احتفالية برشيد (4) – عبد الرحيم مفكير

المطلب الثاني : الاحتفالية: المفهوم، والبدايات

1ـ الاحتفالية : المفهوم

كانت أولى إرهاصات الاحتفالية بالمغرب في السبعينات من القرن العشرين، وبالضبط سنة 76 حيث صدر البيان الأول بمدينة مراكش بمناسبة اليوم العالمي للمسرح بعد سلسلة من الكتابات النظرية والإبداعية التي كتبها عبد الكريم برشيد باعتباره المنظّر الأول لهذا الاتجاه المسرحي الجديد في حين كان الطيب الصديقي المطبق الرئيس لهذه النظرية التأسيسية. وقبل ظهور الاحتفالية، كان المسرح في المغرب إبان الحماية يعتمد على الترجمة والاقتباس وتحوير المسرح الغربي ومغربته ولاسيما مسرحيات موليير الاجتماعية، وكان القالب الأرسطي والعلبة الإيطالية من مقومات هذا المسرح.

وبعد الاستقلال، عرف المغرب المسرح الاحترافي بقيادة الطيب الصديقي والمسرح الإذاعي الذي كان ينشطه عبد الله شقرون. ولكن هذا النوع من المسرح كان لا ينسجم مع تطلعات الشعب المغربي ولا يعبر عن قضاياه وهمومه الاجتماعية إلى أن ظهر مسرح الهواة في مرحلة السبعين الذي بدوره انقسم إلى تيارات ومدارس تدعي التجديد والتأسيس والتأصيل فأصبحنا نقرأ بيانات لعدة تجارب درامية، فهناك مسرح النقد والشهادة مع محمد مسكين، والمسرح الثالث مع المسكيني الصغير، والمسرح الفردي مع عبد الحق الزروالي، والمسرح الاحتفالي مع عبد الكريم برشيد، ومسرح المرحلة مع حوري الحسين، والمسرح الإسلامي مع محمد المنتصر الريسوني.

وتبقى الاحتفالية من أهم هذه الاتجاهات التجريبية الدرامية قوة وتماسكاً واستمراراً حتى أصبح لها أتباع في العالم العربي؛ لأنها أعادت للمسرح العربي وجوده وأصالته وهويته الحقيقية بعد أن كان المسرح العربي يلبس المعطف الغربي روحاً وقالباً ويفكر بعقله ويتنفس برئتيه. 

الاحتفالية ظاهرة مسرحية، وذلك رغم إصرار البعض على وضع كلمة ( ظاهرة) بين قوسين ووضع التنظير والتجديد والإبداع ــــــ وكلمات أخرى غيرها ـــ بين قوسين. إنه أسلوب آخر للتموقف من المسرح الاحتفالي، وهو أسلوب يحصر اجتهاداته وإضافاته في عدد من الأقواس التي يفتحها ويغلقها في وجه الكلمات والمصطلحات إن هذا التموقف السلبي تجاه أي إبداع. 

من المعروف أن الاحتفالية نظرية درامية وفلسفية تعتبر المسرح حفلاً واحتفالاً وتواصلاً شعبياً ووجدانياً بين الذوات وحفراً في الذاكرة الشعبية وانفتاحاً على التراث الإنساني وبناء مركباً من اللغات والفنون السينوغرافية التي تهدف إلى تقديم فرجة احتفالية قوامها المتعة والفائدة عبر تكسير الجدار الرابع الذي يفصل الممثلين المحتفلين عن الجمهور المحتفل بدوره. إنه مسرح يرفض التغريب والاندماج الواهم والخدع المسرحية. ويعرفه عبد الكريم برشيد في بيانه الأول ـ تتغير التعاريف لدى الكاتب من بيان إلى آخر بسبب انفتاح النظرية الاحتفالية ـ:«إن المسرح بالنسبة للاحتفالية تحدد كالتالي:

“إن المسرح بالأساس موعد عام، موعد يجمع في مكان واحد وزمن واحد بين فئات مختلفة ومتباينة من الناس”، موعد يتم انطلاقاً من وجود قاسم مشترك يوحد بين الناس ويجمع بينهم داخل فضاء وزمان موحد.

وهذا القاسم المشترك لا يمكن أن يتجسم إلا داخل إحساس جماعي أو قضية عامة، قضية تهم الجميع، وتعني كل الفئات المختلفة. ومن هنا كانت أهمية هذا الموعد تقوم أساساً على اتساع هذه القضايا ومدى رحابتها وشموليتها.

إن الاحتفال بالأساس لغة، لغة أوسع وأشمل وأعمق من لغة اللفظ (الشعر ـ القصة)، ومن لغة اللحن (الغناء ـ الموسيقى)، ولغة الإشارات والحركات (الإيماء)، وهي لغة جماعية تقوم على المشاركة الوجدانية والفعلية، إن المظاهرة احتفال، لأنها تعبير جماعي آني يتم من خلال الفعل” . .

الاحتفالية ـــ كما عرفت نفسها ـــــ هي هزة قبل كل شيء …. هزة معرفية وجمالية، ولأنها كذلك، فقد كان ضروريا أن تصطدم بالذوق السائد وبالمعرفة الشائعة بالمعتقدات الثابتة والجامدة.

إن انتقالية المسرح الاحتفالي، لم يكن ممكنا لها أن تتم بدون ألم، وبذلك كان الصدام قويا وجذريا، يقول مصطفى رمضان ” ما زالت الاحتفالية تعرف ردود فعل متباينة داخل المغرب وخارجه، خاصة عبر الدراسات الجادة والمعقدة التي تبادلتها في نوع الحياد الأخلاقي. .

نسج العديدون تفسيرهم للاحتفالية وفق تفسيرات وتأويلات تحكمت فيها رؤيتهم الخاصة مما دفع صاحب الاحتفالية إلى جعل البيان الخامس يقول ” الاحتفالية لفظ مطاط ، وبذلك كانت قابلة لأن تتسع وتضيق، وان تكون كل شيء، ولا شيء في نفس الوقت، ومن هنا كانت الاحتفالية احتفاليات، …” فهل تملك الاحتفالية خطا إيديولوجيا أو مسارا فكريا ؟ ” فهي غامضة عند الغامضين المنغلقين، ومسطحة عند المسطحين، وهي يمينية عند اليساريين، ويسارية عند أهل اليمين، وهي لاشيء عند الفارغين، وكل شيء عند المتخلفين ”  .

فكيف تم استنباتها وهل جاءت من فراغ ؟ إن الاحتفالية لم تأت من فراغ، فهي تغيير معرفي وجمالي قبل كل شيء، تغيير جاء نتيجة تراكمات فكرية وفنية عديدة، سواء كان ذلك على المستوى المغربي / العربي أو على المستوى الدولي….. إن الاحتفالية عندما راهنت على الاختيارات الجديدة ـــ فقد كانت تعي عواقب ونتائج هذه الاختيارات الصعبة والعنيفة.

الاحتفالية اختارت طريقا صعبا وخيارا تمرديا على المتعارف عليه، وكل الصيغ البالية والمهترئة من المسرح.لقد دمرت الاحتفالية مسرحا، وبنت مسرحا جديدا، لقد ولدت وسط العاصفة فلم تخش الرياح، وبهذا اكتسبت مناعة قوية ضد كل الضربات والاتهامات والمغالطات والمزايدات، وتجاوزت النقد الانفعالي والاندفاعي ،وما اتسمت بها من صفات لا تليق بها ” كالظاهرة الموسمية” والفاشية” والانتهازية” وعلامة مسجلة” و” تدجيل” ومتحالفة مع البرجوازية” ” والافتقار إلى الوعي التاريخي السليم ” وصاحبة ” الأساليب الشكلية التجريدية” رحلة النعوت .

لقد تطلب تجديد المسرح ــ ككتابة أو كتابات ــ نفسا قويا وشجاعة، لأن الكتابة الجديدة المتجددة تتطلب بالفعل قراءة جديدة، لهذا ركزت الاحتفالية على تأسيس مستقبلي، وعلى أن تكون كتاباتها متجهة بالأساس للقارئ الجديد، فعندما نقول بأن الجمهور يريد هذا أو ذاك، فإننا ضمنيا نحكم على الذوق لدى الإنسان جامد لا يتغير، وهذا حكم خاطئ، إذ الحكم بأن الجمهور العربي يريد نوعا من ألوان الفرجة لا بد أن يتتبع بالضرورة التساؤل التالي ، ولكن متى؟ ذلك لأن هذه الإرادة لا يمكن أن تكون مطلقة، إذ لابد أن نحصرها داخل ظروف زمنية وبيئية واجتماعية معينة، إننا نعرف جيدا أن كل شيء يتغير ويتحول، وأن ما قد يبدو الآن غريبا وشاذا فإنه مستقبلا لن يكون كذلك.

اختار الاحتفاليون مسارا صعبا وشاقا كلما انتهوا من سؤال دخلوا آخر، كانوا مشاكسين ومقلقين، يهدمون ليبنوا، يؤسسوا ثم يعيدوا التأسيس، وبهذا تجاوزا السلفية المسرحية، التي تعد سلفية خادعة ومزيفة.

الاحتفالية في حقيقتها حركة باتجاه المستقبل، وبذلك هي محملة بالمجهول أكثر من المعلوم، كما أنها تشير إلى الغائب أكثر من الحاضر، وتعد بالمدهش والمثير أكثر مما تحيل على المعروف والمألوف. إنها ليست ما كان ولكنها بالتأكيد ما سوف يكون.

بقيت الاحتفالية عصية على الاتهامات والتفسيرات المجانبة للصواب سواء منها التي أرادت خندقتها في حيز ضيق يتهم ب”لغيبية” و”الزاوية”، و”الحزب”، و”الشطحات” ،… وفرضت نفسها لتكون أكثر شمولية وفاعلية، وأشد التصاقا بروح اللحظة التاريخية وبمستجداتها المختلفة…. الاحتفالية كانت وما زالت مشروعا مجتمعيا، هي في جوهرها تصور للواقع والتاريخ والإبداع ، حركة متجددة لا تلغي الآخر، راهنت على المستقبل الاحتفالية الحقيقية هي ما سوف يكون، وأجمل إبداعاتها ما سوف يكتب – أدبيا وسنوغرافيا – وأخطر طروحاتها النظرية ما سوف يأتي مستقبلا ، وبهذا راهنت على الممكن المفتوح.

عن حقيقة الاحتفالية – تجهد وجهاد من أجل المسرح الآخر والإنسان الآخر والمجتمع الآخر – غالبا ما تغيب عن كثير من الأذهان، لذلك يتم النظر إليها من زوايا مختلفة ومختلفة، لم تنتظر الاحتفالية دعما رسميا ، لأنه لا يؤسس إبداعا مسرحيا، وإن قدر للاحتفالية أن تنجح رسميا وشعبيا فما الضير في ذلك، إنها ملتقى كل الجهات المتناقضة والمتضاربة، دخلت الجامعات والأكاديميات، ودرست في المؤسسات التربوية، وبذلك امتلكت شهادة الانتماء إلى الناس والوطن والتاريخ، لقد شغلت البلاد والعباد.

يقول حسن المنيعي ” إن الاحتفالية كانت هي المدرسة المغربية التي حاولت أن تدخل بالنص إلى مجال آخر، وبناء على هذه العلاقة التي تربط بين الاحتفالية والنص الاحتفالي يبرز البعد القائم بينها على النمو على الكتابة التقليدية التي تحاكي النموذج الأرسطي” .

الاحتفالية كمنظومة فكرية وفنية أكبر من أن تختزلها كلمة واحدة، كلمة هي الحفل أو الاحتفال،…. الاحتفالية موصولة بشروط موضوعية حقيقية.

إن الاحتفالية موقف بالأساس … موقف متعدد الأبعاد والمستويات والزوايا. فهي موقف من الذات ، وذلك من خلال مستويين اثنين : مستوى الوعي، ومستو اللاوعي، ومن خلال بعدين أيضا، البعد الآني والبعد التاريخي.

وهي أيضا، موقف من الآخر، سواء كان فردا أو جماعة، الآخر المتجسد في الفكر والفن والصناعات والآداب والأخلاق والمعتقدات. إن هذا الموقف بالأساس موقف من العلاقة، أو من طبيعة تلك العلاقة التي كانت دائما علاقة ميكانيكية …. علاقة  تقوم على الفعل ورد الفعل وعلى ثنائية الصوت والصدى والشيء والظل. وجاءت الاحتفالية لتحدث انقلابا في هذه العلاقة، وأن تجعل منها علاقة جدلية متحركة، علاقة تقوم على الحوار والجدل، وعلى تبادل الفعل والانفعال والتأثير والتأثر.

كما أن هذه الاحتفالية أيضا هي موقف من التراث … التراث وهو في بعديه القومي والكوني والجهوي والعالمي . إن التراث هو ذاكرة حية، وفي هذه الذاكرة الجماعية نخبئ إرثنا الثقافي والفكري والفني. 

تنتمي الاحتفالية ثقافيا وسياسيا واجتماعيا إلى ما بعد هزيمة67، هذا على المستوى العربي، أما على المستوى الغربي فقد جاءت بعد ثورة الطلاب بفرنسا 68 وبعد الانتفاضة العالمية التي عرفها المسرح والتي تولدت عن المناخ النفسي والثقافي الذي أفرزته حرب الفيتنام. لقد تزامنت مع الانقلاب الذي عرفته الأغنية العربية وذلك بظهور الشيخ إمام ومحمد يوسف نجم وجيل جلالة وناس الغيوان. لقد أحيت واقعها بوعي نقدي، ظهرت في زمن الجماعات سواء الغنائية أو التشكيلية أو المسرحية. 

الاحتفالية تقوم على شيئين أساسيين:

الأول: طبيعة الفكر الذي ترتبط به الاحتفالية، أو لنقل أحسن جوهر هذا الفكر، والذي هو جوهر حقيقي وإنساني، والذي يرتكز على أساس إنسانية الإنسان وحيوية الحياة ومدنية المدينة، وعلى أن يكون الإنسان هو ذلك الذي يملك حق التعبير، وذلك على الرأي الحر، في المجتمع الحر.

الثاني: هو طبيعة العلاقة التي تربط الاحتفالية بهذا الفكر – أو بجوهره – والتي هي علاقة جدلية بالتأكيد، علاقة تنبني على وجود موقف نقدي متحرك. موقف يفعل وينفعل، ويؤثر ويتأثر، إنها إذن علاقة صدامية، وليست علاقة تبعية، وهذا ما يميزها عن كل العلاقات التقليدية الأخرى، والتي كانت مبنية على أساس تقديس الفكر الغربي واجترار مقولاته وطروحاته في ببغاوية وآلية . 

لقد حاولت الاحتفالية أن تكون قريبة من العلم بعيدة عن الإيديولويجا، وبذلك تأسست في شكل ورشة مفتوحة للتجريب الميداني.

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى