الإدريسي يكتب: في قيِمة الكرامة -17 –
خلَق الله تعالى الإنسَان وأسكنَه الأرضَ، وأنَاط به أمانة الاستِخلاف ومهمة العُمران، وقبل ذلك وبعده فقد كرَّم الله سبحانه هذا الإنسَان عندما خلق آدم عليه السَّلام بيديه، ونفخ فيه من رُوحه، ثم أمر المَلائكة بالسجود له تعظيما واحتراما، يقول تعالى:﴿إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلاَئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾ سورة ص، الآيات: 71 – 74 ، وقد تكررت هذه القصَّة في العديد من السُّوَر، ثم عرَضَ عليه الأمانة الكبرى فتحَمَّلها، وكان أهلا لها، بعد أن أشفقت السموات والأرض والجبال، قال الله تعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ﴾ سورة الأحزاب الآية :72، وكانت الغاية من تحمل الأمانة هي القيام بأعبَاء الاستخلاف وإصلاح الأرض والمُحافظة عليها قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ سورة البقرة، الآية: 30.
كل ذلك يُبين بما لا يدع مجالا للشَّك والارتياب، أن الإنسان في المَرجعية القُرآنية يحتل مكانة عظيمة بين سائر المخلوقات، لا تنفك عن منزلة التكريم في العقل والجسم والروح، والتفضِيل عن باقي المخلوقات، يقول تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ﴾ سورة الإسراء، الآية: 70، وهذه الحقيقة هي جوهر التصَور الإسلامي التي تجعل الرفعة الذَّاتية للإنسان ، لأنه كائنا مكلَّف بتوحيد الله تعالى وعبادته، وفي الوقت نفسه إعمار الأرض وإصلاحها، يقول سبحانه وتعالى: ﴿وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا رقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۖ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ۚ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ﴾ سورة هود الآية: 61.
ومِن مُقتضيات التكريم الإلهي للإنسان وفق التصور القرآني، أن يعامَلَ الإنسان بغض النظر عن معتقده ودينه، ولونه وعرقه، ولغته وطبقته، بالاحترام التام في تجب لأي امتهان أو احتقار مادي أو رمزي.
وهذا ما يجعل قيمة التكريم أو الكرامة تتخذ في عصرنا الحالي أبعادا حقوقية، مستوعبة لكل التطور الحاصل في مجال حقوق الإنسان، وما راكمته البشرية في هذا الصدد، فكل الأحكام والتوجيهات الواردة في القرآن الكريم جعلت من مقاصدها الكبرى المحافظة على طبيعة الإنسان وفطرته، وهو الذي أسمَاه الدكتور علي شَريعَتي(الإنسان والتاريخ) بأصالة الإنسان المُتعالية، الناجمة عن التوحيد الذي يجعله يتمتع بفضَائل عدة، كالتكليف والحرية والإرادة والاختيار، وهو بذلك يتحرر من السجون الأربعة للإنسان وهي : سجن الطبيعة، وسجن التاريخ، وسجن المجتمع، وسجن ذاته، وهو أول السجون.
وفي نظري المُتواضع ليتحرر الإنسان من هذه السّجون وغيرها، ويحافظ على كرامته، بل وكينونته، لا بد من إعمال نعمة العقل وملكة التفكير التي وهبهما الحق سبحانه إياه، فبهما يكتسب المَعرفة والخبرة ويطور من وظائفه العمرانية ومهَامه الاستخلافية، يقول سبحانه و تعالى: ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۙ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ سورة النحل، الآية:78 ،في إطار الأمانة والمسؤولية الملقاة على عاتقه من منطلق قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ﴾ سورة الإسراء، الآية:36.
والإنسَان بهذه الاعمال القاصدة يستطيع أن يَستعيد هويته وفطرته إن هي تعرضت للانزياح، وفي الوقت نفسه يستطيع أن يُحصنها عبر مبدأ التزكية، ذلك أن:” التزكية بمختلف مراتبها خيار ثاني يجعل الإنسان يجاهد نفسه للتحقق بالقيم الأخلاقية والمعاني الرُّوحية المنزلة، ابتغاء لمرضاة الخالق جل جلاله، وحفظا لأفضليته في الوجود”، الدكتور طه عبد الرحمن (بؤس الدهرانية: النقد الائتماني لفصل الأخلاق عن الدين).
إن القُرآن المجيد حذر من التردي الأخلاقي والتقهقر السلوكي الذي قد يقع فيه الإنسان بسبب انسلاخه عن التكريم الإلهي له، عبر اتباع هواه أو عبادة غير الله تعالى، الناجم عن عدم الإعمال السليم لملكاته العقلية، يقول تعالى: ﴿أَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً﴾ سورة الفرقان، الآية: 43 ـ 44.
ومن مقتضيات التكريم الإلهي للإنسان تسخير كل ما في الكون لِخِدمة الإنسان، ويسر له سبل استعمال كل الامكانات والموارد والطاقات التي تكتنز بها الطبيعة، لتحقيق الاعمار في الأرض الذي هو تجل من تجليات مبد الاستخلاف، حيث يقول تعالى:﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ﴾ سورة إبراهيم، الآية: 32 – 34، وقال تعالى أيضًا: ﴿ أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ ﴾ ،سورة لقمان، الآية: 20.
وختامًا أدعو الإنسان أن يُعمل عقله وقلبه في الآن نفسه، ويطرح السُّؤال الآتي: ماذا كان قبل أن يكون، هو-هو؟ إن الإجابة على هذا السؤال المحير، لا شك ستصوله إلى الشعور بهذه القيمة التكريمية، التي قد ينساها الإنسان في خضم هذا المعيش اليومي، الذي تحول إلى طاحونة، أو ماكينة تقضي على كل المعاني النبيلة التي فطر الله الناس عليها، والجواب على ذلك السؤال حُسم في اللَّوح المحفوظ بقوله تعَالى: ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا﴾ سورة الإنسان، الآية:1.