الشيخ عبد الحفيظ العيساوي.. ومضات من حياته الدعوية

في السبت المنصرم من 20 رجب 1439ه الموافق 07 أبريل 2018م توفي الأخ الأبر، والداعية الكبير، الشيخ عبد الحفيظ بن الطيب العيساوي رحمه الله، ففقدت بذلك الدعوة أحد رجالاتها الكرام البررة، وأحد رموزها العظام، وأحد المسكونين بها، والمهمومين بشأن أمتهم ووطنهم، فرحمة الله عليه، فقد كان داعية متمكنا، وخطيبا مفوها، وواعظا نصوحا، وأخا عزيزا رفيقا، وأبا حنونا، جمعتنا به منذ الصغر جوامع الدعوة، والصحبة الطيبة، والعشرة الصادقة، والخلة النافعة الناصحة، فمن حقه علينا، ووفاء بقدره وأخوته أن ندون بعض الومضات من سيرته وحياته الدعوية، راجيا من الله جل جلاله أن أكون قد وفيت حقه، ورفعت قدره، وبينت منزلته، لبعض المحبين وكافة المسلمين، عسى أن يجدوا فيها مشكاة يستنيرون بها في درب الحياة الدعوية.

مسجد التوبة: من هنا كانت الانطلاقة

كانت انطلاقة الشيخ عبد الحفيظ رحمه الله الدعوية الأولى من مسجد صغير مبارك في أواخر سبعينيات القرن الماضي (1978م)، وهو في الوقت نفسه مركز صغير لجماعة الدعوة والتبليغ، تقوم فيه بحلق الذكر والبيان الدعوي، وإرسال جماعات للخروج في سبيل الله، والزيارات الدعوية وغيرها من الأنشطة، كما كانت تفد إليه بعض الجماعات من خارج المغرب، فشهد هذا المسجد المبارك حركية وفاعلية دعوية فريدة، قل نظيرها.

تعرف الشيخ عبد الحفيظ رحمه الله على جماعة الدعوة والتبليغ، وأصبح من الوافدين والمواظبين على الجلوس مع الجماعة، فتشرب منهجها الدعوي، وفقه أسلوبها البسيط العميق، والسهل الممتنع، فطفق في مشاركة الجماعة في أعمالها، لكن الشيخ بما يمتاز به من حفظ لكتاب الله تعالى حفظا متقنا، ونظرا لثقافته الإسلامية الأصيلة، وشغفه بالعلم والمطالعة والقراءة، والاستزادة من المعرفة الإسلامية على يد بعض العلماء بمسجد السنة وغيره، سرعان ما بدأ يمارس الدعوة، يدعو الناس وينصحهم، فشق بذلك طريقه الدعوي، وخط سبيله بأناة وحكمة ووسطية واعتدال. فكان يجوب بعض مساجد الرباط داعيا إلى الله تعالى (مسجد أحد، والنور المحمدي، ومسجد النور، ومسجد التوبة الذي لم يفارقه بدروسه في السيرة والفقه إلى أن أقعده المرض) ثم طفق يخرج في سبيل الله تعالى.

خطيب مسجد بلال المفوه

في ثمانينات القرن الماضي أصبح شيخنا عبد الحفيظ، خطيبا بمسجد بلال، وهو مسجد صغير بحي يعقوب المنصور،  وكانت لخطبه وقعا على النفوس، تأثيرا بليغا، وحكمة نافعة، وإرشادا مباركا، فقد كان رحمه الله خبيرا باختيار موضوعاته، التي كان الشق الأول من الخطبة يغرس فيه القيم والفضائل، والأخلاق والشمائل، كل ذلك يصوغه بآياته كريمات بينات تنساب على لسانه، كأنها تسبقه، وأحاديث منتقات دالة على المقصود يختارها الشيخ بعناية، فكان رحمه الله يربط العقول والقلوب بكتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ونحن نطأطئ الرؤوس من شدة وقعها على نفوسنا ومن أثر بيانه لها.

أما الشق الثاني من الخطبة فكان رحمه الله يتحدث فيه عن واقع الناس، وبعض القضايا الاجتماعية التي يحتاجون فيها إلى توجيه وإرشاد، وتحذير وإنذار، فهو كان لا يرى فائدة من خطبة الجمعة ما لم تكن مرتبطة بواقع الناس توجيها وإرشادا فتحملهم على فعل الخيرات وترك المنكرات، فكان رحمه يعاتب من يحلق بالناس في عالم الخيال.

