فقلت استغفروا ربكم…

للاستغفار مكانة عظيمة ومنزلة عليّة في دين الله فهو أساس لاستجلاب الخيرات وحلول البركات ونزول النّعم وزوال العقوبات والنقم، والاستغفار يرفع العبد من المقام الأدنى إلى المقام الأعلى ومن المقام الناقص إلى المقام الأتم والأكمل، به تقال العثرات وتغفر الزلات وتكفر الخطيئات وترتفع الدرجات وتعلو المنازل عند الله تبارك وتعالى.

جاء في الحديث الصّحيح عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: ” طوبى لمن وجد في صحيفته استغفارا كثيرا ” ، وصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: ” من أحب أن تسره صحيفتُه يوم القيامة فليكثر فيها من الاستغفار ” وقد كان عليه الصلاة والسلام أكثر الناس استغفارا مع أنه صلى الله عليه وسلم قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.

شاهد: إذا تكفّلنا بإصلاح أنفسنا تكفّل الله بإنزال الغيث علينا

 يقول تعالى في محكم التنزيل: (فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا، يرسل السماء عليكم مدرارا، ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا)، هذه الآية العظيمة مثل غيرها من الآيات الكثيرة التي تؤكد هذا المعنى، وهو أثر الاستغفار في محو الذنوب والمعاصي، واستجلاب الرزق والخير بأنواعه، وهي كغيرها أيضا تشير بطريق مباشر أو غير مباشر إلى أن ما يصيب المسلم إنما هو بسبب ذنوبه وما كسبت يداه، وهذه حقيقة أكدها عدد من الآيات المحكمة والأحاديث النبوية الصحيحة، يقول تعالى في سورة الشورى: (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير)، وفي سورة الروم: (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون).

وهذا من نعم الله العظيمة على هذه الأمة أن جعل الاستغفار وهو من أيسر الأعمال سبباً للغيث والرزق وتفريج الهموم والكربات ومحو الذنوب.

فقد تحل بالأمة الكوارث والمصائب ويتسلط عليها الأعداء وتُعاقب بسبب ذنوب أصحاب المنكرات، والإنسان مخلوق ضعيف، تعتريه أنوع من الابتلاءات والمتاعب سواء كانت ضوائق مالية أو مشكلات عائلية أو ظروفا نفسية أو مضايقات في عمل ونحوها مما يعتري الإنسان في رحلة الحياة.

وتعالَج هذه المصائب أو تخفف بما شرعه الله لعباده من وسائل مادية أو التجاء لله بالدعاء أو استعانة بالصبر والصلاة، بيد أن هنالك علاجاً نافعاً لكل ما يحل بالأمة المسلمة وكذا ما يصيب الفرد المسلم، علاج غفل عنه الكثيرون لأنهم اعتقدوا أنه لا يكون إلا لمحو الذنوب والخطايا فحسب إنه الاستغفار – يا عباد الله – والاستغفار معناه طلب المغفرة من الله، والمغفرة هي العفو عن الذنوب ووقاية شرها مع سترها.

فنجد قوله تعالى في سورة الجن: (وألّو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا)، ومعنى الآية: أنهم حرموا من الماء الغدق بسبب عصيانهم وعدم استقامتهم على الطريق المستقيم، وهو المعنى الذي ورد في آية سورة نوح الأولى، فشرط الرزق والمطر والأموال والبنين هو الاستغفار والإقلاع عن الذنوب، ولو نظرت إلى الآية من زاوية نحوية لوجدت النحاة يعللون جزم الأمر للفعل المضارع إذا وقع جواباً له بأنه تضمن معنى الشرط، أي أن قوله تعالى: استغفروا ربكم… يرسلْ… ويمددْ… ويجعلْ…، هو بمنزلة: فإنكم إن تفعلوا ما أمرتم به يرسلْ، فكأنه شرط وجوابه.

لقد أمر الله عباده بالتوبة والاستغفار فهو سبحانه وتعالى الغفار، وهو الغفور وهو الرحيم: ﴿غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ ۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ ﴾ فإذا كان من غفر له ذنبه ما تقدم منه وما تأخر صلى الله عليه وسلم يقول: {إني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة} فكيف بمن هو دونه من الناس؟

إن الذنوبَ والمعاصي إذا انتشرت في أمة سببت الشقاء والهلاك والقحطَ والجدْب، ولهذا أمر الله الناسَ عبر الأجيال بواسطةِ أنبيائه أمرهم أن يُقلِعوا عن المعاصي، ويطلبوا الغفرانَ من الله على ما اقترفوه، حتى ينالوا رحمتَه ويجتنبوا غضبه.

فها هو نبي الله هود عليه السلام يعِظ قومه بقوله ﴿ وَيا قَوْمِ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ ٱلسَّمَاء عَلَيْكُمْ مدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَىٰ قُوَّتِكُمْ ﴾.

ويذكر القرآن كيفَ وعَظ صالح عليه السلام قومه بقوله ﴿ لَوْلاَ تَسْتَغْفِرُونَ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾.

وهذا خاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم يوصي أمته بالاستغفار بقوله {يا أيها الناس توبوا إلى الله واستغفروه فإني أتوب في اليوم في اليوم مائة مرة} رواه مسلم في صحيحه، وما ذاك إلا لأهمية الاستغفار.

وإذا كانت الدول والشعوب تتضرر بسبب الجفاف والجدب ولا يستطيع أحد أن يستمطر السماء مهما أوتي من قوة فإن الاستغفار وسيلة لهطول الأمطار وازدهار الزراعة وحصول النماء وكثرة الرزق والعزّة والمنعة، اقرؤوا إن شئتم ما قاله نوح لقومَه ناصحا لهم: ﴿ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا ﴾.

أمّا كونُ الاستغفار سببًا لرفع البلايا فقد قال الله جلا الله في شأن نبيّه يونس عليه السلام: ﴿ فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾.

هذا شعيبٌ عليه السلام يرى قومَه على أسوأ الأخلاق مع الشرك والإلحاد، فيلح في نصحهم للإقلاع عما هم فيه من ضلال، خوفا عليهم من عذاب المك الجبار ويبشرهم بأن ربهم رحيمٌ بعباده، ودود بهم، ﴿ وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ ﴾.

وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه ِ: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {ما من رجلِ يذنب ذنبا ثم يقوم فيتطهر فيحسن الوضوء ثم يقوم فيصلي ركعتين ثم يستغفر الله عز وجل إلا غفر له}، ثم تلا عليه الصلاة والسلام قول الحق جل وعلا ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ تلك هي الحياة الإسلامية التي ترتبط بالله، وتدرك أن الأمور كلها مغاليقها ومفاتيحها وأسبابها ومنعها بيد الله سبحانه وحده لا شريك له.

فما أحوجنا إلى التضرع إلى الله والقرب منه وترطيب ألسنتنا دائماً بالاستغفار وهو ممحاة الذنوب، وأن نبتعد عن المكابرة وتزكية النفس واحتقار الذنوب واستصغارها، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قد صح عنه قوله: (يا عائشة إياك ومحقرات الذنوب…).

الإصلاح

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى