مسؤولية الكلمة

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

الإخوة الكرام الأخوات الكريمات نحمد الله تعالى على نعمة الإيمان وعلى نعمة الإسلام فلله تعالى الحمد والمنة،

عنوان هذه الكلمة هو “مسؤولية الكلمة”، فقد حدد الرسول صلى الله عليه وسلم الغاية الأولى من بعثته بقوله (إنما بعث لأتمم الأخلاق) فكانت رسالة السلام لا تنشد أكثر من تدعيم فضائل الأخلاق وإنارة آفاق الكمال، والله سبحانه لما أثنى على نبيه صلى الله عليه وسلم ونفى عنه ما اتهمه به المشركون من جنون مدحه بقوله تعالى “وإنك لعلى خلق عظيم”، إن لهذه اللفتة كما يقول الشهيد سيد قطب رحمه الله دلالتها على تمجيد العنصر الأخلاقي في ميزان الله، وأصالة هذا العنصر في الحقيقة كأصالة الحقيقة المحمدية، والناظر في هذه العقيدة كالناظر في سيرة رسولها يجد العنصر الأخلاقي بارزا أصيلا فيها تقوم عليه أصولها التشريعية والتهذيبية على السواء الدعوة الكبرى في هذه العقيدة إلى الطهارة والنظافة والأمانة والصدق والعدل والرحمة واليسر وحفظ العهد ومطابقة القول للفعل، إلى أن يقول: والرسول الكريم يقول إنما بعث لأتمم مكارم الأخلاق، فيلخص رسالته في هذا الهدف النبيل، وتتوارد أحاديثه تترى في الحض على كل خلق كريم، وتقوم سيرته الشخصية مثالا حيا وصفحة نقية وصورة رفيعة تستحق على الله أن يقول عنها في كتابه الخالد وإنك لعلى خلق عظيم، فيمجد بهذا الثناء نبيه صلى الله عليه وسلم كما يمجد العنصر الأخلاقي في منهجه الذي جاء به هذا النبي الكريم، ويشد به الأرض والسماء ويعلق به قلوب الراغبين إليه سبحانه وهو يدلهم على ما يحب ويرضى من الخلق القويم، لقد تمثلت هذه الأخلاق الإسلامية بكمالها وجمالها وتوازنها واستقامتها واضطرادها وثباتها في محمد صلى الله عليه وسلم، وتمثلت في ثناءه العظيم وقوله وإنك لعلى خلق عظيم، إنه خلق القران وتجسيد لقيمه وتوجيهاته ولهذا كان جواب عائشة رضي الله عنها حينما سئلت عن أخلاق رسول الله (كان خلقه القران).

ولقد وضح الرسول صلى الله عليه وسلم أن الإيمان القوي يلد الخلق القوي حتما، وأن انهيار الأخلاق مرده إلى ضعف الإيمان أو فقدانه، يقول صلى الله عليه وسلم “الحياء والإيمان قرناء جميعا فإذا رفع أحدهما رفع الأخر”، وفي حديث يقول صلى الله عليه وسلم :”أحسانكم أحاسنكم أخلاقا” أو كما قال.

إنه من خلال هذا يتبين لنا انه لا انفصال بين الأخلاق والإيمان  بل إن الأخلاق هي تجسيد لحقيقة هذا الإيمان، لكن للأسف الشديد بعض الذين ينتسبون لهذا الدين يسيؤون إليه من حيث ممارساتهم الأخلاقية، ومن حيث ما يصدر عنهم من أفعال ومن أقوال تنفر الناس من دعوة الله سبحانه وتعالى ومن رسالة رسوله صلى الله عليه وسلم، ويكفي التأكيد على ذلك حديث المفلس، فقد سال الرسول صلى الله عليه وسلم يوما أصحابه أتدرون من المفلس؟ قالوا المفلس فينا من لا درهم ولا متاع له، فقال المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وزكاة وصيام ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته وفان فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه، أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار والعياذ بالله، فليست الأخلاق من مواد الترف التي قد يعتقدها البعض والتي يمكن الاستغناء عنها بل هي أصول الحياة التي يرتضيها الدين ويحترم ذويها ويكفي أن الرسول صلى الله عليه وسلم الذي عاش في أصحابه قد لقب بالصادق الأمين ولقي ما لقي بسبب المكانة التي كان يحظى بها بين قومه.

ومن الأخلاق التي أولاها الإسلام عناية خاصة أدب الكلام والحديث، وهو يمكننا اعتباره من الآفات التي ابتلي بها الناس جميعا ولكن يمكننا أن نقول أنه من الابتلاءات التي ابتلي بها الناس اليوم لأن الكلام اليوم أصبح لا يتوقف عندما يتلفظ به الإنسان، وإنما أصبح يتعلق بما يدونه الإنسان لأنه إذا كان في زمن مضى كان من يدون هم من أهل العلم والفكر وأهل الثقافة والأدب والفقه، فإن اليوم ومع تطور شبكات التواصل الاجتماعي وما أصبحت تؤثر به في الناس، جعلت المجال لكل الناس ليكتبوا ويدونوا ويخوضوا فيما يخوض حوله الناس، فنحن حقيقة إلى التنبيه إلى أدب الكلام وأدب الحديث ويحرص الإنسان على أن ينتبه لما يصدر عنه من أقوال ومما يكتب ويدون، فقد قال سبحانه وتعالى”ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد”. 

إن المسلم مدعو إلى أن يسائل نفسه قبل أن يتحدث أو يكتب عن مقصده ذلك وكلنا يعلم أن أصل الأعمال هوا ما كان خالصا صوابا، فقد قال صلى الله عليه وسلم (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرء ما نوى)، فإن كان هناك ما يستدعي الكلام أو التدوين كأمر بالمعروف أو نهي عن منكر أو دعوة إلى الخير أو غير ذلك من الأمور النبيلة فإن البقاء على ذلك مطلوب وإلا فالإعراض أفضل وعبادة جزيلة الأجر، فقد ورد عن عبد الله بن مسعود أنه قال “والذي لا اله غيره ما على ظهر الأرض شيء أحوج إلى طول سجن من لسان”.

لقد ابتلينا اليوم باللغو وكثرة الكلام الذي لا طائل منه، وساهمت شبكات التواصل الاجتماعي في ذلك حيث أصبح الكل يخوض في كل شيء ويتحدث المرء في ما لا علم له به، ويتهم الناس في نياتهم وأخلاقهم، بل أصبح الفضاء الأزرق مجلا لترويج الشائعات وخوض الخصومات، بل تجد الناس خصوما وهم لا يعرفون بعضهم بعضا إلا في الفضاء الأزرق، وينشر الناس الإشاعات رغم أن منهج الإسلام يقوم على أساس التبين مما يصدر عن الإنسان من أقوال فالله سبحانه وتعالى يقول :”يا أيها الذين امنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين”، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول :”كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع” وفي حديث اخر :”دعوا القيل والقال وكثرة السؤال”.

إن الكلمة سواء كانت ملفوظة أو مكتوبة جعلها الله سبحانه وتعالى مسؤولية ولا بد للمرء أن يفكر فيها قبل أن ينطق بها أو يكتبها فقد ورد في الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول :”إن العبد ليقول الكلمة لا يلقي لها بالا تهوي به في النار سبعين خريفا”، والشيطان يتربص بالبشر ويريد أن يوقع بينهم العداوة والبغضاء وأن يجعل من النزاع التافه سبيلا إلى الخصومة والفجور ويسد على الناس الطريق أمام القول الجميل، إن الكلمة سواء كانت ملفوظة أو مكتوبة هي تعبير عن أخلاق الإنسان وعن علمه وقد قال الشاعر :

لسان الفتى نصف 

ونصف فؤاده

فلم يبق إلا صورة اللحم والدم

وقد قالت العرب قديما (المرء بأصغيره قلبه ولسانه)، و(المرء مخبوء تحت لسانه).

لقد انكشفت الكثير من العورات والسوءات بسب ما يلفظه الإنسان وما يدونه، وأصبحت شبكات التواصل الاجتماعي كاشفة عن كثير من العيوب والزلات التي لا بد أن ننتبه إليها ولا بد أن ينتبه إليها الإنسان المسلم لأن هناك شهوات خفية تدفع الإنسان إلى كثرة التدوين فلعل حجم المتابعين وعدد الذين يسجلون إعجاباتهم وعدد الذين يعلقون كلها أصبحت تدفع الناس إلى أن يدونوا وإلى أن يكتبوا وأصبح الكثير من شبابنا يملأون صفحاتهم باللغو التافه الذي لا طائل من وراءه وهذا مناف لمقتضيات الدين ولأخلاق الإسلام، فلابد من أن ننتبه إلى هذه الآفات التي هي نذير شؤم على الإنسان لأن كل ما يصدر عنه هو يسجل ويكتب عليه خصوصا إذا كان ما يكتبه ويسجله فيه تعريض بالناس وإساءة إليهم واتهام الناس في دينها وفي صلاحها وأعراضها وغير ذلك من الأمور، فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يبصرنا بعيوبنا ويهدينا إلى سواء السبيل وصلى الله وسلم على سيدنا محمد والحمد لله رب العالمين.

الأستاذ محمد عليلو / سلسلة تبصرة

 

 

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى