فضل العشر الأوائل من شهر ذي الحجة
تقديم:
يعتبر ذو الحجة الشهر الثاني عشر من السنة القمرية أو التقويم الهجري، من أهم الشهور وأفضلها، وفي اليوم التاسع يكون يوم عرفة ووقفة عرفات أو ما يسمى بيوم الحج الأكبر ويكون اليوم العاشر من ذو الحجة أول أيام عيد الأضحى المبارك عند المسلمين. فمن أين اكتسى هذا الشهر أهميته وقدسيته وحرمته؟ وما الأعمال التي يجب أن يقوم بها المسلم، لاستثمارها لآخرته؟
والأشهر الأربعة تأتي ثلاثة منها متتابعة هي ذو القعدة وذو الحِجَّة والمحرم، وواحد فَرْد هو رجب. وقد ذكر الله سبحانه وتعالى هذه الأشهر بقوله: ﴿إن عِدَّة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حُرُم﴾ التوبة: 36.
لقد كانت كل القبائل تحترم حرمة هذه الأشهر، فلا تغير فيها على بعضها، إلا أنه كان هناك حيان لا يتقيّدان بهذه الحرمة هما خَثْعَم وطَيئ. وكان ذو الحِجَّة ـ شأنه في ذلك شأن سائر الأشهر الحرم الأخرى ـ مناسبة تقام فيها الأسواق للتجارة، والشِّعْر، وتبادل المنافع في أسواق ارْتَضَوْها هي عُكاظ والمِربَد والمجنَّة. أما ذو الحجة، فقد كان يعقد فيه سوق ذي المجاز من أوَّله، وذلك بعد انصرافهم من عُكاظ في آخر أيام ذي القعدة. وفي هذه الأسواق، كان الرجل يلقى قاتل أبيه أو أخيه فلا يهيجه تعظيمًا لحرمة الشهر الحرام. إلا أن العرب كانوا يكرهون أن تتوالى عليهم ثلاثة أشهر حرم، لا يغيرون فيها، لأن معاشهم كان من الغارة؛ لذا كانوا إذا صدروا من مِنىً يقوم رجل من كنانة يسمّونة القَلمَّس (البحر الزاخر في العلم) فيقول: أنا الذي لا أُعاب ولا أُجاب، ولا يُرَدّ لي قضاء. فيقولون: صدقتَ! أنْسِئْنا شهرًا؛ أي أخِّر عنا حرمة الشهر الحرام؛ فيُحلُّ لهم أحد الأشهر الحرم ويؤخره إلى شهر آخر. لذا كانت نوبة النّسيء ـ عندما هاجر الرسول عليه الصلاة والسلام ـ قد بلغت شعبان فسُمِّي محرمًا وشهر رمضان صفرًا، فانتظر النبي صلى الله عليه وسلم حتى حج حجة الوداع في السنة العاشرة من الهجرة، لذلك سمِّيت حجة الوداع الحج الأقوم، ثم حرم النسيء (التأخير والتأجيل) تحريمًا أبديًا.
فضل العشر الأوائل من ذي الحجة:
قال الله تعالى في سورة الفجر (وَالفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْر).. الليالي العشر اختُلف في تعيينها، فقيل هي العشر الأواخر من رمضان، كما في رواية ابن عباس، وقيل العشر الأول من المحرم كما في رواية أخرى عنه، وقيل هي العشر الأول من شهر ذي الحجة، وهو القول الراجح، وقد ذكر القرطبي حديثًا عن جابر أن النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال ذلك.
وقد ورد في فضلها حديث رواه البخاري يقول صلى الله عليه وسلم: “ما من أيام العمل الصالح فيها أحبُّ إلى الله من هذه الأيام”، يعني العشر الأوائل من ذي الحجة قالوا: يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال:” ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بماله ونفسه ثم لم يرجع من ذلك بشيء”، وحديث رواه الترمذي، وقال عنه: غريب، وفيه كلام:” صيام يوم يعدل صيام سنة، والعمل يضاعف بسبعمائة ضعف” وحديث قال فيه أنس: كان يقال في أيام العشر بكل يوم ألف يوم، ويوم عَرفة بعشرة آلاف يوم. وكلام قاله الأوزاعي ـ كما رواه البيهقي ـ: بلغني أن العمل في اليوم كقدر غزوة في سبيل الله، يُصام نهارها ويُحرس ليلها، إلا أن يختصَّ امرؤ بشهادة.
ولبيان فضل عشر ذي الحجة نعرض التالي:
1- أن الله تعالى أقسم بها:
وإذا أقسم الله بشيء دل هذا على عظم مكانته وفضله، إذ العظيم لا يقسم إلا بالعظيم، قال تعالى (وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ ) . والليالي العشر هي عشر ذي الحجة، وهذا ما عليه جمهور المفسرين والخلف، وقال ابن كثير في تفسيره: وهو الصحيح.
2- أنها الأيام المعلومات التي شرع فيها ذكره:
قال تعالى: (ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام) [الحج:28] وجمهور العلماء على أن الأيام المعلومات هي عشر ذي الحجة، منهم ابن عمر وابن عباس.
3- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شهد لها بأنها افضل أيام الدنيا:
فعن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :(فضل أيام الدنيا أيام العشر ـ يعني عشر ذي الحجة ـ قيل: ولا مثلهن في سبيل الله؟ قال : ولا مثلهن في سبيل الله إلا رجل عفر وجهه بالتراب( [ رواه البزار وابن حبان وصححه الألباني]
4- أن فيها يوم عرفة :
ويوم عرفة يوم الحج الأكبر، ويوم مغفرة الذنوب، ويوم العتق من النيران، ولو لم يكن في عشر ذي الحجة إلا يوم عرفة لكفاها ذلك فضلاً، وقد تكلمنا عن فضل يوم عرفة وهدي النبي صلى الله عليه وسلم فيه في رسالة (الحج عرفة(0
5- أن فيها يوم النحر :
وهو أفضل أيام السنة عند بعض العلماء، قال صلى الله عليه وسلم (أعظم الأيام عند الله يوم النحر، ثم يوم القر)[رواه أبو داود والنسائي وصححه الألباني].
6- اجتماع أمهات العبادة فيها :
قال الحافظ ابن حجر في الفتح: (والذي يظهر أن السبب في امتياز عشر ذي الحجة لمكان اجتماع أمهات العبادة فيه، وهي الصلاة والصيام والصدقة والحج، ولا يتأتى ذلك في غيره).
وإذا كان العمل فيها بهذه المنزلة العالية، فما هو نوع العمل؟ وكيف نستقبل هذه الأيام المباركة؟
عشر ذي الحجة فضائلها والأعمال المستحبة فيها:
ليس هناك نص يخصص عملاً معيّنًا لنيل هذه المنزلة، فكل الطاعات تدخل في هذا المعنى، والصيام ـ وإن كان حديث السيدة عائشة في صحيح مسلم يقول إنها لم ترَ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ صام هذه العشر ـ فعدم رؤيتها لا ينافى صيامه، والإجماع على سنية الصيام فيها، وورد في فضل الذكر بصيغة “سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر” حديث رواه الطبراني بإسناد جيد، بل جاء فيمن يريد أن يضحِّيَ أنه يُسنُّ له عدم قصِّ الشعر والظفر، تشبُّهًّا إلى حدٍّ ما بالمحرمين بالنسك، وأن كل جزء من بدنه يعتق بالأضحية. ثم يقال: لماذا كان لهذه الأيام هذا الفضل العظيم؟ قال العلماء: لأنها متصلة بالحج، وفي نهايتها يوم عرفة، وفضل هذا اليوم عظيم، وكذلك فضل يوم العيد، فهو أعظم حرمة عند الله؛ لأن فيه الحج الأكبر، وكذلك من دواعي التفضيل العمل على إشاعة الأمن في البلاد عامة، لتهيئة الجو للمسافرين والحجاج، وكذلك لمن خلفوهم وراءهم، وذلك بالانشغال بالعبادة والذكر، وكذلك هذه الأيام فرصة لأداء كل العبادات من صلاة وصيام وصدقة وحج.
ولذا وجب استثمار هذه الأيام في الطاعات والإكثار من الأعمال الصالحة فيها، من صلاة وصيام وصدقة وقراءة القرآن والاستغفار، وبر الوالدين، وصلة الأرحام والأقارب، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحفظ اللسان والإحسان إلى الجيران، وإكرام الضيف، والنفقة على الزوجة والعيال، وكفالة الأيتام، وزيارة المرضى، وقضاء حوائج الناس وبر الوالدين والتوبة الصادقة والعزم الأكيد على الرجوع إلى الله، ففي التوبة فلاح للعبد في الدنيا وحفظ اللسان والفرج ـ والإحسان إلى الجيران ـ وإكرام الضيف ـ والإنفاق في سبيل الله ـ وإماطة الأذى عن الطريق ـ والنفقة على الزوجة والعيال ـ وكفالة الأيتام ـ وزيارة المرضى ـ وقضاء حوائج الإخوان ـ والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ـ وعدم إيذاء المسلمين ـ والرفق بالرعية ـ وصلة أصدقاء الوالدين ـ والدعاء للإخوان بظهر الغيب ـ وأداء الأمانات والوفاء بالعهد ـ والبر بالخالة والخالـ وإغاثة الملهوف ـ وغض البصر عن محارم الله ـ وإسباغ الوضوء ـ والدعاء بين الآذان والإقامة ـ وقراءة سورة الكهف يوم الجمعة ـ والذهاب إلى المساجد والمحافظة على صلاة الجماعة ـ والمحافظة على السنن الراتبة ـ والحرص على صلاة العيد في المصلى ـ وذكر الله عقب الصلوات ـ والحرص على الكسب الحلال ـ وإدخال السرور على المسلمين ـ والشفقة بالضعفاء ـ واصطناع المعروف والدلالة على الخير ـ وسلامة الصدر وترك الشحناء ـ وتعليم الأولاد والبنات ـ والتعاون مع المسلمين فيما فيه خير.
عبد الرحيم مفكير