رسالة دكتوراة تستعرض الأبعاد العقدية والإجتماعية والسياسية في المشروع الإصلاحي للطاهر ابن عاشور
يلقي موقع “الإصلاح” خلال هذا الشهر الرمضاني الكريم الضوء على عدد من الأطروحات والرسائل الجامعية النوعية التي تعالج عددا من قضايا ومشاريع الإصلاح في تخصصات مختلفة.
وسنخصص في أول حلقة من هذه الفقرة الرمضانية لأطروحة نوقشت برحاب كلية الآداب والعلوم الإنسانية فاس/سايس مؤخرا بتاريخ 20 شعبان 1442 هـ/ 2 أبريل 2021 م، لنيل شهادة الدكتوراة حضرها الطالب الباحث: طارق خايف الله. تحت إشراف الدكتور: الحسن حمدوشي؛ مشرفا، والدكتور: محمد زهير رئيسا، والدكتور: عمر امبركي، والدكتور: امحمد البنعيادي؛ عضوين. في موضوع: “المشروع الإصلاحي للإمام الطاهرِ ابنِ عاشور: دراسة في الأبعاد العقدية والاجتماعية والسياسية” .
الإصلاح لا يكون من مرجعية أخرى، وإنما ينبع من مرجعية الأمة نفسها، ومن اتفاق مجتمعي عليه
تكمن أهمية الأطروحة من حيث الموضوع المختار “المشروع الإصلاحي للإمام الطاهرِ ابنِ عاشور: دراسة في الأبعاد العقدية والاجتماعية والسياسية” في أن الإصلاح كما تقدم غايةُ الشرائع كلِّها، ومنتهى آمالِ الناس في حياتهم. فالإصلاح واجب شرعي، وضرورة واقعية، وسير على نهج الأنبياء المرسلين. وهو مطلب حضاري مُتجدد، يكثر الطلب عليه كلما عمّ السفاد وانتشر.
ومن حيث حاجته الواقعية، تتمثل أهميته، حسب الباحث، في أنه وبالنظر إلى واقع أمتنا اليوم؛ الواقعِ الذي لا يختلف عليه اثنان، من حيث مظاهر الفساد المنتشرةِ فيه، واللاّئحةِ في كل ميدان؛ فإن الحاجة إلى الإصلاح اليوم حاجة ماسة، يفرضها الواقع المنهزم لحال بلاد المسلمين. والتاريخ يحكي بأن الإصلاح الناجع هو الذي يكون نابعا من الداخل، من رغبة أكيدة فيه، لا من إملاءات الخارج وسلطته. ومن هنا أقول: إن المشاريع الإصلاحية التي لا تَمُتُّ لأمتنا بصلة، لا يمكن التعويل عليها كثيرا في نهضتنا المنشودة، فالإصلاح لا يكون من مرجعية أخرى، وإنما ينبع من مرجعية الأمة نفسها، ومن اتفاق مجتمعي عليه. وأنا إذ أقدم اليوم؛ مشروع ابن عاشور الإصلاحيِّ لعموم المهتمين والدارسين؛فباعتباره نموذجا ينتمي لبيئتنا، ويتوسَّلُ الإصلاح من خلال موروثنا الديني والثقافي والتاريخي.
ومن حيث شخصية ابن عاشور، فتتميز سيرته العلمية والنضالية؛ كونه رجل العلم والميدان، استطاع أن يجمع بين الأمرين معاً. وأهلَه احتكاكه بالواقع وتبحُّره في التراث؛ لامتلاك رؤية حادة لتشخيص الدّاءِ،ووصفِ الدّواء المناسب، فكان حديثه عن الإصلاح حديثا من الداخل؛ حديثَ من عاش هموم مجتمعه، وكان قريبا منها، لا حديث من يُمْلِي ويُنَظِّرُ وهو عن الواقع بعيد.
متن الإمام الطاهر بن عاشور لم يأخذ حظه الكامل من الاعتبار
يذهب صاحب البحث في إشكاليته إلى أن هنالك نقصا في التعريف بإسهامات الإمام الطاهر بن عاشور في هذا الجانب، وأن متنه الإصلاحيَّ لم يأخذ حظه الكامل من الاعتبار، وقبل ذلك من التعريف والانتشار. خصوصا وأن ابنَ عاشورٍ في زمانه، ظلت تتبعه محن كثيرة، بدءا من المحتل الفرنسي ، ووصولا إلى الدولة الوطنية في شخص رئيسها “بورقيبة “.
ويتفرع عن هذه المُهمة؛ حسب الباحث طارق خايف الله، بيان خصوصية المشروع الإصلاحي لابن عاشور عن بقية المشاريع الإصلاحية التي ظهرت قبله، خصوصا بالمشرق العربي.
ويطرح الباحث في هذا الإطار سؤال ماهية ملامح مشروع ابن عاشور الإصلاحي؟ وكيفية إعمال فكره في قضايا العقيدة والسياسة والاجتماع؟، وهل بقي فكره منغلقا حبيس الماضي أم مواكبا للمستجدات المعاصرة؟
بالإضافة إلى سؤال إلى أي حد استطاع ابنُ عاشور التخلص من النظرة التجزيئية، والمعالجة الأحادية لمداخل الإصلاح؟ وهل يمكن الحديث عن نظرة تركيبية وشمولية في مشروعه؟
الطاهر بن عاشور مصلحا اجتماعيا
ويهدف البحث إلى التعرف على ابن عاشورٍ باعتباره؛ مصلحاً اجتماعيا، والوقوفُ على أفكاره الإصلاحية بأبعادها الثلاثة: العقدية، والاجتماعية، والسياسية. وتلمُّسُ أهم المميزات التي طبعت فكره.
بالإضافة إلى استخلاصُ منهج ابن عاشور في الإصلاح، وبيانُ مدى ارتباط هذا المنهج بالرؤية القرآنية؛ تشخيصا ومعالجة. والوقوف على مظاهر الجدة والشمول في مشروع ابن عاشورٍ الإصلاحي، وتميزه في ذلك.
تقسيم البحث: الأبعاد العقدية والسياسية والإجتماعية
ووزع الباحث طارق خايف الله بحثه على مدخل، وثلاثة أبواب، وخاتمة. قسّم المدخل إلى مبحثين، تطرق في الأول منهما؛ عن حياة الإمام ابن عاشور، وأثرِ بيئته في شخصيته وفكره. وتحدث في الثاني منهما؛ عن مفهوم الإصلاح وعن منهجه ومرتكزاته لدى الإمام ابن عاشور. وفي كلا المبحثين سلك سبيل القصد والاختصار، وتجنب التِّكرار، بما يفي بالغرض ولا يخل بالمقصود.
وتناول الباب الأول: “البعدُ العقدي في الفكر الإصلاحي لابن عاشور”، وقسم إلى فصلين، تحت كل فصل مبحثين. تضمن في الفصل الأول منهما؛ أسباب الفساد العقدي في نظر ابن عاشور، والذي توزع على مبحثين، يتعلق الأول بمشكل التعطيل والإشراك “أسباب عملية”. ويتعلق الثاني بمشكل الخطأ في الصفات “أسباب علمية”.
أما الفصل الثاني؛ فقد بحث فيه عن الأدوية المشفية للفساد العقدي أو بما أسماه: سياجُ إصلاح العقيدة عند ابن عاشور، والذي توزع على مبحثين أيضا، هما: 1- الإصلاح بالتفصيل. 2-والإصلاح بالتعليل.
وبخصوص الباب الثاني؛ فقد جاء بعنوان: “البعدُ الاجتماعي في الفكر الإصلاحي لابن عاشور”. قسم إلى فصلين، تحت كل فصل مبحثين، تناول في الفصل الأول؛ مقوماتِ النظام الاجتماعي عند ابن عاشور من زاوية نظرية، ووزعه على مبحثين، هما: “الاتحاد والمساواة”و”العدل والحرية”. بينما درس في الفصل الثاني؛ الجانب الاجتماعيَّ من زاوية تطبيقية، وقد هم الأمر قضيتين أساسيتين ، هما: قضية التعليم وقضية المرأة.
وبخصوص الباب الثالث؛ فقد وسمه ب: (البعد السياسي وإمكانية التركيب في الفكر الإصلاحي لابن عاشور). قسمه بنفس المنهجية السابقة إلى فصلين، تحت كل فصل مبحثين. خصصت الفصل الأول منهما لدراسة؛ البعد السياسي في فكر ابن عاشور من خلال قضايا ونماذج، ناقشت في المبحث الأول؛ فقه الدولة وأهميةَ الأمة في اختيار من يلي أمرها، ودرست في المبحث الثاني؛ سياسة الحكومة في الإسلام مع المسلمين من جهة، ومع غير المسلمين من جهة أخرى. أما الفصل الثاني، فقد حاول فيه تلمس إمكانية التركيب في الفكر الإصلاحي لابن عاشور، من التجزيئ إلى التركيب. وذلك من خلال أبعاد الدراسة الثلاث. ثم كانت الخاتمة التي دون فيها نتائج البحث، واستشرف من خلالها آفاقا أخرى للبحث في هذا الموضوع.
رؤية ابنِ عاشور الإصلاحية تمتح وبشكل حثيث خطوات المنهج القرآني في الإصلاح
ويذهب الباحث طارق خايف الله في نتائج البحث إلى أن رؤية ابنِ عاشور الإصلاحية تمتح وبشكل حثيث خطوات المنهج القرآني في الإصلاح، فهي كاشفةٌ لها، وتعطينا قراءةً إصلاحية عميقة للنص القرآني في تفاعله مع الواقع وقضايا الناس.يقول الشيخ ابن عاشور: «إن القرآن أنزله الله تعالى كتاباً لصلاح أمر الناس كافة، رحمة لهم لتبليغهم مراد الله منهم، فكان المقصد الأعلى منه صلاح الأحوال الفردية، والجماعية، والعمرانية». فنلاحظ كيف أن هذه المجالات تستوعب حركة الفعل الإنساني كله، وتشمل كل مجالات اشتغاله، وتنظمُها في نسق فكري اجتماعي فريد
كما أن المدنية الحديثة لا تتعارض مع قواعد أصول النظام الاجتماعي، وهذا ما سخَّر الإمام نفسه لأجل بيانه وإيضاحه، وقد ظهر جليا في متنه.ومن مظاهر ذلك مثلاً: موقفه من الدمقراطية باعتبارها آلية سياسية لتدبير أمور الحكم، فلقد قرر دون تلكئ أن «الحكومة الإسلامية حكومة ديمقراطية على حسب القواعد الدينية الإسلامية المنتزعة من أصول القرآن ومن بيان السنة، ومما استنبطه الفقهاء».
كما أن ابن عاشور استطاع وإلى حد كبير إبراز الجانب الاجتماعي في الإسلام؛ تأصيلا وتجديداً، فالإسلام داعٍ إلى إصلاح البشر من جميع نواحي حياتهم ومنها؛ الناحيةُ الاجتماعية التي هي الغرض الأسمى للإسلام كما عبر ابن عاشور.
مشروع متعدد المداخل متنوع المجالات
بالإضافة إلى أن المشروع الإصلاحي لابن عاشور مشروع متعدد المداخل متنوع المجالات، يختلف باختلاف مناحي الحياة، وهذا من أبرز عناصر القوة فيه، حيث استطاع الإمام استخلاصَ رؤية شمولية للإصلاح، تتجاوز مشكل التجزيئ الذي ظل يُنظر به إلى مختلفِ المشاريعِ الإصلاحيةِ. وعليه؛ فإن المشاريعَ الإصلاحية الناجحة هي التي تستوعب شمولية الإسلام، وحركيته الفاعلة في المجتمع.
وفي النهاية يستخلص الباحث إلى الأبعاد الثلاثة المدروسة في متن الإمام جاءت غنية جدا، يطبعها -إلى حد كبير-سمات ومميزات عدة، اتسم بها فكر ابن عاشور، والتي من أهمها:
التأصيل الشرعي الدقيق، الدراسة والبحث المعمقتين، التحرر من الأحكام المسبقة، الشجاعة العلمية في مناقشة أقوال المتقدمين؛ تقويما وتصويبا، أو تأكيدا وترجيحا. القدرة الكاملة على الاجتهاد والتجديد ومواكبة العصر.
نحو نظرية للإصلاح عند الطاهر ابن عاشور وتمكين المصلحين المعاصرين من نموذج إصلاحي (مغاربي)
وأخيرا فإن آفاق البحث لا زالت مفتوحةً، حسب الباحث، لأن مشروع ابنِ عاشور أوسعُ مدى، وأكثرُ غزارة. وإذا كان قد أحاط ببعض جوانبه، فما تزال هناك جوانبُ أخرى يمكن معالجتها وتبيينُ مظانِّ التجديد فيها، ليجتمع لنا من كل ذلك مستقبلا، البحث فيما يمكن تسميته ب: نظرية الإصلاح عند الإمام الطاهر ابن عاشور، بما لها من مميزات وخصائص، وخطة ومنهج، واستيعاب وشمول أكثر.
ومن آفاق هذا البحث أيضاً؛ تمكين المصلحين المعاصرين من نموذج إصلاحي (مغاربي)، والاستفادةُ من تجربته الغنية، والاسترشادُبه في النهوض بأحوال الأمة، ومن ثم استئنافَ طريق الإصلاح الحضاري المنشود.
الإصلاح