يتيم يكتب: الطواف بوصفه رمزا من رموز جمالية الإسلام

في البيت الحرام رأيت -وأنا أطلّ من على جسر الطواف في الطابق الأول- جمالية منقطعة النظير في مشهد الطواف؛ صورة جميلة أخاذة: اتساق في الحركة، واتساق في الألوان التي وإن اختلفت ائتلفت، وإن تعددت توحدت.

في الطواف؛ المسلمون يعبدون الله ويتقربون إليه وهم في غمرة الزحام، رجالا ونساء، كبارا وصغارا، فقراء وأغنياء، عربا وعجما، مثقفين وعوام. المسلمون -على اختلاف مذاهبهم الفقهية والعقدية- يعبدون الله في انسياب، على اختلاف في بعض الجزئيات الفقهية، وحتى في بعض الأصول.

المسلمون -رغم انتمائهم لدول أو دويلات فرقتها أهواء السياسة لكلٍّ قبلتها وولاؤها- يطوفون في اتجاه واحد، ويصلون وراء إمام واحد.

ما زال البيت العتيق قائما منذ أن أعاد إبراهيمُ رفعَ قواعده وإسماعيلُ، وقام في ركن من أركانه إبراهيم مؤذنا في الناس بالحج. وما فتئ الناس منذ ذلك الزمان إلى يوم الناس هذا طائفين قائمين، رُكّعاً سُجَّداً يبتغون فضلا من الله ورضوانا.

وتجدد نداء التوحيد ونوره منذ أن طهره محمد صلى الله عليه وسلم من الأصنام، يواصل تذكير الناس بربهم الواحد، ويوّحّدهم على قبلة واحدة، ويتذكرون فيه معاني خطبة الوداع التي ذكّرت الحجيج بأنهم من أصل واحد ومن أب واحد هو آدم، وآدم من تراب، وربهم واحد، وأن لا فضل فيهم لعربي على عجمي ولا لأبيض على أسود، وأن أكرمهم عند الله أتقاهم.

فقلت لو أن المسلمين استطاعوا أن يقدموا للعالم جمالية الإسلام بوجهها المتحضر هذا في غير هذا من المجالات، على الشاكلة التي تقدمها هذه الصورة، في حركة الطواف حول الكعبة وهم يتنافسون في الاقتراب من الكعبة والحجر الأسود، وفي مقام إبراهيم والحجر؛ لتَغير وجه العالم.

هذا النموذج الحي من الوحدة والمساواة قابل لأن ينبعث في الأمة كلما قررت أن ترجع إلى الله ومرجعية كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. جمالية الكعبة بأستارها حيث سواد فاقع مطرَّز بآيات من القرآن، وأشكال جميلة مطرزة بخيوط من ذهب، تزداد بهاءً كلما سُلّطت عليها الأضواء الكاشفة لتزيد المشهد جمالا وجلالا.

جمالية مشكَّلة من كل ألوان الطيف، تتراءى لك من أعلى الجسر كلوحة متناسقة، حيث الجلابيب السود والبراقع تغطي النساء، مع أشكال مختلفة من الحجاب. فريق من النسوة لا يظهر منهن سوى الوجه، بينما اختارت أخريات من شعوب إسلامية عجمية -من تركيا إلى ماليزيا فإندونيسيا- ارتداءَ ألبسة محتشمة لكنها بألوان زاهية.

فقد تفنن المنظمون لرحلة العمرة من الأتراك مثلا في أن يميزوا نساءهم بعلامة مميزة على شكل وردة في أعلى خمار كل منهن، واختار الماليزيون أو الإندونيسيون أن تلبس نساؤهم خُمُراً من لون واحد يميزهن عن بقية الحجيج. وارتدى رجالهم سراويل وأقمصة متشابهة في إشارة إلى علوّ كعبهم في ثقافة النظام والانتظام، بينما اختار المغاربة أن يذوبوا في الزحام، وأن يمارسوا نُسُكَهم في صمت.

في الطواف تكمن جمالية النظر إلى المرأة باعتبارها كائنا آدميا وليس عورة، حتى إنه لا ضرورة للبرقع أو ستر الوجه في الطواف، حتى في المذاهب الفقهية التي ترى أن الحجاب لا يكتمل إلا بالنقاب.

في الطواف لا يكاد ينتبه الرجل إلى المرأة أو يستثار بها، ولا تكاد المرأة تنتبه إليه أو تستثار به، فكلاهما منشغل بأمر أكبر: إن الإنسانية والمساواة فيها قد تبدّتا بكل معانيهما، من خلال التساوي في مقام العبادة والعبودية.

مسلمون ومسلمات، قانتون وقانتات، عابدون وعابدات، سائحون وسائحات، ذاكرون الله كثيرا وذاكرات، لكلٍّ قد أعدّ الله مغفرةً وأجرا عظيما، لا يضيع اللهُ أجرَ عاملٍ منهم من ذكر وأنثى.

جمالية في هدير الأصوات المتماوجة بلغات مختلفة، وأحيانا بعربية فيها لكنة عجمية، كل منها يذكر الله ويقدم له سُؤْلَه بطريقته الخاصة، فتنتج عن ذلك سيمفونية موسيقية رائعة.

جمالية حركة طواف متماهية مع الحركة الكونية الدائرية، بدءا بحركة الإلكترون حول نواة الذرة إلى حركة الكواكب والمجرات على الشمس.. وحركة هذه داخل المجرة.. كل في فلك يسبحون.

جمالية في حركة كل فرد في المطاف؛ إذ تشكل جزءا لا يتجزأ من حركة دائرية كلية، تذكرك بحركة خلية النحل أو النمل، كلٌّ قد علِم وجهته ومهمته، الكل يمشي ويهرول مشكلا بمشيه وهرولته جزءا من الحركة الدائرية الكلية المنسابة التي لا تتوقف إلا عند الصلوات الخمس. لكل دعاؤه وتسبيحه وسؤله، والله قد علم سؤال كل واحد منهم، لا يخفى عليه من سؤال أو دعاء أي منهم، مهما اختلفت اللغات وتكاثرت الصيغ!

في هذا الانسجام والتناسق البديع تظهر من حين لآخر مظاهر نشاز، من حين لآخر ينبري أشخاص أقوياء تبدو للوهلة الأولى على وجوهم شدة وغلظة، يسيرون في الاتجاه المعاكس للطواف، أو يخترقون حركته المنسابة قاصدين الحجر الأسود، ليخوضوا معركة مصارعة حقيقية من أجل الوصول إليه وتقبيله، غير آبهين بإيذاء الضعفاء من الطائفين والطائفات.

هم يعتبرون المعركة من أجل تقبيل الحجر الأسود من أعظم القربات؛ ولكن لا ضير: فمع هذه المظاهر من الحركة النشاز، أو تلك الغيرة الزائدة عن الحاجة على أعراض النساء، والتي قد تلقي بظلال من الغبش على الصورة؛ تظل الجمالية مهيمنة وأنت تنظر في الصورة الكلية من أعلى.

تظهر جمالية أخرى من وراء تلك الحركة النشاز قد لا تُرى بالعين المجردة، وهي جمالية التسامح: إن الغالب الأعم من الطائفين ينأون بأنفسهم عن التدافع أو التعارك من أجل الوصول إلى الحجر الأسود، يكتفون بإشارة تسليم من بعيد تفاديا لتلك المعركة أو للزحام، معتبرين أن حرمة المؤمن أعظم عند الله من حرمة الكعبة، وما الحجر الأسود من الكعبة إلا جزء صغير!! فلماذا يتم أحيانا التركيز على هذا الجزء الصغير من الصورة ولا نستحضر الصورة الكلية؟

وهو معنى عميق وملمح دقيق من الجمالية لا يتبدى من خلال النظرة الأولى أو لبادي الرأي، معنى يقول: إن التشدد والغلو يظل حقيقة تشكل جزءا من تركيبة كل المجتمعات البشرية، لكنه يشكل شذوذا عن القاعدة العامة، والشاذ لا حكم له بل إنه يثبت القاعدة، ويتعين تحمله واحتواؤه وتصريفه، وتقنين التعبير عنه، ما لم يؤدّ إلى إرباك الصورة الكلية.

ألم يتبوّل أعرابي في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فلما أراد الصحابة أن يبطشوا به ويمنعوه من مواصلة التخفف من احتقانه، قال دعوه لا تزرموه. فلما أن فرغ قال: أريقوا على بوله سَجْلاً من ماء!

ألم تظهر بوادر فكر الغلو والتطرف والنبي صلى الله عليه وسلم ما زال بين ظهراني المسلمين؟ كما جاء في واقعة ذي الخويصرة مع النبي صلى الله عليه وسلم، الذي اعترض على قسمة الرسول صلى الله عليه وسلم ووصفها بعدم العدل. ففي الحديث الصحيح أنه جاء رجل من بني تميم يقال له ذو الخويصرة، فوقف عليه وهو يعطي الناس فقال له: يا محمد قد رأيتُ ما صنعتَ في هذا اليوم. فقال رسول الله: صلى الله عليه وسلم: «أجل؛ فكيف رأيت؟».

قال: لم أرك عدلت قال: فغضب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: “ويحك إذا لم يكن العدل عندي فعند مَن يكون؟». فقال عمر بن الخطاب: ألا نقتله؟ فقال: “دعوه فإنه سيكون له شيعة يتعمقون في الدين حتى يخرجوا منه كما يخرج السهم من الرمية، ينظر في النصل فلا يوجد شيء، ثم في القدح فلا يوجد شيء، ثم في الفوق فلا يوجد شيء، سبق الفرث والدم”.

إنه ماء التسامح والاستيعاب، والتسامح مثل الماء طاهر مطهِّر، والماء إذا بلغ قُلتين لم ينجس كما قال الفقهاء! والمشكلة هي ألا يكون غالب حالنا ماءً طهورا!

————————–

* هذا المقال حلقة أولى ضمن سلسلة للكاتب بعنوان: “في جمالية الإسلام: إعادة تقديم الإسلام للعالم”.

محمد يتيم – مفكر وقيادي إسلامي مغربي

المصدر : الجزيرة

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى