الدعوة تنمية
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده وستعينه ونستغفره ونعود بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد لها وليا مرشدا ونشهد ألا اله إلا الله وحده لا شريك له ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله
سأتحدث معكم اليوم في موضوع الدعوة إلى الله، الدعوة والتنمية، والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن هل تساهم الدعوة إلى الله في تحقيق شيء من هذه التنمية؟ تنمية الحال، وتنمية القدرات، وتنمية حياة هذا الإنسان المدعو، فإذا كان القصد من الدعوة إلى الله عز وجل هو أن ندعو إلى الله ونعرف الناس بالله عز وجل وأن ندل الناس على الله ونبين لهم الصراط المستقيم ونرصدهم لهذا الصراط القويم وخلاصة الأمر أن نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، ما حال الداعية مع قوله تعالى :”فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون”، هذا الفلاح الذي تحدث عنه هذه الآية ما نصيب الدعوة فيها؟ غالبا ما ينصرف الدعاة للحديث في الشق الأول في العبادات في الصلاة التي أراد الله تعالى لها أن تكون لها أوقات معدودة ومعلومة فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض، هذا الانتشار في الأرض كيف يمكن لخطاب الدعوة أن يتناوله وأن يحدد معالمه؟ آية أخرى تعضد هذا الكلام يقول الله عز وجل فيها :”هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور”، هذا المشي في مناكب الأرض ما هي معالمه؟ هل تحدثنا ورغبنا الناس في أن يمشوا في مناكب الأرض؟ بدل أن نخصص الحديث كله في الانعزال عن هذه الدنيا التي أمرنا أن نعيش فيها وأن نبتلى فيها؟ طبعا هذه بعض معالم التنمية التي نتحدث عنها وينبغي لزوما على خطاب الدعوة أن يتناوله بكل قدراته، والسؤال الذي يطرح بل الأسئلة التي تطرح : كيف نجعل من الدعوة أداة ووسيلة نعرف الناس من خلالها على دنياهم ويقبلون على دنياهم وعلى أخرتهم؟ والقول المأثور يقول (عش لدنياك كأنك تعيش أبدا وعش لآخرتك كأنك تموت غدا)، كيف نشجع الناس على الانتشار في الأرض والمشي في مناكبها؟ كيف نحث الناس أن يكونوا من أهل الدثور ؟ كيف نطلب من الناس أن تكون أياديهم هي العليا وليست السفلى؟ ذلك الرجل الذي سأله النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم وقد كان يعبد الله كثيرا ويصوم كثيرا قال أجبني عن سؤال واحد : قال له ما هو؟ قال : من ينفق عليك؟ قال : أخي، قال : أخوك أعبد منك، إذا كان أخوك ينفق عليك فأخوك أعبد منك، ونحن نعلم الحديث الذي يقول أول ما يوضع في الميزان درهم ينفقه الرجل على عياله، هذا الدرهم إذا حصلت عليه طبعا لن تحصل عليه إلا من خلال هذا الانتشار في الأرض، وغالبا ما لا نتحدث عن قصة سيدنا سليمان عليه السلام نمر على بعض الأنبياء الذين كانوا يعيشون ضيقا في الحياة، نتحدث عن أيوب لما كان مريضا وحديث النبي أني مسكين فاحشرني مع المساكين إلى أخره، وننسى ما قاله سليمان عليه السلام : “قال ربي اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب”، كيف يمكن لهذا الإنسان أن نحثه على أن يكون من المالكين لجزء من هذا الذي أعطاه الله لهذا الإنسان، وعندما نتكلم عن الدعوة نتحدث عنها في إطار كيف يمكن لهذا الإنسان أن ينمي أحواله المعاشية والمعادية أيضا، فهناك تكامل بين المعاش والمعاد، والله تعالى يقول :”وجعلنا الليل لباسا والنهار معاشا”، فالنهار للمعاش. كيف يمكن لخطاب الدعوة أن يشجع الناس على أن يجعلوا نهارهم للمعاش ولطلب الرزق والكسب أيضا؟ هناك أربعة أمور لخصت الحديث فيها : كيف يمكن لخطاب الدعوة أن يتناول موضوع التنمية وحث الإنسان على الإقبال على الدنيا التي تعتبر ممرا للمرور للآخرة بإذن الله تعالى؟
فأول شيء ينبغي أن يشتغل عليه خطاب الدعوة هو زرع اليقين في الله عز وجل عند الناس، فحينما نخرج إلى الشارع وإلى الحياة العامة ونخالط الناس ونعيش معهم ونطلب أرزاقنا ومعاشنا لا بد أن نكون متسلحين باليقين في الله سبحانه وتعالى، واليقين في الله معناه أن يعتقد الإنسان أن أجله ورزقه وعمره بيد الله سبحانه وتعالى، لذلك يتنافس في الحدود المتاحة والمسموح بها حتى إذا بدل جهدا ولم يحصل على ما كان يتمناه فليعتقد أن رزقه عند الله ” وفي السماء رزقكم وما توعدون”، يحكى في زمن قديم سمع النداء للجهاد في بلدة، ورجل كان له عيال وزوجة فتسلح وأخذ سيفه وخرج ثم رجع ثم خرج ثم رجع مرات فشكت الزوجة في حاله فقالت له يا رجل أخفت من الحرب ؟ أخفت أن تقتل في المعركة؟ فقال لها لا والله لم أخف ولكني خشيت على عيالي، فقالت هذه المرأة لزوجها: عجبا لك يا رجل لما تزوجتك لم أكن اعلم أنك جالب لرزق ولم أعلم أنك رزاق، فإذا ذهب جالب الرزق بقي الرزاق، هذا اليقين على الله في الأرزاق وفي الآجال وكل الأحوال التي نعيشها.
أما النقطة الثانية التي على خطاب الدعوة أن يتناولها وهو تثمين تقدير نعم الله عز وجل على الإنسان، فأنت في مناكب الأرض، وأنت منتشر في هذه الأرض لا بد أن تستحضر نعم الله سبحانه وتعالى علينا جميعا، والله تعالى يقول :”لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد”. كان هناك رجل عمره سبعون سنة أجرى عملية جراحية على إحدى عينيه في إحدى المصحات وانتهت العملية بالنجاح، ثم جاءه مدير المستشفى وقدم له الفاتورة ليدفع أتعاب الخدمات الصحية فبدأ هذا الرجل يبكي، فقال له يا رجل لقد قمت بالعملية للتو وها أنت تبكي، هل جاءتك الفاتورة باهظة فنتدخل أو نلتمس لك بعض الأعذار، فقال : لا ولكني تذكرت أمرا، منذ سبعين سنة وأنا انظر بهاتين العينين ولم أعلم قيمتهما ولم يطالبني أحد بأداء أي مبلغ وفي خمس دقائق أجريت لي عملية فأديت كذا وكذا، فنعم الله عز وجل ينبغي أن تكون محط الاهتمام، والله تعالى يقول :”وما بكم من نعمة فمن الله”، ونحن نقول إن هذا الانتشار يجعل أن تكون يد الله هي العليا، فالرجل الذي جاءته امرأة تسأله شيئا من العسل لابنها المريض فأمر هذا الرجل بأن يخرجوا لها قلة عسل، فقيل له المرأة تطلبك شيئا من العسل وأنت تأمر لها بقارورة كبيرة، فقال هي سألت على قدر حاجتها ونحن نعطيها على قدر إنعام الله تعالى علينا، هذا أيضا من المعاني التي على خطاب الدعوة أن يتناوله لحث الناس على الانتشار بهذا القصد وبهذا الهدف.
النقطة الثالثة مخالطة الناس بالسلوك الحسن، هذه المخالطة وهذا الانتشار في الأرض والسعي في الأرض والضرب في مناكب الأرض لا بد أن يستصحبه سلوك حسن وأخلاق حسنة، وقد تحدث القران الكريم في سورة كاملة باسم المطففين وفيها يبرز التوازن بين الدنيا والآخرة، والمطفف هو الذي يكتال على الناس في الميزان، كيف لهذا الذي يريد أن يخالط الناس ويعيش مع الناس ويحصل رزقه وكسبه ومعاشه كيف يكون متقنا لعمله دون أن يكون سلوكه من هذا السلوك الممقوت، وقد تحدث رسولنا صلى الله عليه وسلم عن سلوك الصائم فقال ( فإن سابه أحد أو شاتمه أو قاتله فليقل إني صائم)، وهو سلوك علينا أن نستصحبه في رمضان، وقد سب أحد ما عمر بن العزيز فقال له : (ولولا يوم القيامة لأجبتك) وسكت ومضى رحمه الله.
وأخيرا، لا بد لخطاب الدعوة أن يثمن العمل، مطلق العمل، كان رجل يصافح أصحابه ورجل من بين أصحابه خشي واستحيا ورجع للوراء فقال له يا رجل ما بك؟ مد يدك، وكانت يده يظهر عليها آثار الأعمال الشاقة التي كان يقوم بها، فرفعها وقال هذه يد يحبها الله ورسوله، لأن العمل محبوب عند الله ، العمل كيفما كان هذا العمل محمود عند الله، (وقل اعملوا) مطلق العمل، وهذا ينبغي أن يزكيه وأن نثمنه،
وفي الحديث عن تثمين العمل في خطابنا الدعوي لا بد أن نتحدث عن قيمة الإحسان والإتقان في العمل، (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه)، وفي رواية أن يتمه أولا، ثم أن يتقنه ثانيا، الإحسان مطلوب، وخطابنا ينبغي أن نركز على هذا الأمر حتى لا نجعل الناس يقدمون استقالاتهم من هذه الحياة ونغرب الناس عن زمانهم وعن واقعهم، وأنتم تعلمون إن العبادة إلى الله هي عبادة توقيفية، لماذا جعل الله العبادة توقيفية؟ حتى لا ينشغل الناس بالإضافات والإحداثات فهو أمر محسوم ليترك الباب واسعا ومشرعا أمام الناس من أجل أن يجتهدوا ويبدعوا في حياتهم المعاشية وهي تحتاج إلى إبداع وتحتاج إلى إتقان وتحتاج إلى إحسان، وهنا أعتقد أن للدعوة نصيب في هذا الأمر.
وأختم بحديث برواية إمام مسلم عن ذلك الرجل الذي صلى مع معاذ بن جبل رضي الله عنه فصلى بهم بالفاتحة والبقرة وأطال في صلاته فلم يستطع الرجل أن يواصل سماع الإمام فتخلف عن الصف وصلى بمفرده وأتم صلاة الفريضة وذهب إلى بيته، فتحدث الناس عن الرجل بأنه منافق وقالوا ومن يكره سورة البقرة ومن يكره سورة ال عمران، فلما سمع الرجل الكلام في حقه ذهب عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يارسول الله : إننا أصحاب نواضح نعمل بالنهار، ففهم النبي الرسالة ونادى على معاذ وقال له : أفتان أنت يا معاذ إذا أممت بالناس فخفف فإن فيهم الضعيف والسقيم وذو الحاجة وهذا الرجل من أصحاب الحاجات، فلا يعقل أن نقول للناس أن تعمل وتنتشر في الأرض ونأتي في الليل بهم ونطيل عليهم الصلاة إلى الصبح فلا يستقيم هذا وذاك، لأن الليل للباس والنهار للمعاش، واعتبر هذه الصلاة المطولة فتنة وإن كانت تحمل الخاتم الديني وطابع سورة البقرة وال عمران، لذلك لا بد من أن يرشد خطابنا الديني في هذا الاتجاه وأن نشجع الناس على الإقبال على الحياة لأن إقبالهم على الحياة هو إقبال على الآخرة، فحتى في حديثنا عن الموت نتحدث عنه بطعم الحياة بطعم البناء بطعم أن تستقيم أحوال الإنسان قبل أن يموت ويعلم كل واحد منا أنه سيلتحق بالرفيق الأعلى في أية لحظة وفي أي وقت، لذلك مطلوب منه أن يجتهد في حياته ويبذل أقصى ما يمكن حتى يكون من عباد الله الصالحين.
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم والسلام عليكم
د.صالح النشاط / سلسلة تبصرة