وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً
بين الحين والآخر؛ يقوم دعاة هدم القيم ومسخ الفطرة السليمة، ومعهم بعض المستَلَبين المتأثرين بالأفكار و”القيم” المتعارضة مع الثوابت الجامعة للمغاربة؛ يقومون بأعمال استفزازية؛ يندرج البعض منها ضمن الإخلال بالحياء أو بالنظام العام. ويسعون من خلال ذلك إلى تطبيع المجتمع معها بشكل تدريجي، مراهنين على إسقاط المنهج التّجريبي الخاص بالعلوم الطّبيعية على مجال علم الاجتماع وتحديدا على علوم السّلوك البشري (les scıences du comportement)؛ ومن ذلك تجربة “الرّفع التّدريجي لدرجة حرارة إناء ماء فيه ضفدعة بحيث لا تفطن إلاّ وقد تمّ سلقها”؛ وهي التّجربة التي يراد محاكاتها في مجال التّغيير التّدريجي لقيم وسلوك العنصر البشري.
وهكذا؛ لم يكد يُطوى ملف جريمة الدعاية للحشيش وللمخدرات فوق منصّة فنية منظمة بدعم رسمي، حتى طلع علينا مهرجان الفيلم الدولي بمراكش في دورته التاسعة عشرة بفيلم “مغربي” يروج للشذوذ الجنسي سواء على مستوى السيناريو والحوار أو على مستوى ما يتضمنه من لقطات يظهر فيها المؤدون لأدوار “الشاذين جنسيا” تعبيرات ترمز للعلاقة الحميمة بينهم. والأدهى من ذلك أن هذا الفيلم المخل بالحياء والخادش لشعور المغاربة حصل، حسب ما تداولته عدد من وسائل الإعلام المغربية، على دعم عمومي من أموال دافعي الضرائب، بل وتمّ ترشيحه لنيل جوائز دولية.
وإذا كان هذا العمل المستفز والمفروض يسائل المركز السينمائي المغربي عن مبرّرات دعم أعمال منافية للدستور والهوية والقيم المغربية، فإنه يسائل أيضا إدارة مهرجان مراكش عن مسوّغات عرضه ضمن برنامجها دون احترام لهوية ومرجعية المملكة المغربية وللجهة الراعية له.
وإزاء مثل هذه الأعمال المستفزة والمعادية للقيم الجامعة لأمتنا المغربية، لا بدّ من التأكيد على ما يأتي:
أولا: إنّ الالتزام بالثوابت الجامعة ضمانٌ للوحدة ودرءٌ للفتن
لقد أمر الحق سبحانه في كتابه الكريم باتقاء الفتن التي قد يتسبب فيها قلة من الناس، لكن بسكوت الباقين وقبول عامتهم لها يحيق الضرر بالأمة كلها؛ قال تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 25]؛ وجاء في تفسيرها: “فإن المسلمين إن لم يكونوا كلمة واحدة في الاستجابة لله وللرسول عليه الصلاة والسلام؛ دبّ بينهم الاختلاف واضطربت أحوالهم واختل نظام جماعتهم باختلاف الآراء، وذلك الحال هو المعبر عنه بالفتنة. وحاصل معنى الفتنة يرجع إلى اضطراب الآراء، واختلال السير، وحلول الخوف والحذر في نفوس الناس.” (التحرير والتنوير؛ ابن عاشور).
وسنن التاريخ تكشف أن إفشاء الظلم والفساد والسكوت عنه مؤذن بخراب المجتمعات وبتعرّضها للهزات التي قد تكون سببا في تصدّعها وضعفها. ومن ثم ينبغي للعقلاء أن ينتبهوا لمحاولات تدمير المخزون القيمي لمجتمعنا، وأن يبادروا إلى إنقاذه وحفظه. فقد سألَت زينب بنت جحش رضي الله عنها؛ قالت: يا رسول اللّه أَنَهْلِكُ وفينا الصالحون؟ قال: نعم، إذا كَثُرَ الْخَبَثُ.” متّفق عليه. والخبث: الفسوق والفجور والمعاصي.
ثانيا: إنّ استقرار المجتمع من استقرار الأسرة
تحتل الأسرة مكانة مهمة في ديننا الحنيف، فهي آية من آيات الحق سبحانه وتعالى، والعهد الذي يجمع الرجل والمرأة عند الزواج عدّه الباري عز وجل ميثاقا غليظا لقوته وعظمته ومدى أهميته في بناء الأسرة. هذه الأسرة التي حددها الدستور المغربي في فصله 32 بكونها “الأسرة القائمة على علاقة الزواج الشرعي هي الخلية الأساسية للمجتمع.” وحمّل الدولة مسؤولية العمل على “ضمان الحماية الحقوقية والاجتماعية والاقتصادية للأسرة بمقتضى القانون؛ بما يضمن وحدتها واستقرارها والمحافظة عليها”، وهو ما تعززه المادة الرابعة من مدونة الأسرة التي جاء فيها أن “الزواج ميثاق تراض وترابط شرعي بين رجل وامرأة على وجه الدوام، غايته الإحصان والعفاف وإنشاء أسرة مستقرة، برعاية الزوجين طبقا لأحكام هذه المدونة.”
يُضاف إلى ذلك أن خبراء علم الاجتماع وعقلاء الإنسانية يعتبرون الأسرة هي الدعامة الأساسية لاستقرار المجتمع، وأنه ينبغي بذل كافة الجهود لأجل استدامة وجودها وحفظها وتحصينها. ولقد أكدت الأزمات التي مرّ بها المجتمع المغربي من مثل جائحة كورونا وغيرها، أن الأسرة كانت دائما هي الحصن الذي حفظ المجتمع، وضمن التكافل والتواصل بين أفراده. وإنّ كل دعوة إلى إشاعة الفاحشة وقبولها بين الناس، أو إلى الترويج للشذوذ الجنسي؛ من شأنها أن تضعف مؤسسة الأسرة وتصيب المجتمع في مقتل، ناهيك عن أن ذلك يتنافى مع الثوابت الجامعة التي تستند لها الأمة المغربية في حياتها العامة حسب الفصل الأول من دستور المملكة، وفي مقدمتها الدين الإسلامي، ويخالف القوانين الجاري به العمل ولا سيما مدونة الأسرة.
ثالثا: إنّ التواصي بالحق والنصيحة سبيل للفلاح وتجنب للخسران
لقد أقسم الحق سبحانه وتعالى في سورة العصر أن مآل الإنسان إلى خسر ما لم يتحقق بالإيمان وعمل الصالحات وبالتواصي بالحق مع باقي إخوته وأفراد مجتمعه، ثمّ التواصي بالصبر على كل ذلك، ولأهمية النصيحة جعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه هي الدين؛ إشارة إلى عظم مكانها وعلو شأنها في ديننا الحنيف، حيث جاء في صحيح مسلم “الدِّينُ النَّصِيحَةُ. قُلْنا: لِمَنْ؟ قالَ: لِلَّهِ ولِكِتابِهِ ولِرَسولِهِ ولأَئِمَّةِ المُسْلِمِينَ وعامَّتِهِمْ.”.
وجعل الحق سبحانه وتعالى من دفاعِ الناسِ بعضهُم ببعضٍ إسهاما في تجنب فساد الأرض و “عبرة من عِبَرِ الأكْوانِ، وحِكْمَة مِن حِكَمِ التّارِيخِ، ونُظُمِ العُمْرانِ” كما أشار لذلك ابن عاشور في تفسيره للآية 249 من سورة البقرة ﴿ ولَوْلا دِفاعُ اللَّهِ النّاسَ بَعْضَهم بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرْضُ ولَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلى العالَمِينَ ﴾. كما فضل الله تعالى المسلمين على باقي الأمم بخصلة عظيمة هي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. قال الله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110].
وبهذه الخصلة حفظ الله تعالى المجتمعات المسلمة من الزوال، فهي وظيفة ومهمةُ المؤسسات المختصة، ومن مسؤولية كلّ الأفراد في نطاق وُسعهم وما يخوله لهم القانون. وإن تقصير الإعلام العمومي والمؤسسات الرسمية في تطويق دعوات الفساد والانحلال الأخلاقي، وتيسير بعضها لمهمة الرتق والإخلال بالقيم داخل المجتمع من شأنه أن يهدد الأمن الروحي للمواطنين واستقرار المجتمع. كما أن استقالة مختلف الهيئات المختصة من القيام بدورها؛ سواء في التربية والتأطير أو تلك المسؤولة عن إنفاذ القانون ومحاربة الجريمة من شأنه أن يؤدي إلى ظهور سلوكات غير سليمة وغير مقبولة في التعبير عن رفض الشذوذ الجنسي المجرّم شرعا وقانونا -وغيره من الجرائم المخلة بالقيم والهوية الإسلامية للدولة والمجتمع-على غرار ما حدث -للأسف- في مدينة طنجة في الأيام الأخيرة.
رابعا: إنّ للفنّ ولأهله رسالة سامية في المجتمع
إن الاسلام يعتمد على الاستجابة التلقائية للأوامر من خلال تعميق الصلة بالله تعالى وابتغاء مرضاته، ويستعين في ذلك بدعوة العصاة ومن ضعُفت نفوسهم إلى التّستّر وعدم المجاهرة بالمعصية. فقد قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم -: ” كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا الْمُجَاهِرِينَ، وَإِنَّ مِنَ الْمُجَاهَرَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلًا، ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ، فَيَقُولَ: يَا فُلَانُ، عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ، وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللهِ عَنْهُ” متّفق عليه من رواية أبي هُرَيْرَةَ. ولقد بتنا اليوم لا نسمع فقط من يتحدث بين أصدقائه عن معصية وقعها فيها في الخلوات، وإنما تعدى ذلك إلى تعمّد إظهار الفاحشة والتبجح بها أمام الملأ في العروض التلفزية والسينمائية، وأصبح الحصول على الامتيازات في الأنشطة الفنية رهينا بالمزايدة والإمعان في تحدى مشاعر المغاربة وأخلاقهم.
إن وظيفة الفن ورسالة أهله في المجتمع هي المساهمة في نشر الوعي السليم، والإبداع في السمو بالذوق وإشاعة مكارم الأخلاق، والسعي لمعالجة الانحرافات المجتمعية بتعزيز القيم البانية، والتعريف بثقافة المغاربة وتاريخهم ورموزهم الحضارية.
ومن ثم فمن واجب أهل الفن ممن يحرصون على دينهم؛ ألا ينساقوا وراء المغريات المادية ويخضعوا للابتزاز المشين فيستجيبوا لدعوات الإخلال بالحياء التي يمولها من يسعون إلى هدم بنيان الأسرة، والله تعال يقول لنا جميعا: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} [النساء: 27].
فاللهم احفظنا واحفظ بلدنا، وجنّبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأدم علينا نعمة الوحدة والأمن والأمان والاستقرار. آمين، والحمد لله رب العالمين.