الإدريسي يكتب: في تعْريف القِيم والقِيم القُرآنية -2-
ما من خلاف أن الحديث عن منظُومة القيم القرآنية يستوجب الوقوف أولا عند لفظة القيم واستعمَالاتها، ونستحضر في هذا السياق القَولة المنهاجية للعلامة الدكتور الشَّاهد البوشيخي في رده على الذين يقولون أنْ لا مُشاحة في الاصطِلاح، فيقول: “المشاحة كل المشاحة في الاصطلاح”، ويظهَر أن لفظَة القِيم أو مصطلح القِيم هو من بين أهم المفَاهيم والمُصطلحات التي يجب الانكِباب عليها، والاشتغال عليها، نظرا لأهميَّته في تحديد ما نحن بصدده، وتعلقه بالقرآن العظيم الذي يعتبر رسَالةَ الله تعالى الخاتمة والخالدة إلى الإنسانية جمعاء، ودين الله الكامل ونعمة الله التّامة، بدليل قوله تعالى في سورة المائدة: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ الآية:3.
وفي السِّياق نفسه تُعد قضايا القِيم من أهم القضايا المطروحة للحوار العلمي والنقاش الفكري والتناظر المعرفي، وفي بعض الأحيَان السِّجال السياسي في عالمنا المُعاصر عموما، وفي عالم المسلِمين على وجه الخصوص، نظرا لارتباط هذا النقاش بالعلاقة بين منظومة القيم الكونية ومنظومة القيم المحلية الثّاوية في المرجعية الحضَارية لكل أُمة أو مجتمع. وهذا مرتبط أساسا بالتَّحولات التي تشهدها البشرية على المستوى العلمي والتربوي والسياسي والاقتصادي والثقافي والتكنلوجي والفني والطبي والعسكري و…، يقول الدكتور المهدي المنجرة في كتابه النفيس “قيمة القيم“:” أن يكون الإنسَان واعيا بقيمة القيم، فإن ذلك قيمة في حد ذاتها”، ويقول أيضا: “إن القيم هي الفرق الذي يكون الفرق”.
وفي إشَارة سريعة، القِيم في اللغة جمع قيمة، والقيمة ثمن الشيء بالتَّقويم، وقيِّم الأمر: مقيمه، وأمر قيّم: مستقيم، وخُلق قيّم: حسن، وقومت السلعة واستقمتها ثمنتها، وتعني القيمة في اللغة أيضا: القدر أو الثمن، وتعني أيضا: الاعتدال والاستِواء، فهي مشتقة من الفِعل قام بمعنى وقف، اعتدل، استوى، وفي لفتة لطيفة للعلامة الفراهدي في كتابه: “العين” يقول: “القيمة: المِلة المستقيمة”.
أما تعرِيف القيم في الاصطلاح فدُونه مؤلفَات وكِتابات ومقَالات ومُصنفات، ولذلك سنقتصر على بعض التعريفات الخَادمة لغرضنا ومقِصدنا من هذه الكتاب، ففي كتاب “معجم اللغة العربية” عُرفت القيم ب:” الفضَائل الدينية والخلقية والاجتماعية التي تقوم عليها حياة المجتمع الإنساني”، في حين يعرفها زيدان محمد مصطفى في كتابه” معجم المصطلحات النفسية والتربوية” بأنها: مجموعة من القواعد والمقاييس الصادرة عن جماعة ما، يتخذونها معايير للحكم على الأعمال والأفعال، ويكون لها قوة الإلزام والضرورة العمومية، ويعد أي خروج عنها بمثابة انحراف عن قيم الجمَاعة ومُثلها العليا”.
أما الدكتور ماجد عرسَان الكيلاني فيعرف القِيم في كتابه النفيس “فلسفة التربية الإسلامية” بقوله:” القيم محطات ومقاييس تحكم بها على الأفكار، والأشخَاص، والأشيَاء والأعمال والموضُوعات، الفردية والجمَاعية من حيث حُسنها وقِيمتها، او من حيث سوؤها وعدم قيمتها، وكراهيتها أو في منزلة معينة بين هذين الحدين”، في حين عرفَها الدكتور أحمد عبَادي بقوله:” إن مختلف التَّعاريف للقيم تَتحَوصل حول كونها مجموعة من القوانين والمقاييس تنبثِقُ عند جماعة ما، وتتخذها معايير للحُكم على الأفكار والأشخاص في تَمظهرهم الفَردي والجماعي والتصرفات والمسلكيات، ويكون للقيم من القوة و التأثير على الجماعة، وما يسربلها بصفة الإلزام والضرورة والعمومية،…فالقيم إذن هي موجهات السُّلوك وضوابطه وموازينه، وهي حراس الأنظمة وحامية البناء الاجتمَاعي ومفعلته”، ذكر ذلك في كتابه “الوحْي و الإنسَان نحو استئنَاف التعامل المِنهاجي مع الوحي“، وفي تعريف للأستاذ نديم علاء الدين في “مجلة الباحث” يقول:” القيمة هي حُكم يصدره الإنسان على الأشياء، وينبع منه الاعتراض والاحتجاج على الوجود كما هو قائم ومرفوض، ومن سعي الإنسان لتحويل هذا الوجود وفق ما ينبغي أن يكون، ولذلك فإن القيمة مفهوم له امتداد يطُول مختلف مجالات نشاط الإنسان، ويتعدد تبعا لفاعليته، والقيمة نظرا لهذا التعدد، تصبح إمكانا، بسبب تنوع القيم وتنوع الفعل الإنساني”. ويعرِّف الفيلسوف طه عبد الرحمن القيم في كتاب “الحقُّ العربي في الاختِلاف ” بقوله: “هي جملة المقاصِد التي يسعى القوم إلى إحقَاقها متى كان فيها صلاحُهم، عاجلًا أو آجلًا، وإلى إزهاقها متى كان فيها فسادهم، عاجلًا أو أجلًا” وفي تعريف آخر له يقول:” هي المَعاني الرُّوحية التي أُعطيت للإنسان لكي يتمكَّن من العُروج بروحه إلى عالم المَلَكُوت”، انظر: (دين الحيَاء من الفِقه الائتمَاري إلى الفقْه الائتماني أصُول النظر الائتمَانِي) له أيضا.
وانطلاقًا من هذه التَّعاريف وغيرها يمكن أن أقدم التَّعريف الآتي للقيم:” هي مَجموع المبَادئ والمعَايير الحَاكمة لتَصورات الإنسان الداخلية وقناعاته الجوانية، والقَواعد والضَّوابط النَّاظمة لتصرفات الإنسَان الخارجية و سُلوكاته البرانية”.
أما القيم القُرآنية فهي نسبة إلى القرآن الكَريم ، وقد اختلف العُلماء والمفكرون والباحثُون في تحديد معَالم القيم القرآنية وملامحها، حيث نجِد الدُّكتور رضوان السَّيد قد حددها في ستة مفَاهيم بقوله:” إن الذي أستَظْهرهُ أن المنظومة القيمية في القُرآن، تتركَّز مصطلحاتها المِفتاحية في ستة مفاهيم: المُساواة ، والكَرامة، والرَّحمة، والعَدالة، والتَّعارف، والخيْر العام”، وللمزيد من التَّفصيل انظر بحثَه تحت عنوان “نظام القيم القرآن والتجربة الثقافية الإسلامية في زمانين”، ضمن أعمال الندوة العلمية الدولية “سُؤال الأخلاق والقيم في عَالمنا المعاصر” سنة 2011 بالملكة المغربية، أما الدكتور طه جابر العلواني فقد استنبط من الهدى القرآني مَنظومة القِيم الحَاكمة ، فحدد عناصِرها في ثلاثَة مفَاهيم قيمية كُبرى وهي :”التَّوحيد والتّزكية والعُمران”، أما الدكتور جَاسم سلطان فقد رتَّب الموجهات الكُبرى للنسق القيمي الأعلى في القرآن الكريم، على النحو الآتي:” الاستخلاف، التسخير، حمل الأمانة، العلم، الابتلاء بالدنيا، أحسن العمل، الكرامة الإنسانية، الاختيار، وقد فصَّل القول فيها ضمن كتابه :”النسق القرآني ومشروع الإنسان(قراءة قيمية راشدة)”. السالف ذكره.
ثم إن العُلماء اختلفوا في تحديد القيمةِ المَركزية ضمن القيم القُرآنية الحَاكمة، فهناك من قال إن القِيمة المركزية في المنظومة القرآنية هي التَّوحيد ، كما فصَّل ذلك الدكتور إسماعيل راجي الفاروقي في كتابه “التَّوحيد وأثره في الكَون والحياة“، و حاول الشيخ فضْل الرحمن مالك أن يُبرز الجانب الأخلاقي من القرآن في كتَاباته، وخاصة في كتَابه “المسَائل الكُبرى في القُرآن الكريم”، حيث بين أن القيمة الأسَاسية في القرآن الكريم هي التّقوى، أما الأستَاذ المقرئ أبو زيد الإدريسي فقد مَال إلى أن الرحمة هي القمة المَركزية في القرآن الكريم في كتبه “عموم الرَّحمة وعالمية الإسلام“، وهو الاختيار نفسه الذي اختاره الدكتور خالد الصَّمدي في إحدى محاضراته التأسيسية في هذا السياق، في حين قال آخرون بقيم أخرى كالحُرية، والكرامة والإصْلاح والعَدالة والحق والعدل….
والرأي الذي أميلُ إليه أن منظُومة القيم القرآنية هي شبَكة من المفاهيم المُترابطة والمُنتظمة في النسق النوراني لقرآن المجيد، بحيث إن هذه القيم تتساند وتتعَاضد في صياغة رؤية كلية وتصور شامل للإنسَان والوجود والمصِير، بمعنى أن لكل قيمة من القيم القُرآنية دورها في تحقيق الوظيفة الاستخْلافية للإنسان، بما هي توحيد للخالق وإعمار للأرض وإلحاق الرحمة بالعالمَين، ولذلك سيكون حديثنا عن منظومة القيم القرآنية بمنهج التكامل بين البعد التأصيلي، والبعد الوظيفي للقيم القرآنية، وكيف يُمكن أن يسهم هذا المنهج في حسن تدبر القرآن الكريم واستنباط هداياته وبصائره ، انطلاقا من قوله تعالى في سورة الإسراء : ﴿إنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا ﴾ الآية التاسعة.
إن القيَم في القرآن العظيم مفهوم شامِل يستوعب كل أحكام الإسلام ومقاصده، وتشريعاته وحكَمه، لأن القرآن الكريم رسم الملامح الكبرى لحياة المسلم فردا وأمة، يقول تعالى: ﴿قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين قل إني صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت أنا أول المسلمين﴾ سورة الأنعام الآيات 161-162-162.
وقد يظهر للقارئ الكَريم والمتابع أن هناك قيما أخْرى يمكن أن تنضاف إلى هذه القيم، وهذا أمر طبيعي لأن الله تعالى يسَّر القرآن الكريم تلاوته وتدبره وفهمه والاستنباط منه، والاهتداء بأنواره، والاستمداد من أسراره، كل حسب صفاء قلبه وحاجته ووجهته، يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ﴾ سورة القمر، الآية 17، ويقول في آخر الدخان:58: ﴿فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾. وقول تعالى في سورة يوسف ﴿إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون﴾ الآية 2، ويقول تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ الشورى الآية 52.ـ
د.عبد العزيز الإدريسي
عضو المكتب التنفيذي لحركة التوحيد والإصلاح