الغش في الامتحان فرصة للنجاح أم ورطة في المهانة؟ – الحبيب عكي
رغم كل الجهد المبذول في محاربة الغش في الامتحانات والمباريات، فإن الظاهرة المشينة لا تزال تقض مضجع كل المراقبين والتربويين والإداريين، بما ساءت وتسيء إلى منظومتنا التربوية وقيمها الاشهادية، وتوضع فيها كل ظروف الإنتاج وجهود الإصلاح موضع التساؤل والتساؤل المحرج، والذي ولا شك تطال كل مخرجاته السيئة كل مجالات القيم الفردية والجماعية وكل مجالات الحياة المدرسية والمجتمعية. لماذا لازال التلميذ / الطالب / الموظف.. يقدم على الغش في الامتحانات والمباريات والترقيات؟ لماذا يفقد الثقة في ما عنده من المعارف ومهارات التحليل والتفكيك والتركيب ويضعها في ما عند غيره مما يظنه يسعفه ولو بتمسك غريق بغريق؟ لماذا يتحدى القوانين المجرمة للظاهرة ويصر على ممارستها رغم أنف المراقبين أو على الأقل يكون مستعدا لذلك ولا يحول بينه وبينها إلا مدى تغاضي هؤلاء المراقبين وغضهم لبعض الطرف ؟
لماذا يرى بعض الناس – تلميذا وأسرة ومدرسة – في الغش فرصة للنجاح؟ لماذا يصرون على هذا النجاح بأي ثمن وبأقل جهد ممكن أو حتى بدونه على الإطلاق، إلى درجة قد يقدم التلميذ على امتحان لم يعد له حرفا، وسنة بعد أخرى؟ لماذا قد يتغاضى بعض المراقبين عن أداء واجب ما يكلفون به من المراقبة داخل فضاء الامتحان؟ أية ضمانات قانونية وضعت لهم من أجل ذلك، وهم الذين يعرضون أنفسهم لمخاطر وتهديدات الانتقام ممن يعتبرون أنفسهم ضحايا الحراسة المشددة وكأنها تحرمهم من حق مكتسب؟ لماذا بعض المدارس تشجع على ممارسة الظاهرة تفلتا من المحاسبة وإكراه عتبة النجاح، وتفاديا لتراكم التلاميذ السيء السمعة الذين يفسدون في المؤسسة ولا يدرسون؟؟ أين قيم الأسرة التي من المفروض أنها تربي أبنائها على حرمة الغش وضرورة بذل الجهد لكل نجاح؟ أم أن شلة الأقران وثقافة الشارع قد تغلبت على الجميع، فإذا العبقري عندهم هو الغشاش، وإذا المرشح الفائز هو الراشي، وإذا المسؤول الذي يتسلق سلم الترقى بسهولة هو الذي يعاكس بخبث ومكر ودهاء حق المواطن في أغراضه ويصادر إرادته في الحرية والكرامة دون محاسبة، وكلها شكل من أشكال الغش والفساد.
يحكي ضجيج الأرقام أن الدولة قد تخسر تنمويا واقتصاديا أخلاقيا وديمقراطيا..، إلى حوالي 5 % من الناتج المحلي الخام نتيجة الفساد، بما يعادل 5 ملايير دولار سنويا، وتظل تحتل المراتب المتأخرة نسبيا في الشفافية ومحاربة الفساد عالميا، رغم توفرها على ترسانة قانونية وهيئات محاربة ولكنها غير كافية وغير فعالة، وربما كانت هناك بنيات مجتمعية فاسدة لا يحميها غير القانون ذاته كما يقال في(أسعار المحروقات نموذجا)، وبذلك يخسر البلد من مصداقيته وسمعته أمام شعوب العالم وأما شعبه الذي يفقد المصداقية والثقة في كل شيء ولا يتعبء أو يتحمس لأي شيء، وقبل ذلك يفقد المرء على موارد الغش من إيمانه ودينه مع خالقه وهو الأخطر، الشعور بالمهانة و وخز الضمير، وقد يتحجج المتحججون أن الأمور ليست بهذه القتامة في التعليم خاصة، وأن التلاميذ لا يزالون ينجحون بمعدلات ونسب مرتفعة ( 80%) وأن تلاميذ آخرون يفوز بمباريات دولية في المواد العلمية، ولكن جلهم لا يفوز كما أن جل شهاداتنا غير مقبولة عند الدول الأخرى ويضطر أصحابها لإعادة دراستهم من الصفر حتى يجدوا لهم فرصة عمل وإقامة في دول المهجر، ليصبح الأمر في صورته كصورة قسم فيه تلميذ أو تلميذين حصلا على نقط جيدة وربما كاملة، وسط ركام من زملائهم بنقط مجملها تحت المعدل.
إن الغش في الامتحان غش وليس حقا مكتسبا ولا فرصة، اللهم إذا كان نحو الكذب والسرقة.. والفساد وخيانة الأمانة، وفي ذلك كله تأنيب الضمير وإهانة الذات وقيم المجتمع ما بعده تأنيب وإهانة، في ذلك كل صور الأنانية والوصولية والاتكالية والاضطراب والضبابية..، وعن ذلك تنتج نفس كل هذه القيم الهدامة في المجتمع، وبسببها تتفشى فظاعة الرشوة و الزبونية والإخلال بالواجب والمسؤولية، والهروب من العمل إلى المقاهي أو عدم الالتحاق به أصلا (موظفون وموظفات أشباح)، والموظف المبني على الغش هو السبب في عرقلة الاستثمارات التي يستثمر فيها على ظهر أصحابها، المماطل في قضاء أغراض المواطن إلا بواسطة، هو مصدر كهربة الإدارة و سبب العمليات الطبية الفاشلة، وتصاميم العمارات الساقطة، وبلطجة إفساد الانتخابات ودخول غير المؤهلين فيها بدون رؤى تدبيرية ولا تنموية، الغشاشون هم حثالة مشاريع عصابات التهريب والإرهاب والهجرة والدعارة والمخدرات و غيرها مما يستثمر في مآسي المجتمع وفقره ويأسه؟
غير أن هذه الآفة المدمرة في الحقيقة معقدة، وليست مسؤولية التلميذ/الطالب/الموظف وحده مهما تحملها، ولكن يمكن محاربتها والحد منها بشكل كبير، كلما تضافرت جهود جميع الأطراف واستثمرت عائدات كل المداخل، بشكل إرادي قوي مستمر ومنهجي، وقائي وعلاجي.. زجري وعقابي، ومن ذلك:
بدء من الأسرة، وما ينبغي أن تربي عليه أبناؤها من قيم الصدق والمراقبة والاجتهاد والأمانة..، وغير ذلك مما ينبغي أن يتشبع به الآباء والأبناء في تعايشهم اليومي قولا وممارسة فردية وجماعية.
إلى المدرسة التي ينبغي أن تتشبع فيها الأجيال على الدوام بقيم التنافس الشريف وتكافؤ الفرص وجودة التعلمات منهجيات وبيداغوجيات.. مواثيق ومذكرات.. أطر تربوية وإدارية.. أنشطة صفية وموازية، لا يكون لها من المصداقية (تدابير أولية أو قانون الإطار) إلا بقدر ما تؤهل التلميذ وتسعفه عند الحاجة وتنقذه من السقوط في رذيلة الغش في حياة المدرسة ومدرسة الحياة عامة.
إلى التلميذ، الذي ينبغي أن تكون له من قوة الشخصية ما يلزم، ومن المبدئية ما ينبغي، ومن حب الدراسة ومنهجيتها، من سنة ربط النجاح ببذل الجهد والتوكل على الله والرضا بقدره وما ينبغي من شيم الإحلال والإخلال، من معرفة الخطأ من الصواب والحلال من الحرام وتجنبه، من اللون والطعم والرائحة ما أنقى وأبهى وأبقى، من الثقة في النفس وعدم الذوبان في الآخرين، خاصة عند الخطأ والانحراف عملا بقولهم:”دير راسك بين الريوس وعيط يا قطاع الريوس”، كان الناس يكفرون ويعربدون والمؤمنون يوحدون ويعذبون(أحد..أحد)، فالبطولة أن تستقيم إذا انحرف الناس وأن تصلح إذا أفسدوا..، وفي الحديث: “لا يكُنْ أحَدُكمْ إمَّعَة، يقول: أنا مع الناس، إن أحْسنَ الناسُ أحسنتُ، وإن أساؤوا أسأتُ، ولكن وَطِّنُوا أنفسكم إن أحسنَ الناسُ أن تُحْسِنُوا، وإن أساؤوا أن لا تَظلِمُوا”. رواه الترمذي عن ابن مسعود.
إلى السياسات العمومية، التي لا يغني تعاقب حكوماتها وبريق شعاراتها في شيء ما لم تضيق برامجها وممارساتها الخناق على الريع والفساد..، ما لم توفر للمواطنين الفرص التي من حقهم، وتضمن لهم حق الولوج إليها عن جدارة واستحقاق، حتى يدرك الجميع واقعا وممارسة.. متابعة ومحاسبة، أن فرصته تنتظره وليست مستحيلة، ويقترب منها أو يبتعد بقدر ما يقترب أو يبتعد من القيم والكفاءة، لذا فلا ملجأ من الصدق والاستقامة والكفاءة والاستحقاق إلا إليهما.
إلى جمعيات المجتمع المدني وعلى رأسها جمعيات آباء وأولياء التلاميذ والجمعيات المهتمة بالقطاع وبالنشء والأسرة والمدرسة عموما، أين جهودها في الدعم والتقوية، في تدريب النشء على مهارات إدارة الأزمات واتخاذ القرارات واقتحام العقبات ورفع التحديات وكسب الرهانات وقبلها تصحيح التصورات والتصرفات التي يعتبر بعضها الغش حق مكتسب ما دام يستشري في المجتمع بمختلف الأشكال وعند جميع الفئات، وهذا خطأ لا يقر به لا الشرع ولا القانون، أين جهود هذه الجمعيات وحرصها على التأهيل النفسي للتلاميذ قبل الامتحانات. وإعدادهم ومرافقتهم خلال المباريات، وإلى أي حد مؤسساتنا قبلها منفتحة على هذا أو جمعياتنا شريكة فيه مقبلة عليه.
إلى سياسة العقوبات الزجرية الصارمة، فتطبيق القوانين المحاربة للغش في السنوات الأخيرة أدى إلى تناقص الظاهرة ومحاصرتها بشكل ملفت، ربما إلى 50 % خاصة بعد 2016، ولكن ما حدث ويحدث بعدها من الاصطدام والتراخي والتأويل.. والفلسفة المغرضة ربما، أدى إلى استئناف عودة الظاهرة وانتشارها وتطورها وتحورها، لذا لا مناص من العودة إلى تطبيق القانون بشكل صارم، وعلى جميع الأطراف المتورطين، وبالموازاة الدائمة والقوية مع المداخل الأخرى السالفة الذكر من تأهيل وتجويد وسياسة عمومية شفافة وفرصة لكل مجتهد..غير متخاطف حولها، مفاهيم متسعة ومتطورة من الغش، حراسة مشددة، كاشف التقنيات المتطورة، تقارير الضبط وطرد مباشر، أصفار تأديبية موجبة للسقوط، غرامات مالية باهضة بين 5 ألاف و100 ألف درهم، حرمان من الامتحان لدورات، سجن لأشهر وسنوات..، ترسانة قانونية جيدة ومسعفة مؤسسة وبانية لحاجة الفرد والمجتمع من قيم النزاهة والشفافية والعدل والمساواة والكفاءة والاستحقاق وما تستوجبه من قيم الحكامة و ربط المسؤولية بالمحاسبة، ولكن لا فائدة منها إذا افتقدت إلى إرادة التفعيل أو القدرة عليه أو التهرب منه أو الانتقاء فيه أو تجريدها من دواعمها الأساسية، لأن قربنا أو بعدنا من التحكم في ظاهرة الغش ومحاربتها الدائمة والمستمرة لا تقاس إلا بمدى هذه الشمولية والتكامل في الوسائل القوية والفعالة وضمنها المرة والمكلفة ولكنها ضرورية ضرورة الوقاية قبل العلاج، وحتى عند العلاج فقديما قيل:”الطفيليات من جذورها تجتث.. والأورام الخبيثة من بوادرها تستأصل.. وآخر الدواء الكي.. آخر الدواء الكي..”.