أعسو يكتب: نسائم الهجرة النبوية أمام تكالب الأعداء، واشتداد الجائحة المهلكة

ونحن نستقبل نسائم العام الهجري الجديد 1442، تتداعى إلى مخيالنا الجمعي الحي ذكرياتُ الهجرة بكل ما تفيض به من رمز ودلالة وإشراق. كان ظاهرها ضنىً، وكمدا متراكماً، واجتراع حزنٍ كظيمٍ على جور الجيران، وضيم فراق الأوطان، وظلم ذوي القربى، وانحباس أصداء الدعوة، وإصرار القوم على الصد عن الدعوة بكل سبيل، والافتنان في الأذى والتنكيل…

كانت الهجرة بهذا المعنى تهجيراً وترحيلا، ولكنك عندما تقرأ ما وراء المكث في مكة من انسداد الآفاق، وتعطل الدعوة، وركود الرسالة، تعلم علم اليقين أن الهجرة كانت نصراً مبيناً، اتسعت فيه الآفاق، وتجددت الآمال، وانشرحت الصدور، والتأم الشمل، وأمكن البدء في تأسيس المجتمع الإسلامي وفق هدايات الله تعالى الذي أذن بالهجرة، وعدَّها نصراً في قوله تعالى: « إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ “(التوبة: 40).

وإنها لانتصار على نازعات الحنين إلى الأوطان، والتشبت بالتراب، والركون إلى أسباب المعيشة… إنها انتصار للمعنى الجديد الذي تلقته القلوب المؤمنة، فانفسحت الرؤية، وتجدد الوصل بالسماء، ووضحت معاني الوجود، وتحققت إنسانية الإنسانية في أبعادها الروحية الطليقة.

والتاريخ شاهد على أن الهجرة وإن كان في طِيِّها محنة،

إلا أنها كانت فتحا عظيماً، ونصراً مبيناً

لقد كانت الهجرة نقلة فائقة، وخطوةً في العمق الاستراتيجي للدعوة، وقراءة بعيدة  لآفاق الرسالة، واستشرافاً ثاقباً لمآلاتها المرتقبة. والتاريخ شاهد على أن الهجرة وإن كان في طِيِّها محنة، إلا أنها كانت فتحا عظيماً، ونصراً مبيناً.

لقد كانت مكة كالشجرة المتيبسة التي لم يعد يُرجى ثمرها، فلم تكن هي الموئل أو الفضاء الذي تتفتق فيه الدعوة عن أكمامها، بينما كانت المدينة حبلى بالوعود، وكانت في أتم الاستعداد لاحتضان حدث الهجرة بكل تداعياته وتبعاته، داخليا وخارجياً، اقتصاديا واجتماعيا وسياسياً.. وكان النبي صلى الله عليه وسلم هو صانع ذلك الاستعداد يوم بايع الأنصار، وأرسل مصعبَ بن عمير سفيراً مقتدراً، وداعيا موفقا، والذي يطالع تفاصيل الهجرة الدقيقة يعلم أن التخطيط، وحسن التقدير، وإحكام الترتيب لا يتعارض مع كمال التوحيد، وجمال التوكل.

لا جرم أن كانت نقطة انطلاق الأمة الإسلامية ، ومرجع تأريخ زمنها الجديد الذي تفتحت أزاهيره في أمد قياسي يدهش كل دارس لصيرورات بناء الأمم، و سيرورات قيام الحركات.

وما أحوج الأمة وهي تكابد تكالب الأعداء عليها، وهرولة بعض بنيها نحو عدو طالما نابذته العداء، واشتداد هذه الجائحة المهلكة. ما أحوجها أن تهجر  عطالتها وعجزها وكسلها، وتدع آثامها وفجورها، وتهاجر إلى أفق جديد تلتحم فيه الطاعة المبصرة بالسعي النشيط في عمارة الأرض وتوطيد أسبابها علما وصحة وتربية وصناعة وزراعة…
ولينصرن الله من ينصره. إن الله لقوي عزيز.

ذ. المصطفى أعسو

-*-*-*-*

 

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى