

ولقد أنعم الله تعالى على قوم عاد بالبسطة في القوة والجسم لكن حينما يغيب الإيمان ويحضر الشيطان بفعل عامل التكبر والطغيان تنطمس البصائر. يقول سيد قطب رحمه الله في الظلال: “وهو الشعور الكاذب الذي يحسه الطغاة. الشعور بأنه لم تعد هناك قوة تقف إلى قوتهم. وينسون: “أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً” ..إنها بديهة أولية.. إن الذي خلقهم من الأصل أشد منهم قوة. لأنه هو الذي مكن لهم في هذا القدر المحدود من القوة. ولكن الطغاة لا يذكرون.2

فكانت عاقبتهم الهلاك بالريح التي اقتلعت أجسادهم الطويلة ومساكنهم العتيدة الشاهقة ريح مسترسلة سبع ليال وثمانية أيام حسوما مدة كافية حاسمة لقطع دابر الطغاة الكافرين والجاحدين بالنعمة.

القصة الرابعة، قصة قارون ذي الأموال الطائلة التي عجزت عن حمل مفاتيح خزائنها الدواب الكثيرة قال الله تعالى:

(إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ) 82. القصص.

فقارون من قوم موسى وليس واحدا غريبا يمكن أن يستغل غربته وعدم اختلاطه بالناس للاستعلاء على قوم موسى ولكنه واحد منهم يعرفون أصله وفصله ودقائق أموره لكن سوء معدنه وخبث نفسه دعته للبغي والتسلط على قومه بسبب الثراء الكثيف الذي تم التغبير عنه بالمشقة التي يجدها حاملو مفاتيح كنوزه لكثرتها وقوتها. وقد نبهه قومه بالرجوع إلى ربه صاحب النعم وعدم التكبر والتباهي بالمال، ودعوه إلى الاعتدال في مطالب الدنيا ومطالب الآخرة والإحسان إلى الخلق كما أحسن الله إليه، لكن المجرمين تأخذهم العزة بالإثم حينما يوعظون ويذكرون بالله، مصداق ذلك قوله تعالى في سورة البقرة:”( وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ 206). فكان رده مخيبا للآمال كافرا بالنعم:” قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78) فأرجع السفيه تلك النعم والكنوز والوضع الاجتماعي المترف والباذخ إلى علمه وحسن تدبيره، وقيادته الحكيمة المزعومة وتخطيطه ومهارة إدارته لأموره التجارية والكسبية، وهذا فيه من الكفر البواح ما فيه بحيث لم يرجع النعمة لصاحبها المنعم وفاته قصص الطغاة والجبابرة سواء كانوا زرافات أو وحدانا، الذين لاقوا مصيرهم النكد بفعل طغيانهم واستكبارهم وعدم خضوعهم لخالقهم.  

) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81)

فكان جزاؤه أن عوقب بعكس مراده فبعد أن علا وشمخ بأنفه تكبرا ولم تعد تسعه الأرض بما رحبت صار أسفل سافلين خسفا وانغراسا في سراديب الأرض وترديا في مهوى سحيق، فكانت الخاتمة السوء ملهمة للذين غرتهم مظاهر البذخ والرفاه ممن تمنوا مكانه فوقفوا على حقيقة الضعف البشري، ومستوى الطفولة البشرية كما وصفها سيد قطب رحمه الله.           

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

1- سورة البقرة.

 https://www.youtube.com/watch?v=TVTBf0P6vh0

2 – في ظلال القرآن

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى