معركة وادي المخازن.. ملحمة مغربية قضت على أحلام مملكة البرتغال
تحل اليوم ذكرى معركة وادي المخازن أو معركة الملوك الثلاثة، التي اندلعت بين بلاد المغرب الأقصى والبرتغال في 30 جمادى الآخرة 986 هـ، 4 غشت 1578، بعدما تطور الأمر من نزاع على السلطة بين محمد المتوكل والسلطان أبو مروان عبد الملك إلى حرب مع البرتغال بقيادة الملك سبستيان، الذي حاول القيام بحملة صليبية للسيطرة على جميع شواطئ المغرب، وكي لا تعيد الدولة المغربية مع العثمانيين الكرّة على الأندلس.
وبعد اغتيال السلطان المغربي محمد الشيخ، مؤسس الدولة السعدية وموحد المغرب تحت إمرتها، سنة 1554، تَولَّى ابنه عبد الله الغالب الحكم من بعده، فبايعه المغاربة على أن يصون لهم الوطن والأرض، والملَّة والعرض، فقبِل بيعتهم وتولى عليهم سلطانا، وطوال حكمه اختار الغالب نهج ترسيخ ما سبق وشيّده أبوه، فعمل على تأمين المغرب من جبهته الخارجية بحلفه مع الإبيريين، كما عمل على رأب تصدعات جبهته الداخلية بتأديب القبائل المتمردة وإعادتها بالسلاح إلى كنف الطاعة.
استمر الغالب قرابة عشرين سنة، وقُبيل وفاته كان العدوّ ينصب حبال المكيدة كي يوقع الدم في الدم، بين ابنه المتوكل من جهة منصورا بالبرتغاليين، وأخويه عبد الملك وأحمد المنصور متحالفَين مع الدولة العثمانية، في صراع عروش لم يحسمه سوى أم المعارك، معركة وادي المخازن.
قُبيل أن يتوفى الله عبد الله الغالب، كانت عيون أخويه عبد الملك وأحمد على العرش من بعده، فيما كان هؤلاء يرون كذلك أخاهما يقرّب ابنه من مقاليد حكم هم الأحقّ به، إعدادا لتولي زمام أمور هم أولى بها، مما دفع الأخوين إلى التوجه شرقا نحو السلطان العثماني سليم الثاني، الذي نصرهما بـ5000 من جنده أعانوهما على استرجاع عرش المغرب بعد أن مات الملك.
رأى المتوكل في المقابل في الإيبيريين النصرة والعضد، فتوجه إلى سباستيان ملك البرتغاليين يسأله المدد على حربه في استرجاع عرشه. استنصر بالنصراني فثارت عليه علماء المغرب وفقهاؤه، وبعثوا إليه برسالة يقولون فيها: “هذا جواب من كافة الشرفاء والعلماء والصلحاء والأجناد من أهل المغرب (…) وأما قولك في النصارى فإنك رجعت إلى أهل العدوة واستعظمت أن تسميهم بالنصارى، فيه المقت الذي لا يخفى، وقولك رجع إليهم حين عدمت النصرة من المسلمين ففيه محظورات يحضر عندهم غضب الرب جل جلاله” (ذكرها الدكتور شوقي أبو خليل في كتابه “معركة وادي المخازن”).
أما سيباستيان ملك البرتغال، فقد رأى في طلب المتوكل نصرته منجاته من خطر ظن أنه محدق إثر تحالف عبد الملك والعثمانيين. في هذا يقول صاحب “تاريخ الدولة السعدية التكمدارتية” (مؤرخ مجهول): “وقال بعضهم (حشية الملك سيباستيان) إن هذا السلطان (عبد الملك) رأى مملكة الترك ورأى المنافع، وأول ما أمر بإنشاء السفن، وإن كملت له إعمارة يقطع إلى بلادنا مع أهل الأندلس وهم أقرب إليه في الرأي والتدبير”. وبالتالي اشترط سيباستيان على المتوكل أن ينصره مقابل أن يسلمه الثغور المغربية، وأما ما دون السواحل فهو له.
وتُورِد مصادر أوروبية أن سيباستيان كان يعاني أمراً آخر، دفعه إلى الحرب رغم تحذيرات خاله ملك إسبانيا بعدم التوغل في المغرب، هو أنه كان يبتغي من انتصاره إعادة هيبة العرش البرتغالي بعد أن اتسمت مرحلة أبيه بالضعف والخنوع، كما كان يودّ أن يحظى لنفسه بمكان رفعة بين ملوك أوروبا.
عبر جيش سيباستيان إلى العدوة المغربية من البحر المتوسط، يوم 9 يوليوز 1578، قوامه حسب صاحب “تاريخ الدولة السعدية التكمدارتية” ستين ألف جندي وفارس، فيما حددته الدراسات التاريخية المتأخرة بـ28 ألف جندي مكونين أساساً من جنود برتغاليين إضافة إلى الإسبان، إضافة إلى مرتزقة إيطاليين وألمان، وجنود الفاتيكان في 1500 مقاتل، إضافة إلى المتوكل وصحبه. وحطوا بطنجة، وبعدها أخذوا يعيثون في البلاد تقتيلًا ويتقدمون محتلين مدينة تلو أخرى.
أمام هذا الواقع راسل عبد الملك سيباستيان قائلا: “إن سطوتك قد ظهرت في خروجك من أرضك وجوازك البحر إلى عدوة المسلمين، فإن ثبت في الساحل إلى أن أتقدم عليك فأنت نصراني حقيقي شجاع، وإن زحفت إلى البلاد وحقرت بعد الرعية قبل أن يقابلك أمير مثلك فأنت كلب ابن كلب”، استشاط سيباستيان غضباً وركب عناده في قبول تحدي الأمير، مع تحذيرات قادته بضرورة التقدم والسيطرة على مواقع استراتيجية.
علم حين ذاك عبد الملك أن صاحبه غر، وسهل استدراجه من خلال إثارة عناده، فراسله مرة أخرى قائلا: “إني جئتك راحلًا من مراكش ست عشرة مرحلة، وأنت لم تدنُ إليّ ولا مرحلة”. وقد كانت حركة استدراج ناجحة من سلطان المغرب، إذ نزل وفقاً للتحدي ملك البرتغال عن تحصيناته عابراً وادي المخازن (قرب مدينة القصر الكبير شمالي المغرب حالياً)، وكان وادياً شاهق الجراف ثائر المياه على طول السنة. وفي الليل حمل السلطان المغربي أخاه أحمد المنصور على قيادة فرقة مسلحة بالمعاول والفؤوس لهدم القنطرة الوحيدة التي عبر منها جيش سيباستيان.
في صبيحة 4 غشت 1578، وجد البرتغاليون ومعهم المتوكل أنفسهم محاصَرين، أمامهم جيش يضمّ قبائل المغرب، ووراءهم هوة الوادي السحيقة. وسرعان ما بدأ القتال، وبدأت معه الكماشة التي وضعهم فيها عبد الملك بالانغلاق، فلم يدَعْ لهم خياراً إلا بين الموت والموت: قتلًا برماح المسلمين وسيوفهم، أو سحقاً وغرقاً من فوق أجراف الوادي. فدارت بين الفريقين أهوال القتال، وشاءت الأقدار أن يتوفى الله السلطان عبد الملك من شدة المرض، فأخفى حاجبه الخبر لألّا يثبّط عزيمة باقي الجنود.
إلى أن آن الانتصار باندحار جيش المحتلّ بعدما قُتل ملكهم سيباستيان مع المتوكل الذي استنصره. إثر ذاك أشاع الحاجب في وهدة النصر خبر المصاب الجلل، فركنت الجند إلى مبايعة أحمد المنصور ملكا للبلاد ومعهم القبائل كلها، معلنين بداية عهد ازدهار لم يعرف المغرب له مثيلاً، ففي عهد المنصور بلغ المغرب أقصى لحظات توسعه الجغرافي، ببلوغه حد غينيا الحالية جنوباً، وشرقاً ضمّ أراضي من النيجر والتشاد، كما كثر الذهب في خزائن الدولة المغربية في عهده، فلُقّب بـ”السلطان أحمد المنصور الذهبي”.
إن ما يعطي القيمة الدلالية الكبرى لمعركة واد المخازن؛ أنها وقعت في ظروف إقليمية ودولية معقدة ودقيقة تميزت بسلسلة من المواجهات العسكرية مع القوى الاستعمارية الأوروبية، وبتنامي الأطماع الأجنبية والرغبة في التحكم في أوضاع الشمال الإفريقي وخاصة في الدولة المغربية، بهدف استغلال الموانئ المغربية الاستراتيجية، مع البحث عن الذرائع لتبرير حملات عسكرية على المغرب، وهو ما لم يتأت لهم رغم الفارق في القوة العسكرية .
وكعادة المغاربة في كل الشدائد، لقنوا العدو درسا بليغا أضحى مرجعا تاريخيا في الشجاعة والتماسك والصبر، واستطاعوا الحفاظ على استقلالهم وسيادتهم، ليقوضوا أحلام ملك البرتغال الذي ركب أطماعه مغامرا في حملة عدوانية، غير محسوبة العواقب لبسط نفوذه والهيمنة على الكيان المغربي الحر المستقل والقوي.
وقد حطم المغاربة جسر النهر للحيلولة دون تراجع القوات الغازية نحو ميناء العرائش، ومني البرتغاليون بخسارة جسيمة بمقتل ملكهم، والملك المخلوع محمد المتوكل ،كما توفي السلطان عبد المالك السعدي إبان المعركة بسبب تسمم تعرض له من الأعداء.