الريسوني لـ”ميدان”: فشل الإسلاميين نسبي وهناك من يُعطّل الاجتهاد الديني ويهرب للسائد في السوق!
أجرى موقع “ميدان” حوارا مطولا مع الدكتور أحمد الريسوني؛ رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين تناول فيها عددا من القضايا أبرزها صعود “الإسلاميين” للحكم بعد الربيع العربي وتقييم تجربتهم وبعض القضايا الشائكة، وإليكم نص الحوار كاملا نقلا عن موقع “ميدان”:
أجرى الحوار: عمر الآغا
ميدان: هل كان صعود “الإسلاميين” للحكم بعد الربيع العربي خيارا متهورا وغير محسوب العواقب نظرا لقلة خبرتهم في هذه المساحة؟
الريسوني: لو كانت ساحتنا السياسية خالية من الذئاب واللصوص وقطاع الطرق لكان وصول الإسلاميين إلى السلطة شيئا طبيعيا وتطورا عاديا. فكل الناس يصلون إليها أول ما يصلون وهم بدون سابق تجربة وبدون خبرة، ثم يرتقون يوما بعد يوم. لا يُولد أحد خبيرا مدربا على الحكم والعمل السياسي.
مثلا: هل الرئيس الأميركي الآن كانت له خبرة وتجربة في الحكم ورئاسة دولة بحجم بلده؟ لا أبدا، كان رجل أعمال ومدير شركات، والحزب الذي يحكم باسمه لم يكن هو عضوا فيه قبل أن يصبح رئيسا. ولكنه بعد انتخابه وجد الخبراء رهن إشارته، ووجد المؤسسات تحت تصرفه، تخضع للشرعية الانتخابية وتساعدها وتعمل تحت إمرتها. أما عندنا فتعتبر الشرعية الانتخابية -عند من يعملون بها- مجرد لعبة شكلية لها وظيفتها وحدودها. أما مؤسسات الدولة وأصحاب مناصبها، وكبار موظفيها، وكثير من عامة الموظفين والمجندين فيها، فيعتبرون الدولة وما فيها ملكية وغنيمة لهم، يضمونها بالأحضان، ويعضون عليها بالنواجذ.
ما لم يقدره الإسلاميون حق قدره هو مدى تغلغل هؤلاء الذئاب ومدى قوتهم وشراستهم في الدفاع عن مكتسباتهم وغنائمهم، ومحاربتهم كل من يقترب منها. فمن هذه الناحية نعم، كان دخول بعض الإسلاميين إلى حظيرة الحكم مغترا وغير محسوب. وهذا ينطبق خاصة على التجربة المصرية، وقبلها على التجربة الجزائرية أيام الجبهة الإسلامية للإنقاذ. أما في تونس فقد استوعبوا الأمور بسرعة، وعرفوا الممكن من غير الممكن، فأعادوا انتشارهم وتموقعهم، وصححوا حساباتهم. وكانت لديهم المرونة الفكرية والجسدية اللازمة لذلك.
ميدان: يرى البعض أن تجربة حركات الإسلام السياسي “الفاشلة” -كما يصفون- ما بعد الربيع أدعى بأن تعتزل تلك الحركات الشأن السياسي وأن تعود لمحاضنها التربوية والاجتماعية نظرا لما أتبعه هذا الفشل من تنامي ظاهرة الإلحاد، فكيف تنظرون لهذه الدعوات؟
الريسوني: هذه الدعوات تستحق النظر والتأمل، ويمكن الاستفادة منها، لكن ليس بهذا وحده تُفسّر الأمور وتُعالج.
فأولا: حكاية “الفشل” هي مسألة نسبية، وتحيط بها ملابسات عدة، كالتي أوضحتها سابقا. والحقيقة أن ما وقع في مصر ليس فشلا، وإنما هو “إفشال” ومنع للنجاح بقوة السلاح. أما الفشل الحقيقي للإسلاميين فهو متحقق بكامل شروطه وأركانه في السودان فقط.
وثانيا: لا ننس تجربة الإسلاميين في تركيا وفي تونس وفي المغرب وفي ماليزيا وفي إندونيسيا، فهي لا يمكن وصفها بالفشل، نعم، لكل حالة وصفُها المناسب، لكن على كل حال ليس هو الفشل ولا ما هو قريب منه.
ثالثا: ليس كل مَن يفشل في أمر يقال له: انصرف عنه وتب إلى الله منه، بل يمكن هذا، ويمكن أن يقال له: استدرك ما فاتك، وخذ العبرة من عثرتك وفشلك، ثم أعد الكرة لتنجح.
ولكن في جميع الحالات، فإن العمل التربوي والدعوي والثقافي تبقى له الأولوية القصوى والأهمية العليا. ومن عاد إليه، أو بقي فيه ولم يغادره أبدا، فهو في موقع حصين وركن ركين.
ميدان: هل صحيحٌ أنه لا يمكن للشيوخ (بالمعنى الديني) وكتعبير عن قادة الحركات السياسية الإسلامية أن يلعبوا داخل مضمار السياسة، فالسياسة تتطلب خُبثا، وحيلة، ودهاء، وبراغماتية عالية، ونزولا من عالم السماء لعالم الأرض الممتلئ بالصراعات، في حين يستند الشيوخ دائما إلى حائط من القيم والمبادئ التي يصعب عليهم تجاوزها، مما يجعلهم دائما متأخرين عن أقرانهم الذين يبذلون، ويستغلون كل ما يقع تحت نطاق سيطرتهم لتحقيق مكسب، فهل يعد ذلك عاملا حقيقيا في فشل تجربة صعود تيار الإسلام السياسي؟
الريسوني: هذا كلام مرسل على عواهنه.. فالإسلاميون الذين دخلوا السياسة أكثرهم تكنوقراط، وليسوا شيوخا أو وعاظا أو رجال دين كما يقال. أما مسألة الدهاء والخُبث والمكر والبراغماتية اللا أخلاقية، فللأسف بعض الإسلاميين (من سلفيين وإخوانيين وغيرهم) قد سلكوا هذه المسالك ومارسوها واستسلموا لها في مساراتهم وصراعاتهم السياسية، لكن خصومهم يبقون متفوقين عليهم في هذا المجال، فهو سلاح فاشل حتما عند الإسلاميين، وليس أمامهم إلا أن يطهّروا أنفسهم وأيديهم منه. الإسلاميون لن يتفوقوا ولن ينتصروا إلا بأخلاقية تامة وصارمة، سواء فيما بينهم وداخل صفوفهم، أو مع حلفائهم، أو مع خصومهم وأعدائهم، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُون}.
ولكن من جهة أخرى، لا بد من المعرفة والدراية بأساليب الآخرين وحيلهم ومكرهم ودسائسهم. لا بد من التيقظ والنباهة وأخذ الحيطة والحذر، وكل هذا يندرج ضمن فقه الواقع. وكما قال سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لست بالخِبّ، ولا الخبُّ يخدعني. ولذلك قال عنه المغيرة: “كان والله عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه أفضلَ من أن يَـخدع، وأعقلَ من أن يُـخدع”. فهذا هو المبدأ: لا نَـخدع، ولا نُـخدع. ومن لا يستطيع هذا فليدَعْ.
ميدان: أصبحت فكرة “الأحزاب الإسلامية” مطيّة لأن يلصق كل مشروع سياسي نفسه بالإسلام، باعتباره مرتبطا، ولو على الصعيد الشكلي، بأحد تمثُّلات المخيال الإسلامي، مما يعطيه مشروعية جماهيرية. ألا يساهم ذلك في تشويه الإسلام عوضا عن العمل باسمه؟
الريسوني: ربما شيء من هذا يصدق على بعض الدول الإسلامية الآسيوية التي تعرف حرية في التأسيس الحزبي والعمل السياسي (كماليزيا وإندونيسيا وباكستان)، أما في الدول العربية وغيرها فقد أصبح تَـبَنِّـي الصفة الإسلامية مدعاة للحظر والتضييق والمحاربة بكل الأشكال الممكنة، قبل الوصول إلى الجماهيرية أو الاستفادة منها. وحتى إن تحققت الجماهيرية الإسلامية لأحد الأحزاب في العالم العربي، فهي طريق آخر إلى المنع والاعتقال.
ميدان: هل تحتاج الحركات الإسلامية إلى منهجية تشريعية جديدة واجتهادات فقهية جريئة للتعامل مع تعقيدات الواقع، وهل يمكن أن تتجاوز تلك المنهجية الآليات التشريعية المتفق عليها سابقا؟
الريسوني: أولا يجب أن نفرق هنا بين الحركات الإسلامية الدعوية والأحزاب الإسلامية السياسية. فالحركات الدعوية ليست ملزمة بتبني اجتهادات فقهية أو إنتاجها. فهي أساسا تدعو إلى ثوابت الإسلام وأخلاقه وأحكامه المعروفة، وتربي الناس عليها. وبعد ذلك لا بأس عليها وعلى أعضائها من الأخذ بأي فتوى وبأي اجتهاد فقهي للعلماء المعتبرين. فالحركات الدعوية لا ينبغي أن تتحول إلى مذاهب فقهية أو مجامع إفتائية. أما الأحزاب السياسية فهي مدعوة لزوما إلى تقديم اجتهاداتها أو اختياراتها في قضايا المجتمع والدولة، سواء تعلق الأمر بالسياسة الشرعية والقضايا الدستورية، أو بالقضايا المالية والاقتصادية، أو بالقضايا الاجتماعية، أو بالقضايا الحقوقية والقانونية، أو غيرها من الشؤون العامة.
وفي هذا الصدد، أعتقد جازما أن منهجيتنا الاجتهادية، وثروتنا الفقهية والأصولية، كافية تماما لسد كل خصاص وتلبية كل حاجة تشريعية. لكنها طبعا تحتاج إلى كفاءات فكرية وعلمية في المستوى المطلوب. وأما المناداة بآليات وأصول تشريعية جديدة فإنما هو دليل على الجهل والقصور. كيف يعجز عن الاجتهاد ووضع الحلول مَن عندهم الكتاب والسنة والقياس والمصلحة والاستحسان والاستصحاب والعرف وسد الذرائع ومقاصد الشريعة ومئات القواعد الفقهية؟ والحقيقة أن الذين يريدون نبذ المنهجية الأصولية الإسلامية، ونبذ الاجتهاد على أساسها، إنما يريدون الهروب إلى تقليد ما هو سائد في السوق من منتجات وبضائع تشريعية، إنهم يطلبون “حق اللجوء التشريعي”!!
ميدان: “الإسلام الوسطي”، “الإسلام المعتدل”، مصطلحات يستخدمها كثير من الإسلاميين، وكثير ممن ينظرون لصورة الإسلام المثالية، إلا أنها مصطلحات، ولعموميتها، يمكن أن تساهم في تمييع ما يُعرف بـ “ثوابت الدين”.. فهل هناك حقا ما يمكن وصفه بالإسلام المعتدل؟
الريسوني: هذه أوصاف صحيحة ومقبولة في أصلها وعمومها، ولكن العبرة بالتفاصيل المجسدة لها، سواء منها القولية أو الفعلية. والمرجع الـحَــكَم في ذلك هو ما جاء في صريح القرآن وصحيح السنة، وما عليه جماهير العلماء. وأما ما كان ظنيا مختلفا فيه، ففيه سعة ورحمة. فما كان في حدود هذه الدائرة فهو من الوسطية والمرونة المعتمدة شرعا، وما خرج عنها فهو إما شذوذ أو إفراط أو تفريط.
ميدان: مع كثرة من يتحدثون باسم الدين، ويروجون لنمطهم باعتباره النهج الصحيح.. يطرح الكثير من الشباب سؤالا مباشرا وواضحا: أي الأنماط الدينية هو الصحيح؟
الريسوني: ليس عندي جواب أو نموذج يقطع الاختلاف نهائيا، ولكني أقول: إن المذاهب السنية الأربعة، وأصولَـها المعتمدة على مر القرون، مع الاجتهاد المعاصر في نطاقها، هو النهج الرشيد والاختيار السديد، وهو أصح ما يمكن وأعز ما يطلب. ومن قديم قرر علماؤنا أن الإجماع حجة قاطعة، والاختلاف رحمة واسعة.
ميدان: كثيرا ما يأتي طرح الإسلاميين الاقتصادي باعتباره رأسماليا ليبراليا، لكنهم يحرصون على إخراجه بديباجة إسلامية، فهل هناك هوس بإلصاق وصف “إسلامي” على مختلف تفاعلات الحياة اليومية؟
الريسوني: على كل حال مشكلتنا الاقتصادية ليست -ولن تكون- في اقتصاد ليبرالي مؤسلم، أو اقتصاد إسلامي معصرن، ليست المشكلة في الصفات واللافتات، بل المشكلة في أمراء الاحتكار والاستئثار، وفي النهب والتبذير وسوء التدبير، وفي الرشوة والبيروقراطية وسائر أشكال الفساد، وفي الإنفاق الخيالي الأسطوري على جيوش وأسلحة هي إما مجمدة، وإما تستعمل لقتل الشعوب وإذلالها. يجب أن نتجه بتفكيرنا وجهودنا صوب المشكلات الحقيقية، وليس إلى مناقشة المشكلات الوهمية أو اللفظية.
ميدان: ينجح كثير من الإسلاميين في الموت من أجل الدين، لكنهم يفشلون في أن يتخذوا من الدين وسيلة نهوض. ألا يُعبِّر هذا “الاشتياق لإنهاء الحياة” عن خلل عميق؟
الريسوني: أكثر الإسلاميين ليسوا هم من “يموتون في سبيل الله”، هؤلاء أقل من واحد في الألف. ولا شك أن بعضهم شهداء أبرار عند الله، كمن يقاومون الغزو والاحتلال الأجنبي، ومنهم أهل جهل وضلال وعدوان لا شك في ذلك، وهم الذين يتبرأ منهم المسلمون عامتُهم وخاصتهم، مما يدل على أنهم خرجوا عن الجادة، بل خرجوا عن الجماعة. أما جمهرة الإسلاميين -أو كلهم تقريبا- فهم منهمكون في دنياهم وهمومهم ومشاريعهم الدنيوية المختلفة، كغيرهم من الناس، منهم المقتصد، ومنهم السابق بالخيرات، ومنهم دون ذلك.
ميدان: أليست العلمانية، باعتبارها قصر الدين على الحيز الخاص، أمرا منطقيا يُجنّبنا كثيرا من فظائع استخدام النص الديني لتبرير الفعل السياسي؟
الريسوني: أولا: نحن نأخذ الدين كما هو، ونؤمن به كما هو، لا كما نشتهي، أو كما يشتهي حكامنا، أو بعض بني جلدتنا. فما وجدناه في الدين ثابتا واضحا فنحن نؤمن به ونقول به، وما ليس فيه ثابتا وواضحا فنحن متنازلون عنه.
وثانيا: سوء الاستخدام لا ينجو منه دين ولا مبدأ جميل. أليس الاستبداد عندنا يتم باسم الديمقراطية، ويَقتُل باسم الديمقراطية؟! أليست الإعدامات في مصر وغيرها تصدر باسم العدالة وباسم الشعب؟! أليس الغزو الأوروبي قد جاءنا أولا باسم الدين والصليب، ثم جاءنا وما زال فينا باسم الحداثة والحضارة؟ أليس عدد من الدول الإسلامية تم غزوها باسم الأمن ومجلس الأمن الدولي؟!
وثالثا: الاستخدام المتطرف والدموي للإسلام يمارسه أو يؤمن به بضعة آلاف شاب من أصل مليار ونصف مليار مسلم.
ورابعا: ها هي المسيحية قد تركت الدنيا كلها والسياسة كلها لقيصر، وانحصرت -زعموا- في الكنائس، فلماذا المسيحيون يقتلون المسلمين في مختلف القارات، مع أن جيوش دولهم تملأ القارات والمحيطات وتتحكم في كافة دولنا ومجتمعاتنا، وتغنيهم عن القتل باسم المسيح؟
حفظ الله شيخنا الفاضل-فخر المغرب-ونفعنا بعلمه ..