مراتب أعمال المسلم
الحمد لله رب العالمين
نحمده تعالى ونستغفره ونستهديه ونصلي ونسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين
أما بعد،
إن البشر مختلفون، كل واحد منهم أعطاه الله عز وجل ما يجعله متميزا عن الآخرين، فالاختلاف سنة ولذلك خلقهم، والحقيقة الثانية أن هذا الاختلاف منوط بالابتلاء والاختبار “الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا”، والابتلاء والاختبار لا يكون إلا فيما أعطاك الله إياه لا يمكن أن يسال الفقير عن المال ولن يسأل المريض عن الصحة، فالله يسألنا فيما أعطانا ومكننا فيه، طبعا في حدود الاستطاعة والطاقة.
هذا الكلام الذي بدأت به يدخل في موضوع تحدث فيه العلماء وهو مراتب الأعمال أو فقه مراتب الأعمال، العلم بفضائل الأعمال وفضلوها العلم بأرجح الأعمال ومرجوحها، فإذا كانت الأعمال التي نأتيها طاعة لله عز وجل فينبغي للمسلم أن يعرف أيهما أحب إلى الله وأكثرها أجرا وثوابا، وإذا كانت الأعمال التي قد يقع فيها الإنسان فيها معصية لله فيعلم أيها أبغض إلى الله وأكثرها وزرا، والذين يتحدثون في موضوع مراتب الأعمال والترجيح بين الفاضل والمفضول ينطلقون من قوله تعالى “أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين”.
إن ما تحدث عنه الذين سبقونا في هذا الموضوع وضعوا له عنوانا سموه “غرور أرباب الأموال”، صاحب المال الذي أعطاه الله المال هو كمثال فقط لنعم الله عز وجل قد يغتر هذا الذي أعطاه الله حظا من الله وزاده الله بسطة في المال فيعتقد أن مدخله للجنة ونيله لثواب الله عز وجل إنما يكون باشتغاله بأمور العبادات التي لا تحتاج إلى نفقة كالصيام النافلة والصلاة النافلة وختم القران وهو فيه شرة البخل متأصلة فيه وهذا البخل إذا استولى على الإنسان يحتاج إلى ما يقمعه وقمع البخل بإخراج المال، فالبخل لا يخرج بالصلاة وقراءة القران فهذه تساعد فقط، لكن قمع البخل في الإنسان إنما يأتي عن طريق إخراجه وإنفاقه والتصدق به، قيل لبشر إن فلانا غنيا كثير الصلاة وكثير الصيام، فقال بشر : مسكين ترك حاله ودخل في حال غيره، فحال هذا الرجل هو إطعام الطعام للجائع وإنفاقه على المساكين أفضل من تجويع نفسه ومن صلاته لنفسه، فهذا الذي يبخل إنما يجمع لدنياه ويمنع الفقراء مما أعطاه الله، حال هذا الرجل إلى جانب ما فرضه الله من صلاة وصيام وغيره أفضل له هو أن ينفق ويعبد الله في هذا المال الذي أعطاه الله سبحانه وتعالى، وفي نفس السياق يروي أبو نصر التمار رحمه الله يذكر أن رجلا جاء إلى بشر يستأذنه في الحج قال له عزمت هذا العام أن أحج إلى بيت الله الحرام وقد سبق له أن حج مرات عديدة، قال له كم أعددت لهذه الرحلة؟ فقال له ألفي درهم، قال ما الذي تبتغيه من هذا الحج؟ أتبتغي تزهدا اشتياقا لبيت الله الحرام أم مرضاة لله تعالى، قال له أكيد مرضاة الله، فقال له أدلك على أمر تبتغي به مرضاة الله وأنت في بيتك، فقال له كيف؟ قال أن تعطي ألفي درهم لعشرة أنفس تبتغي بها مرضاة الله، تعطيها لمديون يقضي بها دينه، تعطيها لفقير يرم شعته، تعطيها لمعيل ليعيل عياه، تعطيها لمربية يفرحه، إدخالك السرور على قلب المسلم وإغاثة اللهفان وكشف الضر وإعانة الضعيف أفضل لك من مئة حجة بعد حجة الإسلام، فلو نظرنا لوجدنا أن هناك مجالات أخرى فيها الأجر الكبير والكثير عند الله سبحانه وتعالى.
