ازدواجية التربية .. أسبابها وكيف نواجهها؟
اتفق المربون والمصلحون علي أن أهم مشكلة تواجه الأمة الإسلامية هي الإنسان وبناؤه منذ ولادته بناء متصلا بتراثه وثقافتهالإسلامية ، متفاعلاً مع روح عصره، وملتزماً بقضايا مجتمعه وأمته والتحديات التي تواجهها ، ويجمع هؤلاء المربون علي أن الأسرة هي مكان التربية الأول، فإذا كان المربي واعياً لدوره مقدِّراً لمسئوليته استقام الجيل ونما ، وإذا كان مستهترا بمسئوليته جاهلاً دوره ضاع الجيل ، لذا كان من الضروري أن تلم الأسرة بالأساليب التربوية الصحية التي تنمي شخصية الطفل وتجعل منه شابا واثقا من نفسه صاحب شخصية قوية ومتكيفة وفاعلة في المجتمع .
ومع تصاعد تيار العولمة وتسلله إلي كافة حياتنا ظهرت الكثير من القضايا التربوية منها ظهور مايسمي بـ “ازدواجية التربية” أو “الفصام التربوي” والتي تنبع من حالة التخبط في تربية الطفل والتشتت التي يواجهه في كل مؤسسة تربوية ينتمي اليها.
ومن أهم العوامل الفاعلة في التربية استقرار المنهج التربوي المتبع بين أفراد البيت من أم وأب وجد وجدة وإخوان ، وكذلك المؤسسات الاخري التي يستمد منها الطفل قيمه ومبادئه خاصة المدرسة لأن التناقض والازدواجية فسيعرض الطفل لمشكلات نفسية كبيرة ، وسينتج منه شخصية مشوهة.
وتظهر أزمة “ازدواجية التربية عندما تختلف أسس التربية بين المؤسسات التعليمية والأسرة فيصبح الطفل مشتتا بين جهتين تتناقضان أحيانا في ما يعلم للطفل ، خاصة في ظل الغزو العارم للمدارس الغربية في بلادنا ولتي يدرس بها مربون أجانب لهم ثقافتهم ودينهم المختلف عنا.
عدم وعي
وحول هذا يري الدكتور محمد وجيه الأستاذ بجامعة الأزهر أن هذا الخطأ التربوي يرجع في الأساس إلي عدم الوعي بأصول التربية الإسلامية بين أطراف هذه العملية ومصادرها ، مشيرا إلي ضرورة أن يكون المصدر الرئيسي الذي تستمد منه جذورها هو القران الكريم والذي تمثله المدرسة النبوية في التربية .
ويضيف أن أزمة ازدواجية العملية التربوية ترجع إلي أسباب عديدة فعلي المستوي العام أصبح الفرد محاطا بوسائل الإعلام التي تنقل لنا فكرا غربيا بعيدا كل البعد عن قيمنا وديننا ونعتبره النموذج المثالي الذي يجب أن يحتذي به فندخل أبنائنا في مدارسهم ونعتمد علي أفكار مربوهم في توجيهنا لهم وننسي تماما قيمنا وجذورنا الإسلامية ، ويزداد الأمر تأزما إذا كان الأب والأم يختارون المدرسة الإسلامية في التربية وتختلف طرق التوجيه فتنشأ “ازدواجية تربوية داخلية”.
ويستشهد الدكتور محمد وجيه ببعض المواقف التي تمثل قمة الثبات في التربية قائلا :” روى ثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ بن مالك قَالَ: أَتَى عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا أَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ، قَالَ فَسَلَّمَ عَلَيْنَا، فَبَعَثَنِي إِلَى حَاجَةٍ، فَأَبْطَأْتُ عَلَى أُمِّي، فَلَمَّا جِئْتُ، قَالَتْ: مَا حَبَسَكَ؟!. قُلْتُ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَاجَةٍ. قَالَتْ: مَا حَاجَتُهُ؟. قُلْتُ: إِنَّهَا سِرٌّ. قَالَتْ: لَا تُحَدِّثَنَّ بِسِرِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدا. قَالَ أَنَسٌ: وَاللَّهِ لَوْ حَدَّثْتُ بِهِ أَحَدا لَحَدَّثْتُكَ يَا ثَابِتُ”.
مشيرا إلي أن هذا الموقف يمثل منتهي التناغم والتوافق، بين المؤسسة التربوية وبين المنزل ، بين دور الحبيب صلى الله عليه وسلم؛ وهو يرتب برقي أساسيات بناء شخصية هذا الغلام العظيم، رضوان الله عليه، وبين دور الأم رضوان الله عليها؛ وهي تكمل هذه الصياغة التربوية الراقية وذلك بأن تتأمل قولتها الواعية: “لَا تُحَدِّثَنَّ بِسِرِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدا”.
ويضيف أن الكارثة تكون عندما يكون التضارب داخل المنزل متمثلا في التناقض في قرارات الوالدين، والكبار عموما أمامهم فالأم تعطي قرارا، والأب يعطي قرارا ويقف الابن حائرا بين الاثنين أي قرار ينفذ مما ! يؤدي إلي ظهور ما يسمي “الانفصام التربوي” أو “الازدواجية التربوية”
وعن أسباب الانفصام التربوي ، يلخصها في : أولا : غياب المعايير والقيم والضوابط التي تحكم أي مؤسسة خاصة الأسرة ، ثانيا : عدم التفاهم, وذلك عندما لا يتفق ولا يتفاهم الجميع على المعايير التي ارتضوها، ويفتقد التواصل والتعاون ، ثالثا : غياب الاحترام، فكل طرف يكسر ويخترق ما يفعله الطرف الآخر ، رابعا : عدم الخشية من الله: فالقائم على تربية الأبناء لا يتق الله عز وجل فيما استأمنه عليه من قِبَل الله عز وجل، ثم من قِبَل الوالدين. والأخطر أن تنعدم الخشية عند الوالدين.
تناقض وتذبذب
بدوره ، يري الدكتور مدحت الزيني أستاذ علم النفس التربوي أن من اخطر ما يواجه الطفل في مراحله الأولي خاصة بداية الإدراك ذلك التناقض والتذبذب في المعاملة وفي تعليم المبادئ والسلوكيات فيعاقب الطفل على سلوك معين من طرف ويثاب على نفس السلوك من الطرف الآخر فمثلا يضرب الطفل أخاه لأنه أخذ لعبته فيؤنبه ويزجره أحد الوالدين لأنه أخطأ التصرف مع أخيه، بينما يثني عليه الآخر لأنه “أخذ حقه ولم يكن ضعيفا” .
ويضيف إن الأمر يكون أصعب وأخطر عندما يكون الطرف الواحد متناقضا في طريقة تربيته لابنه , فمرة يثني علي احد التصرفات ومرة أخري يعاقب عليه ، وغالبا ما يترتب على إتباع تلك الأساليب شخصية متقلبة مزدوجة في التعامل مع الآخرين.
ويوضح ابرز صور الانفصام التربوي داخل الأسرة الواحدة فمثلا الأب يعطي قرارا معينا يخص الأسرة عامة، ثم تأتي الأم لتعطي قرارا مخالفا – الأب يعطي جزاء وعقابا للأبناء، ثم تأتي الأم وترفع هذه الجزاءات من خلف ظهره، والأخطر إذا كانت تمارس هذا السلوك سرا – يتفق الوالدان على قرارٍ يخص الأبناء، ثم يأتي الجد لتخالفه، ولو بدعوى الحنان والعطف على الأحفاد – تتفق الأسرة على معايير معينة لتنظم سلوكيات الأبناء، ثم يأتي الأقارب ليكسروها، حتى ولو على سبيل النقد – أن يواجه الأبناء معايير أو مبادئ أو قيما في المدرسة أو النادي، تتعارض أو تناقض معايير وقيم المنزل والأسرة .
ويشير إلي انه علي المستوي الأوسع خارج نطاق الأسرة نجد هذه الازدواجية عندما تختلف طرق التربوية في المؤسسات التعليمية عن تلك المتبعة في المنزل فيصبح الطفل مشتت بين الاثنين الأب والأم يقولون له افعل كذا وتقول له المعلمة لا تفعل هذا السلوك ، إضافة إلي الدور السلبي التي تقوم به وسائل الإعلام خاصة قنوات الأطفال التي تعتمد علي برامج غربية “مدبلجة” تحمل القيم الغربية بما فيها من تسيب ومادية وانتهازية .
ويعدد الدكتور الزيتي الأضرار النفسية الناجمة عن هذا التضارب في أولا : عدم القدرة علي التمييز بين الصواب والخطأ حيث تسبب ازدواجية التربية في إرباك الطفل وتجعله غير قادر على تحديد ما هو مقبول منه وما هو مرفوض ،وما هو صحيح وما هو خاطئ بل يصل الأمر إلى أن لا يفرق بين ما هو حلال وما هو حرام , فكل من الوالدين قد جعل من نفسه مفتيا لولده بما يراه ، ثانيا : دفع الابن إلي الكذب كأن تَعرض الأم على زوجها أمراً فإذا أبى الزوج خالفته خفية مع أولادها، فيتعود الأولاد مخالفة الوالد والكذب عليه ، ثم يقومون بنفس التصرف معها هي إذا احتاجوا إليه ،فنجد أنفسنا أمام شخصية غير سوية .
ويضيف أن من الأضرار أيضا تنمية مشاعر العدائية تجاه احد الطرفين فقد يكره الطفل والده و يميل إلى الأم أو قد يحدث العكس إذا كان أحداهما يتصف باللين و الآخر يتصف بالشدة.
اختلاف ولكن..
من جانبه ، يري الدكتور عبد اللطيف خليفةأستاذ التربية أن الاتفاق علي وسائل التربية داخل الأسرة الواحدة أو بين الأسرة والمؤسسات الاخري التي يستمد منها الطفل قيمه وأخلاقه والاتفاق في أساليب معاملة الطفل، وتحديد السلوك السيئ من السلوك الجيد، يقي الطفل من ازدواجية الشخصية ومن الصراع النفسي الذي لا لزوم له.
ويضيف أن من المشكلات التي تواجهني كثيرا في عملي الاختلاف بين الآباء والأجداد حول تربية الأحفاد أو بين احد أفراد الأسرة الاخري وتكون هنا الكارثة حيث يجب أن تكون الأسرة هي الحصن التي يختبئ فيها الطفل من المتغيرات التي تحيط به والتي تحاول زحزحته عن طريقه التي يستمده من أسرته .
ويشير إلي أن هذه المشكلة ليس لها حل نهائي، ولكن من الممكن التفاهم حوله، وأن يكون هذا التفاهم بعيدًا عن الأبناء ، فلابد أن تدرك الزوجة أن زوجها الذي اختارته من بين كل الرجال قد ربته هذه الأسرة التي ترفض نصيحتها في تربية أبنائها وكذا الزوج يدرك ذلك، وإدراك أن ما يقوم به الأجداد مع الأبناء من تدليل يرجع إلى حبهم لهم كما يقول المثل الشعبي ما أعز من الولد إلا ولد الولد .
ويؤكد انه في حالة حدوث تعارض حول تربية الأطفال لا يجوز أن يكون النقاش أمام الأبناء، ويجب أن يتم التفاهم بالحسنى وأن ذلك في مصلحة الأبناء والاتفاق على صيغة ثابتة حتى لا يتشتتوا ، مشيرا إلي أن التناقض يكون نتيجة لنقص المعلومات عن موضوع ما، فقد يكون لدى الأم معلومات عن أنواع الطعام الصحي وكيفية تناوله أكثر مما لدى الأب، فإذا حاولت الأم أن تفرض على الأبناء نمطا معينا في الطعام يقوم الأب بنفيه .
ويختتم حديثه قائلا :”لماذا نتحث كثيرا عن طرق التربية ونجهد أنفسنا وأولادنا ، ونحن لدينا أصول التربية في القران الكريم ، والمدرسة النبوية الشريفة”.
دور الإعلام
وعن دور الإعلام ، تري الدكتورة هناء السويفي أستاذ الإعلام التربوي أن الإعلام يلعب دورا محوريا في إحداث “ازدواجية التربية” أو “الفصام التربوي” خاصة وان إعلامنا أصبح يستمد مادته الأساسية من الغرب سواء علي هيئة برامج مستورة أو مدبلجة أو برامج عربية تحمل العادات والتقاليد الغربية ونفتخر ونحن نعرضها علي سبيل الافتخار بذلك .
وتضيف أن الازدواجية تحدث نتيجة عجز الطفل عن الجمع بين ما يراه متناقضا بين معطيات الإعلام الثقافية وبين ما تربى عليه في نطاق أسرته من مبادئ وسلوك، وما تلقاه في مدرسته من أحكام ومعارف وقيم، هذا التناقض سيؤدي حتما إلى إيقاع الطفل في حيرة نفسية واضطراب فكري وشتات في الهدف ، خاصة ان كثيراً مما تنشره وتبثه وسائل الإعلام لا يعبر عن تراثنا، ولا يتوافق مع ما يتربى عليه أبناؤنا من مبادئ وقيم، ولا يمثل عادتنا بل يتصادم معها ويخالفها، ويهدد تدمير الهوية الإسلامية عند الأطفال الذي يصعب عليهم في المراحل الأولي التميز بين المعطيات التي تبثها هذه الوسائل.
وتشير إلي أن التليفزيون وحده قادر على الاستحواذ علي الطفل وهو يشاهد هذه الأفلام الكرتونية والصور المتحركة وهو سريع التأثير في اكتساب قيم جديدة تهدد برامجنا التربوية بالانهيارإذ ثبت الأثر السيئ لأفلام العنف على الأطفال، ولعل من أعظم مآخذ التربويين على وسائل الإعلام أنها السر في تدني مستوى طلابنا عموماً على مختلف مراحلهم الدراسية نظراً لتعرضهم لوسائل إعلامية تقدم لهم معلومات ضحلة وثقافة هامشية، لا تتناسب إطلاقاً مع حجم ما يهدرونه من وقت في التلقي لها.
وتوضح انه علي المستوي العام وليس التربوي فقط أصبحنا نعيش في أكبر مثال علي الازدواجية في وقتنا الحاضر هو عالم العولمة فأصبحت الازدواجية كثقافة وقيم تتبناها المجتمعات إلي مستوي الأفراد فهي تستقي القيم مما يحدث بينما المجتمع العربي لديه من القيم والثقافة التي يجب أن نحافظ عليها وهي تتمثل في دستورنا القرآن الكريم وقدوتنا رسولنا الكريم محمد صلي الله عليه وسلم .