الملمح الرباني لأهل الإصلاح

الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات الذي هدنا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله

لقد جاءت رسل ربنا بالحق والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على البدر التمام والنبي الهمام سيدنا ومولانا محمد عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام وعلى اله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته وجاهد جهاده إلى يوم الدين نسال الله أن يجعلنا منهم امين.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

فهذه تبصرة، والتبصرة من بصر يبصر تبصيرا، وهي الفعل الواحد من مصدر التبصير الذي يقوم في بابه بكفاء فعل التبصير، فالتبصرة مصدر من بصر ولكنها وحدة نسقية متكاملة يقوم بها فعل التبصير فتكون كافية في بابها، وبالتالي فشرط الإبصار في المبصر المتمحض للتبصرة أساسي أكثر من مطلق فعل التبصير وإن كان كلاهما مصدر لفعل بصر، والحال أن صاحبكم ليس من المبصرين كفاية ولا نقولها تواضعا ولكن هذه هي  الحقيقة خصوصا في مقام كمقامكم وكأني بالإخوان لم يقرأوا من قوله صلى الله عليه وسلم الا قوله (المسلمون تتكافئ فيهم دمائهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم) فنحن في قوله أدناهم بأذيالها متمسكون وفيها داخلون إن شاء الله.

فأحببت أن يكون موضوع هذه التبصرة هو الملمح الرباني لأهل الإصلاح أو للمصلحين فمن جهة نجد عنده ربانية المنطلق والوسيلة والغاية وكذلك ربانية السلوك فيما سميته التسليم الفاعل والرضا المتفاعل، فأما ربانية المنطلق فتتميز أساسا في حسن الفهم عن الله وحسن الفهم عن الله بمعنى ذلك التمحض للعبودية التي شرف بها العبد، وتعلمون بأن العبودية لله إذا تمحضت فإنها تثمر مطلق الحرية، والعبد الذي يخبت لربه وتخبت الأرض إذا استوت وانخفضت كان كتلك الأرض التي تقبل الودق والغيث، فتكون أنبت للثمر وتكون أطيب في هذا الثمر، ولذلك فحسن الفهم عن الله من الملامح الربانية ويتجلى ذلك فيما أسميته حسن الإنصات إلى معزوفة الكون ومعزوفة الوحي، والوحي عندنا في فهمنا أمران وحي مسطور هو التعاليم والوصايا المجموعة بين دفتي القران الكريم أو في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك في الوحي والسنن والأفاق التي أمرنا بالسير فيها واستشفاف سنن الله منها، وأما ربانية الوسيلة بعد ربانية المنطلق فتتمثل في حسن الامتثال لله، وحسن الامتثال لله يكون بتغييب الذات صدقا والانتصار على اللذات صبرا، وقد علمنا وتعلمون من كلام المأثور لأستاذنا عبد الله بها رحمه الله بأن الصدق هو أساس أخلاق الخير وأخلاق الأمانة، والصبر هو أساس أخلاق القوة، فحسن الامتثال الله في الوسيلة هو الذي يجنب المصلحين كثيرا من المزالق التي نراها من حولنا في كل مكان، فيأتي الرجل ليرد على مجتهد أو عامل في سبيل الله أو فقيه أو كاتب فيسيء، ونرى تلك العناوين المفعمة بالعنف في جوانب فقهية تعبدية الأصل فيها الرحمة وما ذاك إلا لحضور الذوات في هذه القضايا التي من المفترض أن تكون لله، فمتى ما غيبت ذاتك كنت أصدق مع ربك وكانت وسيلتك ألصق بالغاية التي من أجلها تتحرك، وبالتالي فحسن الامتثال لله هو الوجه الآخر لحسن الإنصات إلى كلام الله وحسن الفهم عن الله، وقد كان الصالحون يقولون دع نفسك وتعال والحق ليس بمحجوب وإنما المحجوب أنت عن النظر إلى الحق، وبالتالي فأول شرط في حسن الامتثال لله هو تغييب الذات، ألا يكون ثمة هوى في قولك تنتصر به لذاتك، ونحن في جلساتنا وفي جموعنا وفي هذه الفضاءات الاجتماعية التي فتحت الآن وفي كثير من منتدياتنا ومنشاطنا نحتاج لهذا الحق، خلق تغييب الذات حتى نتمحض للحق ولا تبق فينا ذرة هوى ولذلك كان من مأثور الدعاء قول الصالحين : اللهم أفننا بك عنا حتى لا يبقى فينا إلا مرادك منا.

الجانب الثاني في حسن الامتثال لله يكون في الانتصار على اللذات وهذا هو خلق الصبر وهو الجزء الآخر من هذا الملمح الرباني، واللذات هنا ليست بالضرورة تلك اللذات والشهوات المعروفة، فكما يقال حسنات الأبرار سيئات المقربين، فهو على قدر يأتي العتاب كما قال الشاعر، فلما إن كنت تمحضت للدعوة والعمل في سبيل الله فاحذر بعد أن جعلك الله منارا أن تكون على الدعوة والدين عارا، ولكي لا تكون على الدين عارا فينبغي أن تحدد شهوات مستواك، إذا كان الأسافل لهم شهوات ولذات يدعون للانتصار عليها ليرتقوا بإنسانيتهم من الضعة إلى الرفعة، فكذلك الصالحون وكذلك المصلحون وكذلك العلماء والعاملون وكذلك الملتزمون وكذلك الدعاة والعاملون في سبيل الله فإن لهم لذات وشهوات وجب عليهم وحسن بهم أن يعرفوها ويحددوها وينتصروا عليها لأنه لا امتثال لأمر الله في مقامهم وفي مستواهم إلا بمعرفتها والتفطن لها والصبر عليها ثم الانتصار بعد ذلك.

وأما الجزء الثالث من العنصر الأول الذي قلنا هو ربانية المنطلق والوسيلة والغاية، فربانية الغاية هي التي سطرها ميثاقنا في هذه الحركة المباركة والذي يقول : ابتغاء وجه الله والدار الآخرة، وهي في رأيي المتواضع تتحدد في عنصرين أساسيين تكون في السمو على عرض الآفات وفي الرنو إلى ما هو آت، فأما السمو على عوارض الآفات فهو متكامل مع ما سبق ذكره من حسن فهم عن الله وحسن امتثال لله، السمو على عوارض الآفات يكون بالحذار من المعارك الصغيرة والقضايا الجانبية والمسائل الجزئية تستنزف وسعك وطاقتك وتسيء علاقاتك بالمومنين وقد تغضي عنها وتمر ويبقى الخير والصلاح، ومنه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم :”مثل المومن كمثل خامة الزرع من حيث ما أتتها الريح كفتها”، فالريح تمر وتبقى الأرض ويبقى النبات وتبقى السماء تظل هذه النباتات ويأتي الخير بعد ذلك، فالسمو على عوارض الآفات هو من ربانية الغاية لأن من كان يريد القوي لم يلتفت إلى من دونه، ومن كان يريد الغني لم يتشوف إلى من هو دونه، ومن كان يريد العليم لم يطمع في علم من هو دونه، فابتغاء وجه الله من ثمراته السمو على عوارض الآفات ومن أراد الدار الآخرة فإن الزهد هو أول علاماته، فأنت تزهد في القليل لأنك تطمع في الكثير، وتزهد في الزائل لأنك تطمع في الباقي، وتزهد في العارض الحادث لأنك تطمع في الموجود الواجب الوجود السرمدي الخلود وهو ما وعد الله به المؤمنين وأعلى ذلك وجه الله سبحانه وتعالى، فالرنو إلى ما هو آت يجعلك متساميا عن عوارض الآفات مما ذكرناه من العوارض التي تسيء إلى السير.

أما الملمح الثاني هو ربانية السلوك، ويتمثل عندما نتوسم سير الصالحين المصلحين وعلى الخصوص حينما نتوسم سيرة فقيدنا الأستاذ عبد الله بها، ونحن هنا لا نخرج عن ما درج عليه السلف حين قالوا (إذا كنت مقتديا فاقتد بمن مات فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة)، ونحن من الشواهد التي نرى ومن الشهادات التي تترى نعتقد إن شاء الله ونظن بالله خيرا ونعتقد بأن أخانا هو في محل طيب وبالتالي فإن سيرته التي وصلت إلينا لهي من السير التي يستحسن بنا أن نأخذ منها العبر، فأما ربانية السلوك فإنها في أمرين اثنين : التسليم الفاعل والرضا المتفاعل. فما التسليم الفاعل وما الرضا المتفاعل؟

يمكن أن نعرف التسليم اجتهادا أو اختصارا هو مجاوزة  الاختيار لدوام مشاهدة الاضطرار، المسلم هو الذي يترك اختياره إلى اختيار من عنده بمقام، أنت إذا كنت مع شيخ لك أو أستاذ أو ضيف كريم له اعتبار فإنك تتخلى عن مجموعة من الاختيارات هي لك إلى اختيارات هي له، فإذا كنت مع ربك، مع سيدك وكان عندك في المقام الذي ينبغي أن يكون عنده الإله الذي يتوله به العبد فمن علامات إسلامك أن تسلم له بمجاوزة اختيارك لدوام مشاهدة اضطرارك فأنت مضطر إليه، أنت الضعيف وهو القوي، وأنت العاجز وهو القادر، إلى غير ذلك، غير أن التسليم، وهو كما قلت من الأخلاق العظيمة، تطرأ عليه آفات وهذه الآفات هي التي أسميناها في كثير من أدبياتنا نحن بالخصوص النقدية أخلاق عصور الانحطاط، فتدخل عليه آفة يمكن أن نسميها آفة الركون والتواكل والجبرية والتخاذل، فإننا قد نسيء فهم التسليم أو نفهم التسليم على أنه الركون : دع الخلق للخالق واترك المال للمالك إلى غير ذلك، وليس هذا هو التسليم، يقول الأستاذ علي بيجوفيتش في كتابه القيم جدا (الإسلام بين الشرق والغرب) في الفصل الأخير وفي آخر فقرة منه، كلاما نفسيا في هذا الباب : (إن الإسلام لم يأخذ اسمه من قوانينه ولا نظامه ولا محرماته ولا من جهود النفس والبدن التي يطالب الإنسان بها وإنما من شيء يشمل كل هذا ويسمو عليه من لحظة فارقة تنقدح فيها شرارة وعي باطني من قوة النفس في مواجهة محن الزمان في التهيء لكل ما يأتي به الوجود في حقيقة التسليم لله إنه استسلام لله  فهو الإسلام)، فمفهوم التسليم هذا العظيم هو مفهوم ايجابي متفاعل ولذلك زدت عليه ضميمة لكي نحذر من هذه الآفة آفة الركون والتخاذل والإذعان والجبرية والتواكل التي رأينا بالتجربة أنها تطرأ على المسلمين فإننا احتجنا معه ضميمة مستأنسين من سير الصالحين والمصلحين ضميمة أن يكون هذا التسليم فاعلا، ومعنى أن يكون فاعلا أن تكون بعد التسليم القوة في الأداء والاجتهاد في المضاء وعدم الالتفات إلى البلوى والللأواء، بمعنى أن يكون المسَلًم فاعلا قويا مبادرا منجزا ويبقى الكمال على المولى، فهما لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم :”إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة واستطاع أن يغرسها فليغرسها” والفسيلة من النخل، والنخل من المعلوم أنه لا يؤتي أكله إلا بعد عشر سنوات على الأقل، وبالتالي فالمعنى أن تسلم لربك في أمره وأن تقوم بالعمل وتترك النتيجة على الله بمعنى أن تكون مع تسليمك فاعلا ومبادرا.

وأما الملمح الثاني من ربانية السلوك فهو ما أسميته الرضا المتفاعل، والرضا أيضا من علامات الربانيين لأن الرضا فرح بالله ومداومة مشاهدة نعم الله، أو قل أن الرضا هو إدمان الشكر المنعم لدوام مشاهدة الأنعم، أو قل هو حسن الاستسلام بعد صحة التسليم، والرضا أيضا كما قال الشاعر الحميني : (فإن العبد يزهو بربه في البرية)، أي أن العبد الذي أحس بشرف انتمائه إلى سيده ومعبوده فإنه يرضى بما قدر عليه وبالتالي فإنه يرى في النعماء خيرا ويرى في الضراء خيرا فهو راض في كل حال، ولكنه رضا يحتاج إلى ضميمة  لأن هذا الرضا أيضا مما تدخل عليه الآفات التي نعرف بعضها وقد نغفل عن كثير منها، فان هذه الآفة يمكن أن نسميها آفة التبلد والخنوع واستمراء الهجوع وعدم التمعر للمنكر مهما علا وتجبر، فإن نعمة الرضا تجعلنا أحيانا نعمى عن مجموعة من النواقص والآفات وهذه نجدها أيضا في صفنا نحن الذين اخترنا خيارا في الإصلاح، فمعنى أننا نشكر ونرضى ونرى نعم الله عز وجل علينا من استقرار وامن وتقدم واتساع لدعوة الله سبحانه وتعالى ومظاهر الالتزام إلى غير ذلك من أجواء الحرية والأمن فهذا لا ينبغي أن يجعلنا هذا الرضا متبلدي الحس خنوعين هجوعين نستمرأ الهجوع والخنوع بدعوى أننا في مجال فيه كثير من الأمور التي نرضى عنها فإن الرضا لا ينبغي أن يبلد الحس وأن يسعى إلى الخنوع فإنه يحتاج إلى ضميمة وهي أن يكون رضا متفاعلا وهذا موجود أيضا في سيرة استأذنا الأستاذ عبد الله بها، وضميمته في أمرين : طلب المزيد والتوسل بالنقد في التطوير من غير صلف ولا تعكير، فطلب المزيد ينبغي أن يكون في خطو وئيد حتى نكون متوازنين مع تسليمنا ورضانا ومع ما سبق من ربانية المنطلق والغاية والوسيلة، طلب المزيد حتى لا نقع في ذلك الرضا المتبلد الخنوع ولكنه في خطو وئيد حتى لا يكون مصادرة على المطلوب وطلبا لأي مرغوب، والتوسل في النقد بالتطوير أي أن يكون النقد قاصدا ولا يكون النقد لذاته ويكون متأدبا ويكون خلوقا فلا يكون في صلف ولا تعكير.

فهذه الخلاصة في ملمح الربانية كما بدا لي من سير الصالحين المصلحين استئناسا بسيرة الأستاذ عبد الله بها رحمه الله، فالملمح الأول قلنا هو ربانية المنطلق والوسيلة والغاية وهذا معاقده معاقد حزم، والملمح الثاني هو ربانية السلوك في تسليم فاعل ورضا متفاعل وهذا الملمح الثاني معاقده معاقد حلم، وبالحزم والحلم يطير المصلحون إلى رضا الله سبحانه وتعالى وإلى إنجاز المقصود والوصول إلى المرغوب. نسال الله تعالى أن يجعلنا منهم وأن يبصرنا بمقاصد أمورنا ومراشدها.

وأقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.

فيصل أمين البقالي / سلسلة تبصرة

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى