صحتنا على ضوء الهدي النبوي في الأكل – الحبيب عكي
من المعروف أن أكلنا المعاصر، رغم وجوده ووفرته وتنوعه وغناه – والحمد لله -، فهو لا يشكل مصدر صحة وأمن وسعادة بالنسبة للكثيرين، بل بالعكس يشكل مصدر خطورة ومرض وقلق وتعاسة لمن أدمنوه وشرهوه، لدرجة يستعبد فيها الكثيرين ممن يفرطون فيه ويزج بهم في العديد من متاهات المستشفيات والمصحات.. والمواعيد والتحاليل.. والوصفات الطبية وأكياس تلو أكياس من الأدوية ومضاعفاتها الجانبية مقابل بعض الجدوى أحيانا أو عدمها، وصفات لأمراض نفسية وعضوية عابرة ومزمنة، الواحد منها جدع مشترك للعديد من الأمراض المرتبطة والمتلازمة، كالبدانة شراهة قد تسبب السكري.. فالضغط الدموي.. فالقلب والشرايين.. فمرض الكلى.. فشبكة العين.. فالقدم السكري.. ولازالت منظمة الصحة العالمية ترفع شعار: “غذاؤك دواؤك” دون جدوى.
ما لم يكن فيما مضى من القرون رغم ما كانت تعرف به من شدة الحروب والمجاعة والفقر والأوبئة، لكن الحياة خلالها كانت بسيطة وكذلك عيشها، كانت هناك حضارات وكانت لها قيم وعادات صحية في الأكل والشرب والحركة، فحضارة الرومان مثلا، وما كانت تعرف به من الرياضات وصراع الأبطال، تجاوز صراع الإنسان ضد الإنسان إلى صراع الإنسان ضد الخوارق والآلهة، وهو على كل حال دليل على أهمية الحركة والقوة البدنية في تلك الحضارة. كذلك الحضارة الإسلامية كان تراثها في الموضوع أغنى وأرقى وأنقى وأبقى، انطلاقا من الهدي النبوي في الأكل والشرب والحركة التعبدية التي كان يقتدي بها المسلمون. أضف إلى ذلك نمط حياتهم الفلاحية والرعوية وما كانت تكلفهم من المشي والتنقل وحرق الدهون والطاقة، وكل ذلك ساهم في حفظ صحتهم النفسية والجسدية على الدوام في طاعة الله.
واليوم، والبشرية تعاني في موضوع الأكل أشد المعاناة، بين الجياع من جهة والمتخمين من جهة أخرى، وتعاني مع ممن يجد كثرة الأكل والاستهلاك مع الخمول وقلة أو انعدام الحركة وحرق الطاقة، ما يرمي بضحاياه ويسوقهم إلى ما لا يتحملونه من الأمراض العضوية والنفسية وهم بالملايين تلو الملايين، فلماذا لا يجربون الهدي النبوي في الموضوع وقد كان هديا صحيا ناجحا فيه الوقاية والعلاج وفيه المتعة والفائدة، وفوق ذلك يحرر أصحابه من عصابات المصحات ولوبيات الصيدليات وفوبيا الأدوية والعلاجات.
صحيح، أن السنة النبوية فيها التعبدي الصرف ونحن ملزمون به ما استطعنا، وفيها الذاتي الخاص برسول الله (ص) بكونه بشرا قد يعجبه أمر أو لا يعجبه، وقد يقدم على اختيار أو يتركه، والآخرون غير مجبرون على ذلك، فما بالك والأمر هنا يتعلق اليوم بالأكل والشرب واللباس وكلها تعمل فيها عوامل الزمان والمكان والذوق والإمكان عملها.
وفوق أن الاقتداء بالرسول (ص) واجب في الأمور التعبدية ومستحب في غيرها من أمور العادات البشرية، إلا أن هناك قواعد عامة في الأكل والشرب واللباس وغيرها من العادات، هي من عقيدة المسلم وعبادته التي ينبغي أن يفقهها ويهتدي بها ومن ذلك:
1- لماذا الأكل في الإسلام؟، أي أكل؟، متى وكيف؟
2- ماذا نشرب في الإسلام؟ وبأية أداب؟
3- ماذا يقول العلم الحديث في هدي الإسلام وفي غيره؟
4- ما فائدة ما يسود الأسواق من المواد الحافظة والمنكهات؟
5- أي نموذج للتغذية أطيب للإنسان المعاصر، في خضم سرعته وازدحامه وتفكك العديد من عاداته؟
وفي معرض استعراضنا لبعض الهدي في الموضوع، يؤكد علماء السيرة وفقهاء الآداب أن الرسول (ص):
1- كان (ص) يأكل فائدة ومتعة.. ويأكل صحة ووقاية.
2- كان يأكل ويشرب جالسا ويحرص على التسمية والتيامن وغسل اليدين قبل وبعد.
3- يحب التقليل ويأكل حاجة لا كفاية ولا زيادة ” بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه”.
4- لا يحب إدخال الطعام على الطعام “نحن قوم لا نأكل حتى نجوع وإذا أكلنا لا نشبع”.
5- يوازن بين أنواع الأكل “الحار(يعني الساخن 50%) والبارد (أيضا 50%)” من هنا أهمية المقدمات والمحليات.
6- يوازن أيضا بين مكونات الأكل من طعام وماء وهواء ” فإن كان لابد فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه “.
7- يكثر الصيام خاصة الإثنين والخميس، و في الصيام يعجل بالفطور بالتمر والماء ويأخر السحور لما فيه من البركة.
8- ويحرص(ص)على الأكل الجماعي والدعاء فبله والحمد بعده، وعلى تبادل الحديث بدل ما قد يسود من الصمت الآن.
9- وروي عنه (ص) أنه كان يحب في شرابه الحلو البارد.. ومن الفواكه الرمان.. والتين.. والتمر.. والبطيخ.. ومن الأشربة العسل والماء.. اللبن.. والخل.. ومن الخضر الدباء.. القثاء.. والبصل.. ومن اللحوم الأرنب.. والدجاج والكتف والعرق (العظم الذي خف منه لحمه).. ومن الأكلات الحلوى و الثريد.. وقد رويت في كل هذا أحاديث.
وبالإضافة إلى ضرورة أن يكون الأكل والشراب من الحلال، فهذه قواعد عامة تضمن صحة المرء بقدر ما يحترمها ويحافظ عليها، وهو الشيء الذي تحاول الحياة المعاصرة بسرعتها وتوترها – مع الأسف – سلبه من الإنسان بدعوى ودعوى.. بل بدعاوي كثيرا ما تنطلي على أقوام غافلين وأجيال مكرهين. لكن، يتساءل المتسائلون، أي صحة توفرها لنا الحياة المعاصرة بما يسود فيها من مظاهر غريبة تهلك الصحة والنفسية معا ومنها:
- استغراب الحلال.
- كثرة الأكل والإسراف فيه.
- كثرة الخمول و قلة الحركة.
- كثرة التوتر والتوتر المجاني.
- الخلط بين الحلال والحرام وعدم التحري.
- إدماج الخنزير في بعض الأكلات والمحلات.
- تعود الأكل الانفرادي وربمــا ولو في المنزل.
- المواد الحافظة والمحليات والمنكهات والملونات.
- غزو المعلبات و الأكلات الطاقية السريعة في الشارع.
- طبخ غير صحي في أواني غير صحية قد تحدث التسمم ولو على المدى.
فلماذا لا نساعد أنفسنا على حفظ صحتنا ما أمكن؟، لماذا نرتاد على الأطباء ونرغبهم على نذرتهم وطول مواعيدهم و وصفاتهم وكثرة تكاليفهم وتكاليفها، ولا نخلوا بأنفسنا وأبنائنا وأسرنا ونلزمها.. بل فقط نبصرها بشيء من الوعي الصحي، نعودها شيئا من الصبر والقناعة وفيها الكثير من الصحة والأمن والسلامة والحياة الماتعة. هل مكتوب علينا كل هذا الشقاء المعاصر باسم الحداثة والرفاهية، وهي كالسم في العسل والهلاك في التخمة، ألا نستطيع تحرير أنفسنا وأجيالنا وأوطان أمتنا بشيء اسمه الطب الوقائي؟ بشيء اسمه إدماج الهدي النبوي في طعامنا وشرابنا ولباسنا وعاداتنا..، فكم نحتاج من أصحاب برامج الطبخ التلفزي والرقمي والتنافسي أن يقدموا لنا وصفات صحية من بيت النبوة؟ وكم نحتاج من تعليم نشئنا أن ميلهم لاستبدال أكل البيت بأكل الشارع هو استبدال الذي هو خير بالذي هو غير ذلك؟ وكم نحتاج من فلاحينا ومنتجينا وموزعينا لينتجوا لنا مواد طبيعية صحية (Bio) ويثمنوها بدل الهجين المعدل من المشهر له؟ وكم نحتاج من أسرنا إلى الحرص على أصالتها الغذائية والإطعاميه إنتاجا و طبخا، تخزينا وطقسا، مائدة وفائدة؟
يقال أن الماء غير الصحي وحده يسبب في 80% من الأمراض يذهب ضحيتها سنويا حوالي 20 ملايين من الناس، وسنخفف منها بقدر ما سنخفف من معضلة الماء وحده، أضف إلى ذلك معضلة تلوث البيئة المتفاقمة الآن، فمعضلة الطعام وفرة وجودة وعدالة توزيع وإمكان توفير وتناسب أسعار وقيم استهلاك. ألم يقولوا قديما: “المعدة بيت الداء.. والحمية رأس الدواء”، وألم يقولوا حديثا: ” غذاؤك دواؤك” و”درهم وقاية خير من قنطار علاج”؟