معضلة الصهاينة أصلا مع الحياة قبل أن تكون مع غيرها – لحبيب عكي
يدعي بعض المغرضين المضللين أن معضلة الصهاينة وما يحملهم على كل هذا العدوان المستعر والتدمير الشامل في فلسطين المحتلة، هو سوء حظهم العاثر والمتمثل في كون حركة المقاومة الإسلامية “حماس” تقف لهم بالمرصاد وتواجه عدوانهم المتغطرس والمستمر بالفرقان والطوفان ومخططاتهم الاستيطانية الجهنمية بالرفض والنيران، ترى، ما مدى صحة هذا الاعتقاد؟ هل مشكلة الصهاينة فعلا مع “حماس” أم مع كل الفلسطينيين، أم مع العرب المسلمين ومع كل أحرار العالم والضمير الإنساني، أم فقط وأصلا مع الحياة بكل تفاصيلها؟
ما مظاهر ذلك ودعواه؟ وإلى أي حد يمكن أن يكون سعيهم الأبدي إلى إبادة الشعب الفلسطيني وحرمانه من حقه وأرضه وحريته وكرامته، حقيقة ممكنة أو مجرد وهم وسراب مستحيل؟ ولماذا هناك حتى الآن من السياسات والمعسكرات الغربية من تدعم هذه الترهات؟، في حين أن المعسكر العربي الإسلامي أصبح كالأطرش في الزفة، يدعم كل شيء وهو في الحقيقة لا يدعم أي شيء؟
يقال أن الصهيوني هو المناضل المأدلج والحركي الاستيطاني العنصري الملتزم، واليهودي مجرد عبري يحمل عقيدة التلموذ العرقية والتوراة المحرفة التي ترى ألا سبيل عليها في الأميين، بينما الإسرائيلي هو الأول أو الثاني الذي سكن أرض فلسطين قبل 1967، ولكن في جرائمهم وكوارثهم في فلسطين فكلهم في ذلك سواء، بل لا تجدهم إلا أحفاد قتلة الرسل والأنبياء، من مسخوا قردة وخنازير، ولا يزالون يتنافسون في من يفسد الحياة ويضر بأهل الأرض ويشعل فتنها أكثر وأكثر تنافس “العمل” و”الليكود” وغيرها من المنظمات الإرهابية والعابرة للقارات.3
فعندما تدخل عليك الحماية المعتوهة مثلا، تائها مهجرا ملعونا، جاءت به من الشتات العالمي بوعود بريطانية وضمانات أمريكية آنذاك، واستوطنته أرضك بإغراءات صهيونية ليقتلعك منها ويقطع عليك خلوتك وهدوؤك وسكينتك.. وعندما يستطيب الضيف الثقيل مقاما غير مقامه فيدعي نفسه صاحب الدار والديار، ويدعي أنها أرض بلا شعب وهو شعب بلا أرض، وأن الله قد اختاره (وليس الحماية والانتداب) ومنحه ذلك الحق.. وعندما يبالغ السارق في تصديق سرقته، ويؤسس عليها أبعادا تاريخية متحفية وأساطير دينية ميتة تدعي أن الأرض أرض الميعاد وعلى كل شتات العالم من الصهاينة أن يهاجروا إليها ليقيموا الدولة و”الهيكل”..
عندما يغيرون عنوة وبدعم الامبريالية الغربية، كل ملامح الأرض ويهودون تاريخها وأحياءها وأبطالها..، فإذا بالقدس.. “أورشليم” و تل الربيع.. “تل أفيف”، وإذا بعكا تصبح “عكو”.. وعسقلان تصبح “أشكلون”…وإذا بالشمطاء “كولدا مايير” والسفاح “شارون” أبطالا قوميين لا يقهرون. فالكل قد تهود وتصهين ولا لغة ولا دين ولا قانون ولا مؤسسة ولا حقوق وحريات أو عادات و عبادات إلا ما كان متصهينا ولليهود الصهاينة وحدهم.. وإذا بكل طقوس الحياة البسيطة والأصيلة لأهل البلد تصبح جحيما لا يطاق:.. مستوطنات مسلحة وأسوار عازلة.. معابر ونقط تفتيش.. بطاقات هوية انتقائية.. بوابات إلكترونية وأسلاك شائكة مكهربة.. حرب وراء حرب وحصار وراء حصار..
وبين الحرب والحرب إعصار من الهدم والدمار، وجحافل من الشهداء والأسرى.. مزيدا من المعطوبين والمهجرين واللاجئين والمفقودين تحت الركام والبدون أهل في الشوارع.. بين العدوان والعدوان مزيدا من استهداف للمدنيين من الأطفال والنساء والعجزة، يقصف العدو الجبان على رؤوسهم المساجد والمدارس والجامعات والمستشفيات.. وحتى ملاجئ “الأونروا” رغم صفتها الإغاثية الدولية.. بل يصل بهم الحقد والجنون إلى حرق المزارع واقتلاع الأشجار، بل وتخريب المتحف والمكتبات والطرقات والمقابر..، وقطع الماء والكهرباء والهاتف والأنترنيت..، وسرقة الأبناك والمراكز الإدارية للأملاك والوثائق.. وعلى كونهم أحرص الناس على حياة، لكنها الحياة التي تكون لهم لا لغيرهم ولا لهم ولغيرهم، رغم ما يعتقدونه من أن هذا الغير إنما هو مجرد حيوان خلقه الله على شكل إنسان حتى يخدمهم.
إن كل هذه الجرائم المتغطرسة عنوان بارز وحيد وأوحد لجنون صهيوني فظيع ألا وهو عبث وهم الإبادة الدائمة والمستمرة في حق الشعب الفلسطيني وطموح تحقيقها، إبادة كانت منذ كانت القضية قبل “حماس” وستظل معها وبعدها، لكن، هيهات هيهات، إن حلم إبادة شعب الجبارين لن يتحقق بكل تأكيد ، لأن القضية في الأول ليست قضية الفلسطينيين وحدهم، بل قضية كل العرب والمسلمين وكل أحرار العالم كذلك، وهي عندهم قضية ضمير حي الذي هو الضمير الإنساني، وهي أيضا قضية عقدية ربانية ستظل جذوتها متقدة ما دامت تتلى آيات مرجعيتها القرآنية : “سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله” الإسراء/01. لا يمكن إدارة عجلة التاريخ إلى الوراء، فكل الإبادات التي وقعت عبره من طرف الإنسان الأبيض على غيره من الشعوب الأصيلة، تمت بين القرنين 17 و19 الميلادي، وفي حق شعوب/قبائل بسيطة بساطة حضارتها الرائعة، ولكنها لم تكن تمتد في التاريخ ولم تكن منظمة، بل كانت متناحرة إلى درجة استعان فيها بعضها على غيره بالمد الاستعماري وبسلاحه الفتاك.
والآن، ليصطف كل معسكر إلى معسكره، وكل فيلق إلى فيلقه، وكل نظام وحلف إلى نظامه وحلفه، وليكن عمليا في أقواله ومواقفه وأعماله، فالحقيقة الساطعة ولاشك تكمن في ما ذكره د. عبد الوهاب المسيري في كتابه ” الصهيونية واليهودية” ص. 97، عن الجغرافي الإسرائيلي “أرنون سوفير” وهو يقول في الموضوع: ” إن الفلسطينيين سيهزموننا في غرف النوم ومدرجات الجامعات، والشعب المطلوب إبادته شعب له تراث تاريخي طويل، فهو ليس من الشعوب البسيطة، وليس مجرد قبائل متناثرة، بل هو شعب تسانده بقية الجماهير العربية والإسلامية التي تعطيه المدد المعنوي والمادي، كما تتعاطف معه كل القوى المناهضة للاستعمار، وهو شعب قادر على تطوير نفسه وتطوير استخدام السلاح بما يتناسب مع الإمكانات واللحظة ابتداء من الحجر إلى عياش 1 و2 ثم القسام 1 و2 و3.. وتنظيماته السياسية تتطور وتتحسن، بالإضافة إلى أنه قد أدرك أهمية العلاقات الدولية، وكيف أن الخارج الدولي يؤثر في الداخل القومي، وهو يعرف أن الإعلام قوة ضحمة لا يمكن تجاهلها أو ترويج أحداث تخدش في الصورة المغلوطة التي تحاول إسرائيل الترويج لها لصالحها”.
مما يجعل كل مشروع إبادة مهما كانت واردة على مستوى الفكر والوجدان ولكنها ستظل مستحيلة على مستوى الممارسة والميدان، خاصة في عصر الإعلام الهادف والفضائيات التي تنقل أحداث كل العالم على مدار الساعة والدقيقة، وفي عهد المنظمات الجادة التي ترصد كل قضايا الحرية وحقوق الإنسان وعلى رأسها قضايا التطرف والإرهاب المجتمعي والدولي وعمليات الإبادة، وهي التي فضحت الكوارث المرتكبة ضد البشرية في “غوانتنامو”، وكشفت فضائح الجيش الأمريكي وحلفائه في أفغانستان والعراق.. وكشفت.. وكشفت.. حتى أصبح من الصعب بل من المستحيل أن يصدق أي كان أن مثل هذه الأنظمة المستبدة هي راعية الأمن والسلام عبر العالم أو أنها لا تكيل بمكيالين بين الإسرائيليين والفلسطينيين. صحيح، أن هناك اليوم خسائر مادية وبشرية وضحايا بالألوف المؤلفة خلفتها معركة طوفان الأقصى ولا تزال، وأن الحاجة جد ماسة إلى إيقاف الحرب والعدوان، ولكن، أليس كل هذا الذي حدث رغم هوله وفظاعته، ليس من قوة العدو الصهيوني وحلفائه – كما يقال – ، ولكن من ضعفنا وتخاذلنا ومن ضعف المنتظم الدولي الرسمي وتشرذمه؟
حتى أنه لم يبق من الأمر إلا هذه الوقفات الاحتجاجية والتظاهرات التضامنية للجماهير الشعبية عبر كل دول العالم. لكن، يكفيها شرفا أنها عالمية ومستمرة وتتصاعد، وإن لم تستطع إيقاف الظلم ولا إيصال اللازم من المساعدات إلى المحتاجين، فهي كل يوم تكشف كلاحة وزيف الادعاء الديمقراطي للأنظمة، وما تدعيه من أنها رهن إشارة شعوبها وفي خدمتها لا قمعها، ويكفي التظاهرات شرفا، أنها كل يوم تروي مأساة القرن بكل اللغات وكل الآهات تصدح بها الميادين والساحات وأثير الإذاعات والشاشات، ولا نامت أعين الجبناء.
فهذا بكل المقاييس أفضل من الصمت والتعتيم الذي لن يكون في حقيقة الأمر إلا تواطأ ومشاركة في الجرائم التي تتم لا في صمت وهدوء بل تحت القهر والطغيان، ليصبح الأمر على فظاعته غدا وفي كل الأحوال مجرد سؤال أكاديمي بارد للتاريخ، كيف حدث هذا ولماذا.. متى وكيف..، ولكن – مع الأسف – كل الأسئلة على حرارتها ومرارتها لن تعيد ضحية من الضحايا إلى الوجود قد قضى.. ولن تهدأ من روع أهله وصدمة أطفاله ساعة العسرة، وصدق من قال: “الآن.. الآن.. وليس غدا.. أجراس النصرة فلتقرع.. أو بلغة الشرع.. واجب الوقت يعجل ولا يحتمل التأخير.. أو بالمغربي: اللي بغا يجي.. يجي بكري.. راه البكاء وراء الميت خسارة.
الحبيب عكي