هذا الأسلوب الدعوي، بدأ الناس يتفاعلون معه، ويسمعون عنه،  فبدأت تفد عليه الوفود من كل الجهات، وتلتف حوله يوم الجمعة، وأصبح المسجد بالرغم من توسعته لا يسعهم البتة، فملئت الأزقة المجاورة للمسجد بمئات المصلين، وأصبح اسم الشيخ عبد الحفيظ ذائع الصيت، ولا زلت أتذكر تلك الحقبة، التي لم تكن فيها لا هواتف نقالة، ولا مواقع تواصل اجتماعي، ولا حتى الاهتمام بتسجيل خطب الشيخ، لكن آثاره لا زلنا حينما نلتقي ببعض الإخوة نتذكرها ونحِنُّ إليها، ولازالت صورتها قابعة في مخيلتي، ومرسومة في وجداني، وماثلة بين  عيني كأنني أراها اليوم رأي العين، ولا زلت أتذكر جماعات من طلاب الحي الجامعي السويسي وغيره يشدون الرحال إلى مسجد بلال، ليستمعوا خطبة الشيخ.

التوقيف النكد

استمر شيخنا رحمه الله على تلك الحال لبضع سنين، ليس في خطبه ما يشين ولا ما يمكن ادعاء أنه يحرض الناس، أو يسيء إلى النظام، أو الخروج على قوانين الدولة كما يزعم بعضهم، لا سيما أنه كان مطلعا بخبايا قومنا ونواياهم، لأنه كان يعمل عونا للسلطة مدار أربعين سنة، يعرف دهاليزهم وخططهم وما يبيتون، فأصبحت خطب الشيخ لا تروقهم، وحديثه عن الواقع لا يعجبهم، وتجمع الناس يضايقهم، فقرروا ودبروا حيلة لإيقافه، فجعلوا المسجد تحت رعاية الأوقاف وتابعا لها، بإيعاز من بعض سكان الحي، وعملوا ما في وسعم لإيقاف الشيخ، فتوقفت معه خطبه النافعة.

والحق أن تلك الحقبة وفي الوقت نفسه آنذاك، كانت خطة أصحاب الحال أن يوقفوا جميع الدعاة والخطباء المؤثرين في الواقع، فشمل التوقيف عددا كبرا منهم الشيخ محمد زحل رحمه الله، وكان اسم شيخنا عبد الحفيظ ضمن القائمة التي شملها التوقيف.

مساومات وضغوطات وتحديات وإصرارات

حكى لي شيخنا رحمه الله أنه بعد توقيفه استدعته جهة من استعلامات العمالة، على مستوى عال، فطلبوا منه أن يعفوه من العمل الإداري اليومي، على أن تكون وظيفته الجديدة أن يطوف على المساجد فيكتب تقارير عن تحركاتها وتحركات شباب الحركة الإسلامية، وأن يحصي الشاذة والفادة، فرفض طلبهم، فضغطوا عليه بحجة أنه عون سلطة، فرد عليهم الشيخ أن هذه المهمة لا يقدر على تحمل تبعاتها، ثم استدعي مرة أخرى فمارسوا عليه الضغط أكثر من المرة السالفة مع المساومات، فرفض الشيخ بإصرار وتحد قائلا لهم: لا أريد أن أكون جاسوسا على بيوت الله تعالى ولا على المسلمين، وأنا مستعد لأقدم استقالتي من العمل بصفة نهائية والرزاق هو الله. وقد ضيعوا له وقت صلاة العصر، فنظر إليهم وقال: وماذا تقولون أنتم عن ضياع صلاة العصر بإخراجها عن وقتها. فلما رأوا تحديه وإصراره تركوه.

الداعية الحجة

بالرغم من منصب شيخنا كان لا يفتر عن الدعوة، فلا تجده في مكتبه إلا داعية، مع أعوان السلطة والناس، وهنا أذكر واقعتين:

الأولى: أنه في ثمانينيات القرن الماضي قدم عامل الرباط لتدشين مستشفى مركزي بحي المسيرة، والمعروف أنهم يأتون بأصحاب الطبول والمزامير ويخرجون سكان الحي، وبحكم عمل الشيخ لا بد عليه أن يخرج مع السلطة، لكنه كان يبتعد مسافة من موقع الاستقبال، فوجدته وقد كنت يومها صغير، يحدث بعض الناس وهم متحلقون حوله، يدعوهم إلى الالتزام بالصلاة والدين كله، يعظهم ويرشدهم، غير مكثرت بما يقع حوله، وقد سمعته يوما في مناسبة وطنية أخرى والطبول والمزامير والرقص، قرب مسجد أحد، وهو بداخل المسجد يفسر قوله تعالى من سورة المؤمنون: ” والذين هم عن اللغو معرضون.” فبدأ يبين هذه الآية وقد أحسن رحمه الله بيانها، وربطها بالواقع، حتى خشيت عليه في نفسي من أن يمسه سوء.

الثانية: وهي أن قائدا من رجال السلطة، قد تأثر بالشيخ، فكان يكن له الاحترام والتقدير، فبسبب ذلك جعل قاعة للصلاة بالمقاطعة وكان الشيخ يؤمهم بها في صلاة العصر والمغرب، فحسنت أحوال ذلك القائد وكان فيه خير، فشاءت الأقدار أن تتوفى أمّ القائد، فذهب الشيخ مع الناس للصلاة عليها ودفنها، فوعظهم بالمقبرة موعظة حسنة أثرت في الجميع، لكنه استغل الفرصة أكثر في المقبرة حين سلم على القائد بمفرده وقال له: إن الداخلية تبرمج الناس على جهنم، فعليك أن تحذر، والنهاية هي هذه، والأمر ما ترى مشيرا بأصبعه إلى قبر أمه.

لقد كان رحمه الله لا يفوت فرصة للحديث مع الناس في أي مكان، ومع أي كان، صغيرا أو كبيرا، كما كان صاحب فكاهة ومرح محبوب من الجميع، فقد كانت نفسه منشرحة، لا عبوسا ولا غليظ الطبع. يحب زيارة إخوانه ويحل بعض مشاكلهم بالاستشارة معه، أو بالذهاب بنفسه إلى ذلك إن اقتضى الأمر ذلك.

كما كان منفتحا على كافة إخوانه من أبناء الحركة الإسلامية، يحبهم ويجلهم ويقدر أعمالهم، ويرجوا لهم التوفيق، ويدعو لهم في ظهر الغيب، ويخشى من ان يصيبهم مكروه.

الشيخ الصالح الرباني

الدعوة إلى الله تعالى تحتاج إلى زاد وطاقة روحية، من أذكار وأوراد ونوافل وصيام تطوع وغيرها من القربات، يخلو بها الداعية إلى ربه مناج له، متوسلا إليه، راجيا نصره وعونه ومدده ورحمته وتوفيقه وتسديدة. وقد كان شيخنا رحمه الله من المواظبين على الذكر والأوراد والنوافل، وكان أشد مواظبة منه على قيام الليل في حضره وسفره، ولقد سافرت معه مع بعض الإخوة كثيرا شمالا وجنوبا، ففي الليل ينسل من فراشه ويتوضأ ويصلي ما شاء الله ويقرأ القرآن، من غير أن يزعج أحدا، فكان له نفس طويل في هذا الأمر، ولاسيما أنه قضى قبل أن يلتحق بجماعة الدعوة والتبليغ تسع سنوات مع الطريقة الكتانية، واجتمع مع بعض أقطابها وروادها، وقد حكى لنا الكثير عنها.

وقرب وفاته بأيام قلائل زرته مع أحد الإخوة الكرام في منزله، فتبسم في وجهنا واستقبلنا بحرارة كبيرة، ومن نصائحه أنه قال لنا: إنه لا بد للمؤمن من ركعات في الليل يناجي فيها ربه، فالعمر يمضي بسرعة.

هذه بعض الومضات للحياة الدعوية لشيخنا عبد الحفيظ العيساوي رحمه الله، وأجزل له الثواب والمغفرة وأسكنه الفردوس الأعلى، وألحقنا به مومنين صادقين لا مبدلين ولا مغيرين، والحمد لله رب العالمين.

محمد عوام

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى