المولد النبوي في التاريخ وقد مر عليه أربعة عشر قرنا

كان مولد النبي الكريم عليه السلام عام الفيل الذي خذل الله عز وجل فيه أبرهة الأشرم عامل النجاشي على بلاد اليمن وصده عن مكة من خطر الحبشة ذلك ما جعل هذا العام فاتحة عصر جديد في حياة العرب من دون شك أن هذه الحادثة التاريخية كانت فاتح خير على العرب عامة وعلى قريش خاصة الشيء الذي أصبحوا معه يؤرخون بها حوادثهم بل مهد لهم السبيل لقبول الدعوة الإسلامية والقيام بنصرتها.

لذا أصبح مولد الرسول الكريم عند المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها بمثابة تعبير عام عما يفيض به شعورهم من تعظيم لشخصه الكريم وتقديس لكرامته وحرص على ممارسة طقوسهم الدينية.

يوم خالد فسح المجال لاجتماع الأهل والأصدقاء اجتماعا يطفح بالبشر والسرور مندفعين لإقامة المهرجانات وأسواق الأفراح وتهيء الولائم وتبادل الهدايا والحلويات في ظرف يرتل فيه المنشدون والصوفية والشعراء الأناشيد في مدح المولود الكريم الذي بزغ نوره الوهاج على هذا الوجود في 12 من ربيع الأول الموافق (20 من ابريل سنة 581 م) من أبوين كريمين نعم توفي انوه عبد الله قبل ميلاده.

ومن كثب (1) عهد بإرضاعه إلى امرأة بدوية هي حليمة جريا على عادة الأشراف من قريش حيث كانوا ينشئون أبنائهم في أجواء بدوية تكسبهم الفصاحة في اللسان وتدربهم في نفس الوقت على تحمل وملاقاة الشدائد لاسيما في العيش وبساطته.

وتوفيت أمه آمنة وهو في السادسة من عمره وكان أثناء وجوده عند حليمة يخرج مع إخوته من الرضاع لرعاية الغنم فاكتسب بطبيعة الحال رأفة ورحمة ولين جانب وسوى هذه الخصال الحميدة التي من شانها أن تولد في الإنسان ورقة وحنانا على الحيوان خاصة منه الإنسان.

وطبعا أكسبته هذه الأسفار تجارب ومشاهدات لأحوال تلك البلاد وطرق النقل وأخلاق الناس ومظاهر حياتهم في البيئة الرومانية كما وقف بنفسه الكريمة على أساليب الناس وتعاملهم في البيع والشراء فحاز ميزة خاصة في هذه الأثناء ذلك انه عرف بالصدق والأمانة اللذين أصبحا شعارا له منذ نعومة أظفاره، كما أنه عليه الصلاة والسلام عرف بالمروءة والوفاء وحسن الجوار والحلم والعفة والتواضع والجود والشجاعة.

وكان صلوات الله عليه يكره عبادة الأوثان لا يشرب الخمر ولا يأكل مما يذبح على النصب ولا يغشى مجالس اللهو والسمر. 

وكان يؤثر العزلة ويألف النسك والعبادة، وحين بلغ الأربعين يذهب إلى غار حراء يتعبد فيه الليالي ذوات العدد حتى آتاه جبريل حتى إذا ما بلغ الرسول الأربعين جاءه جبريل واستطاع صلوات الله عليه أن يقلب أوضاع الأمة العربية رأسا على عقب ويجمع قبائلها تحت لواء الإسلام مساعدا على نشر الفضيلة حتى ظهر منهم رجال اشتهروا بالورع والتقوى.

فهذه العظمة وهذه القداسة اللتان توفر عليهما محمد بن عبد الله صلوات الله عليه كان خليقا بالمسلمين جميعا أن يحتفلوا بذكرى مولد الرسول الكريم ويؤثر عن المسلمين انهم احتفلوا بهذه الذكرى المباركة في حياة الرسول العظيم.

نعم لم يتخذ المسلمون في أوائل الإسلام من هذا المولد عيدا تحتفل به الدولة احتفالا غير أن هذا ما كان ليقلل من عظمة هذا الحادث في نفوس المسلمين لأنهم كانوا يعدون الاحتفال بهذه الذكرى بدعة من البدع لأنه لم يرد في الكتاب او السنة.

على أن الصالحين والورعين من أبناء الإسلام بدا لهم عن حسن نية وتعلق بجناب المولود الكريم فيما بعد ضرورة الاحتفال بمولد الرسول تكريما لجنابه الشريف صلوات الله وسلامه عليه.

روي أن الكرخي الذي كان من الزهاد المتعبدين كان لا يفطر في عيد الأضحى وعيد الفطر وفي يوم مولد الرسول الكريم وكان يولي هذا اليوم ما هو جدير به من تعظيم وتقديس وقد احتفل المسلمون منذ ذلك الحين بلبلة مولد النبي الكريم.

فاحتفل به الخلفاء العباسيون مجتذبين الشعب على اختلاف طبقاته بالعطايا والأرزاق والهبات والأسمطة التي كانوا يهيئونها في الأعياد والمواسم، وخاصة في أول العام الهجري وفي مولد النبي صلى الله عليه وسلم ومولد الخليفة الجالس على العرش وفي غرة رمضان وفي عيدي الفطر والأضحى وغيرها من الأعياد التي أصبحت من أهم شعار الدولة الرسمية في العصر العباسي ويشارك في تلك الاحتفالات العدد من الوافدين على العاصمة من بغداد والموصل والجزيرة وسنجار وسواها ومن هؤلاء طائفة من العلماء والمتصوفين والوعاظ والقراء.

وكان الأمير ابو سعيد مظفر يقيم في الشارع الأعظم بمدينة اربل مناضد كبيرة من الخشب كراسي بعضها فوق بعض يجلس عليها المغنون والموسيقيون ويجلس الناس امام تلك المناضد في ليلة المولد النبوي يستمعون إلى الغناء والموسيقى والأناشيد وينعمون بما يقدم إليهم من الأواني الحافلة بألوان الطعام والحلويات بعد.

كما أن الدولة الفاطمية في إفريقيا تونس ومصر (كانت هي بدورها تقيم المواسيم والاحتفالات في اهتمام بالغ كعيد رأس السنة الهجرية وليلة المولد النبوي الشريف ومولد علي بن ابي طالب ومولد ابنيه الحسن والحسين (كما هي عادة الشيعة) ومولد السيدة فاطمة الزهراء.

كما أن الدولة الأيوبية والمماليك ومن جاء بعدهم من السلاطين والأمراء كانوا يحتفلون بمولد الرسول الكريم على النحو الذي كان يحتفل به الفاطميون.

إقرأ أيضا: الجمعة أول أيام شهر ربيع الأول وعيد المولد النبوي يوم الثلاثاء 19 أكتوبر

وشاع الاحتفال بالمولد النبوي في سائر الأقطار الإسلامية والأندلس احتفل المسلمون بالمولد النبوي احتفالا يتجلى بأجلى مظاهر الأبهة والعظمة وقد وصف ابو العباس المقري مؤرخ الأندلس الإسلامية الاحتفال بالمولد في عهد السلطان ابي حمو صاحب تلمسان الذي عاش في القرن الثامن الهجري (الرابع عشر الميلادي).

وهذا أبو الحسن المريني رجل الدولة المرينية المعروف عند العوام (بالسلطان الأكحل) كان هو كذلك من ملوك المغرب الذين عنوا بالمولد النبوي والاحتفال بذاكره الغالية وكان له “دينار يساوي مائة مثقال ذهبا على صورة رغيف كان يتفضل به على الشرفاء الصقليين والمستوطنين بسبتة ليلة المولد النبوي كما جاد بمثل ذلك على شجاع من أهل رندة سماه ابن مرزوق في كتابه المسند الصحيح الحسن وذكر المقري في أزهار الرياض أن إبان عنان المريني سبك له دينار يساوي مائة مثقال وأعطاه للشريف السبتي الذي كان يصله والده بمثل ذلك.

وفي الدولة السعدية كان المنصور يعتني بسائر الأعياد فعندما تبدو طلائع ربيع الأول(2) تصرف  الرقاع إلى الفقراء أرباب الذكر على رسم الصوفية والمؤذنين التعارين في الأسحار الهلالين فيردون على العاصمة من كل جهة ويحشرون من سائر حواضر المغرب ثم يأمر الشماعين بتطريز الشموع وإتقان صنعتها فيتبارى في ذلك مهرة الشماعين من كل من يباري النحل في نسيج أشكالها دقة ولطفا وإدماجا فيصوغون أنواعا من الشمع تحير النواظر ولا تذبل زهورها النواضر فإذا كانت ليلة المولد تهيأ لحملها وزفاف كواعبها الصحافون المحترفون بحمل خدور العرائش عند الزفاف فيتزينون لذلك ويكونون في أجمل شارة وأحسن منظر ويجتمع الناس من أطراف المدينة كلها لرؤيتها فيمكثون إلى حين يسكن حر الظهيرة وتجنح الشمس للغروب فيخرجون بها على رؤوسهم كالعذارى يرفان في حلل الحسن وهي عدد كثير كالنخل فيتسابق الناس لرؤيتها وتمتد لها الأعناق وتبرز ذوات الخذور ويتبعها الطبول والأبواق وأصحاب المعازف والملاهي حتى تستوى على منصات معدة لها بالإيوان الشريف فتصطف هناك فإذا طلع الفجر خرج السلطان فصلى بالناس وقعد على أريكته وعليه حلة البياض شعار الدولة وأمامه تلك الشموع المختلفة الألوان من بيض كالدمى وحمر جلبت في ملابس أرجوان وخضر سندسية واستحضر من أنواع الحسك والمباخر ما يلهي المحزون ويدهش الناظر ثم دخل الناس أفواجا على اختلاف طبقاتهم فإذا استقر بهم المجلس تقدم الواعظ فسرد جملة من فضائل النبي صلى الله عليه وسلم ومعجزاته وذكر مولده ورضاعه وما وقع في ذلك باختصار فإذا فرغ اندفع القوم في الأشعار المولديات فإذا انهوا ذلك تقدم أهل الذكر المزمزمون بكلام التستري(3)  وأشعار الصوفية ويتخلل ذلك نوبة المنشدين للبيتين فإذا انتهوا من ذلك كله قام شعراء الدولة فيتقدم قاضي الجماعة بلبل منابر الجمع والأعياد فينشد قصيدة يفتحها بالتغزل والنسيب فإذا أتم تخلص لمدح النبي صلى الله عليه وسلم ثم يختم بمدح الخليفة والدعاء له ولولي عهده ثم يتقدم باقي الشعراء الواحد تلو الآخر فإذا طوى بساط القصائد نشر خوان الأطعمة والموائد فيبدأ بالأعيان على مراتبهم ثم يؤذن للمساكين فيدخلون جملة فإذا انقضت ايام المولد برزت صلات الشعراء على أقدارهم وترتيبهم في الأسبقية والتبريز.

وعلى هذا النموذج الكريم كان يجري احتفال دولتنا العلوية الشريفة بالمولد النبوي منذ نشوئها إلى اليوم من خلال حياة إسلامية مثالية صحيحة تبعث منهم رجالا أعزاء يستطيعون بما أوتوا من مقدرة وإيمان حمل راية العزة والكرامة ويذودون في نفس الحال عن حياض التعاليم الإسلامية رافعين مشاعلها المشرفة للإنارة والهداية مقاومين (ما استطاعوا) كل إلحاد وتدجيل يدرجان في الأوساط المسلمة بين الفينة والأخرى وقد دهي بهما ضعفاء الإرادة وبسطاء العقول فأي فائدة يا ترى من سرد سيرة الرسول الأعظم ونشرها بين يدي المومنين على اختلاف درجاتهم إيمانا وإسلاما دون أن تكون لها جدوى ونتائج ملموسة على نفوس المستمعين وأرواحهم فتهذبها وترققها وتلينها وتجعلها في النهاية متأثرة بكل مجريات الرسول صلوات الله عليه متنافسة في الاهتداء بهديه والاقتداء بأقواله وأفعاله وتقريراته (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) ثم السعي في جد لنشر تلك المكارم الغالية بين الأسر والأصدقاء والمجتمعات الخاصة والعامة حتى تعم الهداية المنشودة المنزل والسوق والدكان والشارع ونصيح بذلك ولا ريب خلقين حقيقين بالخيرية والأفضلية المنصوص عليها في كتاب الله العزيز أثناء سورة “ال عمران” قال جلت قدرته “كنتم خير امة أخرجت للناس تامرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتومنون بالله”.

المصدر : مجلة دعوة الحق (بتصرف)

هوامش:

  (1)- اصوب من عن كثب

  (2)- ترسل اليهم الرسائل ليحضروا.

  (3)- هو سهل بن عبد الله بن يونس التستري لقي الشيخ ذا النون المصري – لم يكن له في وقته نظير  في المعاملات والورع انظر وفيات الاعيان توفي سنة 283هـ 896م .

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى