التواج يكتب : نظرات في سورة المزمل (3)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد :
سبقت الإشارة إلى أن هذا المقطع من سورة المزمل فيه خطاب أيضا للرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن من جهة خاصة، هي كيف يعامِلُ أعداءَ الله في تلك الفترة، وهُمْ المكذبون بالدين، ولابد للداعية إلى الله من أعداء، يهاجمونه ودعوته بكل الوسائل، قولاً وفعلا، كيداً ومكْراً. وذلك فتنة وابتلاء من الله تعالى له ولمن معه.
وذلك يذكرنا بأول كلام سمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم من ورقة بن نوفل عند بدء نزول الوحي عليه حينما قال له: “لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا حِينَ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم -: ” أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ ؟ “، فَقَالَ وَرَقَةُ: نَعَمْ، لَمْ يَأتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ”[1] فورقة يعرف النواميس، ويعرف طبيعة الدعوات، وعنده شيء من أخبار الكتب سابقا. فهذه العداوة طبيعية لأنها تدافُعٌ بين الحق والباطل.
معاني الكلمات:
{وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا}، الهَجْرُ الجَمِيلُ: هُوَ الَّذِي لا يُصَاحِبُهُ أَذًى. من غير ترك الدعوة إلى الحق على وجه المناصحة.
{ذَرْنِي وَالمُكَذِّبِينَ} أي: دَعْنِي وإياهم ولا تَهْتَمَّ بهم؛ فإني أَكْفِيكَ أَمْرَهُمْ، وَأَنْتَقِمُ لَكَ مِنْهُمْ.
{أُولِي النَّعْمَةِ}: المُتْرَفونَ أصحاب النِّعَمِ وَالْغِنَى وَالتَّرَفِ.
{إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا}: جَمْعُ نِكْلٍ وَهُوَ القيدُ الثقيلُ يُوضَعُ في الأَرْجُلِ فَيمْنَعُ من الحركةِ.
{وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ}: لا يَسُوغٌ في الحَلْقِ كَالزَّقُّومِ وَالضَّرِيعِ وَالْغِسْلِينِ.
{تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ}: تَتَحَرَّكُ وَتَضْطَرِبُ بِمَنْ عَلَيْهَا، وَالرَّجْفَةُ: الزَّلْزَلَةُ الشَّدِيدَةُ.
{وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا}: رَمْلًا سَائِلًا يَتَحَرَّكُ أَسْفَلُهُ فَيَنْهَالُ أَعْلَاهُ.
{فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا}: أَيْ: شَدِيدًا بَلِيغًا. والمعنى عذبناه عذاباً شديداً وخيماً.
{السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ}: مُنْشَقٌّ بِهِ، بسبب هول ذلك اليوم.
معاني الآيات
قوله: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10)
يعني: قريشًا مما لا خير فيه من الخرافات والأقاويل في حق الله تعالى من الشريك والصاحبة والولد، وفي حقك من الساحر والشاعر والكاهن والمجنون، وفي حق القرآن من أنه أساطير الأوّلين، ونحو ذلك.
وإذا انقطع بينك وبين قومك ما ترجو لهم من خير وهداية فكن رفيقا بهم، متوددا إليهم، ولا يحملنّك ما يرمونك به من سفاهة وجهل، على بغضتهم، والدعاء عليهم بل ارفق بهم، والتمس العذر لهم، فهذا هو شأن العالم مع الجاهل، والطبيب مع المريض. فإذا انتهى بك الأمر معهم إلى القطيعة، فليكن ذلك بحكمة وبرفق من جهتك، كأن تقول: سلام عليكم.. لي عملي ولكم عملكم، إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا.. إلى غير ذلك مما علمك الله، من الدعوة إليه، بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن.
قال الفخر الرازي:( قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: هَذِهِ الْآيَةُ إِنَّمَا نَزَلَتْ قَبْلَ آيَةِ الْقِتَالِ ثُمَّ نُسِخَتْ بِالْأَمْرِ بِالْقِتَالِ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ ذَلِكَ هُوَ الْأَخْذُ بِإِذْنِ اللَّهِ فِيمَا يَكُونُ أَدْعَى إِلَى الْقَبُولِ فَلَا يَرِدُ النَّسْخُ فِي مِثْلِهِ وهذا أصح.)[2]
قوله: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11)}
هذا تهديد مزلزل مفزع لهؤلاء السادة المتنعمين، من مشركي القوم، فإنهم هم الرؤوس الفاسدة، التي تقود تلك الحملة الضالة التي تؤذى النبي صلى الله عليه وسلم، وتقف لدعوته بالمرصاد.
وفى قوله تعالى: «وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا» – إشارة إلى أن العذاب الذي يتهدد هؤلاء المشركين، هو مطلّ عليهم، لا يلبث إلا قليلا حتى يقع عليهم.. وقد كان في بدر وغيرها!! ويجوز أن يكون المراد بالإمهال القليل، هو إشارة إلى إعطاء هؤلاء المشركين فرصة ليراجعوا أنفسهم، ويرقبوا مسيرة الدعوة الإسلامية، وأثرها في القلوب والعقول، فلربما كان لهم من ذلك عبرة وعظة.. وقد كان الأمر كذلك. فإن أكثر هؤلاء المشركين قد دخل في الإسلام، وأصبح من العاملين على نصرته، والتمكين له.
قوله: {إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13)}
هذا هو ما سيلقى المشركون يوم القيامة، إذا هم ماتوا على ما هم عليه من شرك.. إنهم سيردون إلى الله، وإنه ليس لهم عند الله إلا أنكال، وجحيم، وطعام ذو غصة وعذاب أليم..
فهذه صورة من صور العذاب التي يتجرع أهل الضلال كؤوسها قطرة قطرة يوم القيامة.. فهل يريد أصحاب الترف والنعيم أن يذوقوا هذا البلاء؟ إنه موجود عندنا، لا نتكلف له جهدا، وإنه ينتظر الضالين المكذبين.
قوله: {يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا (14)}
إشارة إلى ما يحدث للأرض في هذا اليوم من اضطراب، حيث تتشقق القبور، وتخرج ما فيها، وحيث تموج بهذه الأمواج المتدافعة من الخلق الذين يساقون إلى المحشر! ورجفة الأرض والجبال، هي من رجفة الخلائق يوم البعث، من فزعهم من أحوال هذا اليوم العظيم، كما يقول سبحانه: «وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ، فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ» (87: النمل) .
وقوله تعالى: «وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلًا» إشارة أخرى إلى ما يصيب الجبال من أحداث هذا اليوم وشدته، وأنها تتفتت وتنهار، وتبدو مثل كثيب من الرمل المهيل، أي غير المتماسك.
إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15)
قوله:{ فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (16)}
هو عودة إلى هؤلاء المشركين، بعد تهديدهم بالعذاب في الدنيا، وعذاب جهنم في الآخرة- عودة إليهم بعرض دعوة الإسلام عليهم من جديد، ليراجعوا أنفسهم، وليطلبوا السلامة من العذاب، القريب والبعيد الذي ينتظرهم..
ويكثر في القرآن الكريم، مواجهة المشركين بفرعون، وما كان منه من كفر وضلال، وما أخذه الله به من بلاء ونكال.
وهذا الجمع بين المشركين وبين فرعون يشير فيما يشير إليه، إلى ما بين هؤلاء المشركين وبين فرعون من مشابه كثيرة، في العناد، والجهل، والضلال، والاستعلاء على سماع كلمة الحق، والنفور منها..
وقوله تعالى: «رَسُولًا شاهِداً عَلَيْكُمْ» – إشارة إلى أن مهمة الرسول هو تبليغهم، وأداء الشهادة عند الله فيهم، بما كان منهم من هدى أو ضلال، ومن استجابة له، أو إعراض عنه.. كما يقول سبحانه: «فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً» (41: النساء) .
وقوله تعالى: «فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلًا» – هو بيان للمشركين، يرون فيه ما كان من فرعون، وما حل به.. لقد عصى فرعون الرسول وهو موسى عليه السلام، فأخذه الله تعالى أخذا وبيلا، أي أخذا مخزيا مهينا مهلكا.. فهل يعصى هؤلاء المشركون الرسول الذي أرسله الله إليهم؟
إنهم إن يفعلوا فعل فرعون، فسوف يلقون ما لقي فرعون.. إنهم ليسوا أشدّ من فرعون بأسا، ولا أكثر منه قوة، ولا أعز نفرا.
قوله :{فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17)}
هو تعقيب على قوله تعالى: «فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلًا» – أي فكيف تدفعون عن أنفسكم عذاب هذا اليوم الذي يجعل الولدان شيبا، إن كفرتم ولم تؤمنوا بالله، ولم تستجيبوا لما يدعوكم إليه الرسول صلى الله عليه وسلم ؟ كيف تدفعون عن أنفسكم هذا العذاب؟ أأنتم أقوى من فرعون وأشد بأسا وأكثر نفرا؟ لقد أخذ فرعون بكفره، وستؤخذون أنتم بكفركم إن كفرتم واستكبرتم على الحق.
وفى قوله تعالى: «إِنْ كَفَرْتُمْ» – احتراس، يراد به قيد هذا العذاب الذي يتهددهم، وأنه رهين بما ينكشف عنه موقفهم من دعوة النبي صلى الله عليه وسلم.. فهم إلى هذه اللحظة في سعة من أمرهم، مادام النبي صلى الله عليه وسلم فيهم، وما داموا في الحياة، لم تطو صحف أعمالهم بعد بالموت. وفى هذا إغراء لهؤلاء المشركين بالإيمان، وإفساح الطريق لهم للهداية..
وقد دخل كثير منهم في دين الله، وأصبحوا مؤمنين، وهذا هو بعض الحكمة في قوله تعالى: «وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا» .. وقوله تعالى قبل ذلك: «وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا» .
قوله:{ السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (18)}
هو وصف لهذا اليوم الذي تشيب من هوله الولدان.. وكما أن الأرض ترجف منه، والجبال تنهار، وتصبح كثبانا مهيلة من الرمال كذلك السماء تنفطر به، أي تتشقق به، أي بسببه. وإذا كانت السماء – على عظمها – تتشقق وتتصدع بيوم القيامة؛ فما ظنك بغيرها من الخلائق الذين هم دونها في الخلق؟ قال تعالى: { أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28)}.
وقوله تعالى: «كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا» أي كان وعد الله تعالى واقعا لا محالة، فهو ليس مجرد قول، بل هو قول يتحول إلى فعل واقع، ومشاهد محسوس..
قوله:{إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (19)}
قال الشيخ الطاهر بن عاشور: ( أَيْ تَذْكِرَةٌ لِمَنْ يَتَذَكَّرُ فَإِنْ كَانَ مِنْ مُنْكِرِي الْبَعْثِ آمَنَ بِهِ وَإِنْ كَانَ مُؤْمِنًا اسْتَفَاقَ مِنْ بَعْضِ الْغَفْلَةِ الَّتِي تَعْرِضُ لِلْمُؤْمِنِ فَاسْتَدْرَكَ مَا فَاتَهُ، وَبِهَذَا الْعُمُومِ الشَّامِلِ لِأَحْوَالِ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمْ وَأَحْوَالِ غَيْرِهِمْ كَانَتِ الْجُمْلَةُ تَذْيِيلًا.)[3]
وهذه الآيات التي تحمل النُّذُر والمبشرات معا، هي تذكرة، يجد فيها أولو العقول السليمة، تجاوبا مع الفطرة، فيذكرون بها الميثاق الذي أخذه الله عليهم وهم في ظهور آبائهم، من الإيمان به، والإقرار بربوبيته ووحدانيته، كما يقول سبحانه: «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى!!» (174: الأعراف) .
وقوله تعالى: «فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا» – إشارة إلى أن الطريق إلى الله مفتوح لكل من يريد الاتجاه إليه، فليس هناك من يحول بين الإنسان وبين اتصاله بربه، كما أنه ليس هناك من يحمل الإنسان حملا على أخذ هذا الطريق.. «وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ» (29: الكهف)
هدايات الآيات :
1- بيان أصول التعامل مع المعادين للدعوة:
قال الشيخ الشاهد البو شيخي:(هاهنا كان الإرشاد يتلخص في خمسة أمور هي أصول الرد على المعادين، متتالية ومتكاملة.
أولُها : الصبر على ما يقولون ويفعلون من أذى، الصبرَ. الصبرَ…وهو يتطور مع الزمن ففي البداية على الأذى، وفي مرحلة الجهاد يكون الصبر على البذل، بذل النفس {ولنبْلُونّكُم حتى نعْلم المجاهدين منْكُم والصابِرين ونبْلُو أخْباركم}(محمد : 31) الصبر في جميع المراحل، وفي جميع الأحوال، وبجميع أنواعه هو ضامِنُ الخيْر.
ولكن الصبر المطلوب هو الصبر الشرعي، وليس الصبر الشائع بين الناس الذي فيه إدْهان، وفيه التسليم بالباطل، وفيه الرجوع عن الحق، لا. لا.ولكن عليك أن تعرف الحق وتعمل به وتسْكُتَ، مهما جاءت زعازع، ورياح هوجاء، وعواصف، أُثْبت، فإن النّصر مع الصبر، إذا كان الصّبْرُ كان النصر، وإذا لم يكن صبرٌ ضاع كل شيء : {فاصْبِرْ على ما يَقُولُون}.ولا يكون الصبر إلا على قول مؤلم، فقد اتُّهم بالجنون وغيره، فاصبر على القول، ومِثْله إذا فعَلُوا فِعْلاً.
الثاني: هو الهجْرُ الجميل {واهْجُرْهُم هجراً جَمِيلا} هجرانهم بالإعراض عنهم وعدم أذاهم، هم يؤذونك وأنت لا تُؤْذهم {ولا تُطِعْ الكافِرين والمنافِقين ودَعْ أذَاهُم}(الأحزاب : 48) تحمَّلْ الأذى ولا تؤذهم.
أنظر إلى هذه الدرجة الرفيعة التي يريد الله عز وجل أن يرقى إليها المؤمنون بدءا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالمسلم يتحمل أذى الخلْق، ولا يؤذي الخَلْق، وهذه درجة عالية، يفعَلُ الحق يعَلِّم الحق، يقول الحق، يتصف بالحق، ويقف عند ذلك الحدِّ فيصبر ويحتسب إذا أوذي، ثم لا يؤذيهم، الهجْرُ الجميل، {أعْرِض عنْهُم وقُل سلام}.
هذا كيف يُعَامَلُ من يعادي من أعداء الله، يعني في المرحلة التي يكون الدِّين فيها يتأسَّسُ، مازال لمْ يعُمّ، مازال لم يصل إلى مرحلة الأمة القائمة بدين الله عز وجل، تلك مرحلة ستأتينا في آخر السورة إن شاء الله.فإذن أول الرّدِّ الصبرُ، والثاني الهَجْرُ الجميل.
وثالث وسائل الرّدِّ التخويف بالله تعالى الذي يتولى أمرهُم بكَيْدِه المتين، كما تقدم، الذي يُمهل في الدنيا ولا يُهْمل {ومهِّلْهُم قليلا}. يمكن أن نمهلهم ولكن الحساب قادمٌ في الدنيا، بكيده المتين {وأُمْلي لهُم إن كَيْدِي مَتِين} في سورة القلم. وفي الآخرة عذابه المهين الذي منه الجحيم والهول العظيم كما ذكر هنا.
هذا التخويف هو الذي كان الله عز وجل يزوِّد رسوله به، به كان يتمّ الرّدُ بشكل من الأشكال، {وذَرْني والمكذِّبين أولي النّعمة ومهّلْهم قليلا إنّ لَدينا أنكالاً وجحِيماً وطعاماً ذا غُصّةٍ وعذَاباً أليما يوم ترْجُف الأرض والجبال} التخويف بأهوال يوم القيامة، يوم الحساب.
الأسلوب الآخر الرابع هو قصُّ القصَصِ عليهم، المشابهة لحالهم للاعتبار والاتعاظ {إنّا أرسلنا إليكم رسولا شاهداً عليكم كما أرْسلنا إلى فرعون رسولا، فعصى فرعونُ الرّسُول فأخَذْناه أخذاً وبيلا} وهذا الأخذ الوبيل يمكن أن يقع لكم أيضا، فتجنبوا هذا، احْذَرُوا هذا الأمر.هذا الأسلوب أيضا من الأساليب التي كان يردُّ بها على الكفار والمشركين والمكذبين بالدّين إلى غير ذلك.
وخامس أساليب الرّدّ : ترغيبُهم في التوبة إلى ربهم قبل فوات الأوان. وهذا مما يستفاد من قوله تعالى : {إن هذه تذكرةٌ فمن شاء اتّخَذَ إلى ربّهِ سَبِيلاَ} هذه تذكرة لكم، تُذَكِّركم بالعهد الأول، فإن تذكرتُم فمن شاء مِنْكُم اتخذ إلى ربّه سبيلا.ولم يقل ومن شاء لم يتّخِذ. لا.يعني بذلك أنه يقول لهم : اذْهَبُوا في هذا الاتجاه، هذا هو الطريق، هذه مجرد تذكرة فاتجهوا فسارعوا، اتخذوا سبيلا إلى ربكم)[4].
2- التشابه في الجريمة والعقاب:
اشترك أهل مكة في تكذيب النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم والاستخفاف به، مع فرعون وقومه الذين كذبوا موسى عليه السلام، قال مقاتل: ذكر- أي الله- موسى وفرعون لأن أهل مكة ازدروا محمدا صلّى الله عليه وسلّم واستخفوا به لأنه ولد فيهم، كما أن فرعون ازدرى موسى لأنه ربّاه ونشأ فيما بينهم، كما قال تعالى: {أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً الشعراء}. فكان التشابه في الأحوال سببا لذكر قصة موسى وفرعون على التعيين دون سائر الرسل والأمم.
3–الدعوة إلى التذكر والاتعاظ بآيات القرآن الكريم
قال الشيخ الطاهر بن عاشور:( فَالتَّذْكِرَةُ: الْمَوْعِظَةُ لِأَنَّهُ تَذَكُّرُ الْغَافِلِ عَنْ سُوءِ الْعَوَاقِبِ، وَهَذَا تَنْوِيهٌ بِآيَاتِ الْقُرْآنِ وَتَجْدِيدٌ لِلتَّحْرِيضِ عَلَى التَّدَبُّرِ فِيهِ وَالتَّفَكُّرِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّعْرِيضِ.)[5].
وهنا أنقل كلاما نفيسا لابن القيم رحمه الله عن تدبر القرآن يقول فيه: “ليس شيء أنفع للعبد في معاشه ومعاده من تدبر القرآن وجمع الفكر على معاني آياته؛ فإنها تطلع العبد على معالم الخير والشر بحذافيرها وعلى طرقاتهما وأسبابهما وثمراتهما ومآل أهلهما، وتتل في يده مفاتيح كنوز السعادة والعلوم النافعة، وتثبت قواعد الإيمان في قلبه، وتريه صورة الدنيا والآخرة والجنة والنار في قلبه، وتحضره بين الأمم، وتريه أيام الله فيهم، وتبصره مواقع العبر، وتشهده عدل الله وفضله وتعرفه ذاته وأسماءه وصفاته وأفعاله وما يحبه وما يبغضه وصراطه الموصل إليه وقواطع الطريق وآفاته، وتعرفه النفس وصفاتها ومفسدات الأعمال ومصححاتها، وتعرفه طريق أهل الجنة وأهل النار وأعمالهم وأحوالهم وسيماهم ومراتب أهل السعادة وأهل الشقاوة. فتشهده الآخرة حتى كأنه فيها، وتغيبه عن الدنيا حتى كأنه ليس فيها، وتميز له بين الحق والباطل في كل ما يختلف فيه العالم، وتعطيه فرقاناً ونوراً يفرق به بين الهدى والضلال، وتعطيه قوة في قلبه وحياة واسعة وانشراحاً وبهجة وسروراً فيصير في شأن والناس في شأن آخر؛ فلا تزال معانيه تنهض العبد إلى ربه بالوعد الجميل، وتحذره وتخوفه بوعيده من العذاب الوبيل، وتهديه في ظلم الآراء والمذاهب إلى سواء السبيل، وتصده عن اقتحام طرق البدع والأضاليل، وتبصره بحدود الحلال والحرام وتوقفه عليها؛ لئلا يتعداها فيقع في العناء الطويل، وتناديه كلما فترت عزماته: تقدمَ الركبُ، وفاتك الدليل، فاللحاقَ اللحاقَ، والرحيلَ الرحيلَ. فاعتصم بالله واستعن به وقل: حسبي الله ونعم الوكيل”.[6]
4- الفرق بين “نِعمة” بكسر النّون و”نَعمة” بفتح النّون:
قال الله تعالى: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا}،النَّعمة بفتح النّون هي لين العيش والتّرف والرّفاهيّة والرّخاء، وكما هو معلوم النَّعيم من النِّعم، والرّفاهيّة والرّخاء نَعمةٌ ولم ترد في القرآن الكريم لفظ نَعمةٍ إلّا في معرض الذّمّ، كقوله تعالى: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا}، وقال أيضًا: {وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ}،فالنَّعمة لم ترد في الخير أبدًا، أمَّا النِّعمة بكسر النّون فكلُّها خير، وهي تفضّل الله تعالى وتكرّمه على عباده بهدايتهم إلى الدّين الصّحيح، والصّحّة والعافية في أجسادهم، والمأكل والمشرب وثمرات الدّنيا، والزّوجة الصّالحة، والصّحبة الصّالحة، والمال والبنون، كلّ ذلك من النِّعم، قال تعالى: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا}،وقال أيضا: {وأمّا بنِعمة ربّكَ فحدّث}.
والحمد لله رب العالمين
يتبع……
ذ/ خالد التواج مسؤول قسم التربية
[1] – صحيح البخاري، بَابُ أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ.
[2] – تفسير الرازي،30/689.
[3] – التحريروالتنوير،29/277.
[4] – جريدة المحجة، العدد 274. 26 سبتمبر، 2010.
[5] – التحريروالتنوير،28/278.
[6] – مدارج السالكين، ج1، ص 485، 486.
التواج يكتب: نظرات في سورة المزمل (1) |
التواج يكتب : نظرات في سورة المزمل (2) |