الإدريسي يكتب: في قيمة العمران – 19 –
لم يَرد لفظ العُمران في القرآن الكريم بهذا المَبنى، وإنما ورد فيه باشتقَاقات دلَّت على هذَا المعنى وغيره، من قبيل: استعمَر، وعِمارة وعمَّر وعُمرة، وغيرها، بما مجموعه خمسة وعشرين مرة، وورد في القُرآن العظيم لفظ “عِمرَان”-وليس عُمران- ثلاث مرات ولكن بصيغة اسم عَلَم، كما في قوله تعالى في سورة التّحريم الآية 12، يقول تعالى: ﴿وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ﴾.
ومفهُوم العُمران باعتباره قيمة مركزيةً ومحوريةً في النسق القرآني، يستوعب المعاني الواردة في اللسان العربي، الذي يعني الإقامة والبقاء والامتداد في الزمن والبُنيان والإعمار والتعمير والإسكان، وهي نقيض الخراب والفساد والافساد والتدمير، وعمارة الشيء إصلاحه، وقيمة العُمران بمضمونها القرآني: “لا تعني تخطيط بناء المادة وهندسته فحسب، كلا! وإنمَّا المقصود به هندسته المذهبية الحضارية الكامنة في الإنسان، التي بمقتضاها كما كان، العمران إذن: هو بناء الإنسان، بما هو عقيدة وثقافة، وبما هو حضارة وتاريخ، وبمَا هو فِكر ووجدان، وبما هو نَفَس ونَسيج اجتماعي”(الفطرية بعثة التَّجديد المقبلة من الحركة الإسلامية إلى دعوة الإسلام)، بهذا العمق جعل فريد الأنصاري رحمه الله رؤيته للإصلاح تنبني على المقولة المنهاجية: من القُرآن إلى العُمران.
ونظرا لمركزية قيمة العمران في منظومة القرآن المجيد فقد جعلها الدكتور طه جابر العلواني قيمة عليا ضمن القيم العليا للقرآن الكريم، وهي التوحيد والتزكية والعمران، وسار على النهج نفسه الأستاذ الدكتور فتحي ملكاوي الذي بين هذا الأمر بقوله:” العمران في المصطلح القرآني هو عمران الأرض بحياة الإنسان، وعمران الإنسان بالخير والعمل الصالح، والارتقاء بأسباب الحياة ومقوماتها بإنجازات عمرانية مادية ومعنوية، يتعزز معنى العُمران بمعرفة ما يقابله، فهو حياة مقابل الموت، وصلاح وبناء مقابل الخراب والدمار والهلاك، كما يتعزز معنى العمران بمعرفة الأصل الذي يتفرع عنه، فالإيمان-عقلا وقلبا، وإقامة الحياة على أساس الهدى عملا وتطبيقا- هو الأصل، والعمران بالنعيم الدنيوي والأخروي نتيجة “(العمران في منظومة القيم الحاكمة، مجلة إسلامية المعرفة).
وكان من أوائل من انتبه إلى هذه القيمة المركزية في الاجتماع الإنساني العلَّامة عبد الرحمن بن خلدون، حيث جعل العُمران دليلا على نمط الحياة بوجه عام، وبيّن أنه من أهم الخصائص التي تميز بها الإنسان عن سائر الحيوانات والمخلوقات، وأن الله تعالى سخَّر له الكون لهذا المقصد والغاية، والذي يعني: “التساكن والتنازل في مصر أو حلةٍ للأنس بالعشير واقتضاء الحاجات لما فيه من طباعهم من التعاون على المعاش”(المقدمة) ،وقد استلهم ابن خلدون هذا المعنى الأصيل من القرآن الكريم في قولِه سبحانه تعالى: ﴿هُوَ أَنْشَأَكُم مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُم فِيهَا﴾ سورة هود، الآية: 61.
وقيمة العُمران مستفادة من عديد الآيات القرآنية، وعلى رأسها آيات الأمَانة والاستخلاف والأحكَام، وكذلك آيات القَصَص القرآني، حيث اعتبرها الكثير من العُلماء مَقصدا عامًّا للشريعة ، كما أكَد على ذلك كل من الشّيخ رشيد رضا، والعلَّامة الطاهر بن عاشور، والدكتور طه جابر العلواني والدكتور فتحي ملكاوي وعلّامة المغرب الزعيم علَّال الفاسي الذي يقول:” المقصد العام للشّريعة الإسلامية هو عمَارة الأرض، وحفظ نظام التَّعايش واستمرار صلاحها بصلاح المستخلفين فيها وقيامهم بما كلفوا به من عَدل واستقامة، ومن صلاح في العقل وفي العمل، وإصلاح في الأرض، واستنبَاط لخيراتها وتدبير لمنافع الجميع..”(مقاصد الشريعة ومكارمها).
إن العُمران بالمعني القرآني هو تجل من تجليَّات أداء أمانة الاستخلاف في الأرض التي تجعل الإنسان عنوانا للصلاح والرحمة والخير والجمال، وحريصًا كل الحرص على الرُّقي الحضاري والتسامي الاجتماعي، مما ينعكس على سلوكه وبيئة عيشه وفضاء كدحه، ولذلك استطاع المسلمون بناء حضَارة تجمع بين الشموخ المادي والرقي الروحي، في تكامل بين المبدأ والوسيلة، وتساوق بين العلم والعمل، وانسجام تام بين عمران الدنيا وعمران الآخرة، يقول تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ سورة النحل الآية 97.
وبالتالي فالعُمران الحضَاري في الرؤية القرآنية يقوم على تأهيل الإنسان ليقوم بوظائفه الكُبرى، ولذلك بعث الله الأنبياء والمرسلين قائمين بهذه الوظيفة ومذكِّرين بها، بالإضافة إلى حُسن استثمار الإمكانات والموارد الطبيعية، واستحضار واع لعنصر الوقت والزَّمن، ومُلابسات المكان، ودُعاء سيدنا إبراهيم عليه السَّلام يشير إلى هذه المعطيات، يقُول تعالى: ﴿رَبَنَّا إِنّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَتي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ المُحَرَّم رَبَّناَ لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَل أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِم وَارْزُقْهُم مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُم يَشْكُرُونَ﴾ سورة إبراهيم، الآية :37، ويقول تعالى في سورة الحديد:﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ، وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُم مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ، ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾.
والمؤمن الحامل لِواء الرِّسالة، والمُنسلك في درب الإصلاح، هو الأكفأ لتمثَل هذه القيمة القرآنية العظيمة بعمقها الأخلاقي وامتداداتها الحضارية، المتمثلة في عمارة الأرض حتى وهو على فراش الموت، وإن شهد قيام الساعة، ففي الحديث الصَّحيح عن أنسِ بن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إذا قامت الساعةُ وفي يدِ أحدكم فسيلةٌ، فإن استطاع ألا يقومَ حتى يغرِسَها فليفعل”، إنها دعوة إلى العمل والإعمَار دون فقدان للأمل، ولو كان ما كان، لأن منطق الآخرة حاضر وبقوة في كدح المؤمن واجتهاده، وسلوكه إلى الله تعالى، وهو تجلٍّ من تجليات العُمران في بُعديه الدنيوي الأخروي، وصدق الرحمن القائل: ﴿ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾. سورة التَّوبة، الآية:105.
والأمة اليوم مدعوة بأفرادها ومجموعها إلى إحياء شُعب الإيمان كلِّ شعب الإيمان، لأنها أساس العمران، من قول لا إله إلا الله إلى إماطة الأذى، ومن فَشِلَ في الأدنى فشل في الأعلى، ومن فشل في الأعلى فشل الأدنى، والله المستعان!