وفي نفس السياق وفي موضوع أصحاب الأموال، فهناك من يغتر بحضور مجالس الذكر ويقول هذه المجالس تغنيني وتكفيني وفضل الذكر عند الله عز وجل تحفها الملائكة وتغشاها الرحمة وهم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم وينسى وظيفته الأصلية هو أن المجلس إنما يذكرك ويحدث فيك الدافعية لأن تكون عاملا وعابدا لله سبحانه وتعالى. هذه المجالس ما مقصدها وما هدفها؟ طبعا مقصدها هو أنها ترغب في الخير وتهيج فيك الرغبة في العمل لكن إن ضعفت هذه المجالس على حمل الفرد على العمل فلا خير فيها، فنحن اليوم نسمع كلام الواعظ وكلام الخطيب ونشعر برقة وربما تذرف العيون ونشعر بأشياء وأحوال تتغير لكن السلوك والمعاملة لا يحصل فيها أي شيء، كحال المريض الذي يحضر مجالس الأطباء فلا ينتفع، وكحال الجائع الذي يحضر من يصف له المأكولات اللذيذة دون أن يعطيه شيء، فهذا حال هذا الذي يحضر مجالس الذكر ولا ينتفع بها كمن وصف الطاعات ولا يعمل بها .
وهذا يدخل في مراتب الأعمال التي أعطاه الله لكل واحد منا من خيره وفضله ما يجعلك مقدما للعمل الذي ميزك به عن غيرك، وأعضد هذا الكلام بحديث ورد في صحيح مسلم في كتاب الصلاة باب القراءة في العشاء حديث النواضح، كان معاذ رضي الله عنه يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم ويأتي إلى قومه فيأم الناس لصلاة العشاء فدخل فافتتح الصلاة بالفاتحة ثم بالبقرة، فأحد الذين كانوا يصلون خلفه انحرف من الصف وأتم صلاته وانصرف، فاتهم الرجل بالنفاق فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكي له الحال، فقال له اتهمت بالنفاق وإن صاحبك معاذ صلى بنا البقرة، ثم قال إننا أصحاب النواضح نعمل بالنهار، أي نحن أصحاب بيع وشراء والتجارة، وأصحاب عمل وتعب لا نستطيع تطويل الصلاة فنادى النبي على معاذ وقال له : أفتان أنت يا معاذ؟ إذا أممت بالناس فخفف فإن فيهم الضعيف والسقيم وذو الحاجة، وهذا من أصحاب الحاجات هذا الرجل أعطاه الله هذه الميزة أنه من أصحاب النواضح، أعطاه قدرة على العمل والسعي والكد، وجعلنا الليل لباسا والنهار معاشا، فلا يمكن أن نشغل الرجل بأمور هي من النافلة فتقعده عن الواجب وعن الضروري الذي هو السعي في العمل والسير في مناكب الأرض “فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض” هذا مقصد من مقاصد هذه الأمور التي نتكلم عليها.
واختم ببعض الأحاديث، فقد كان النبي صلى اله عليه وسلم دائما ينظر إلى أصحابه من خلال نقطة قوتهم والأمور التي يمكن أن يستثمروا فيها طاعتهم وعبادتهم وسلوكهم ومعاشرتهم لخلق الله عز وجل، فهذا أجش بن قيس كان سيدا في قومه فلما أسلم ونظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم قال يا أجش إن فيك خصلتين يحبهما الله الحلم والأناة، فالنبي لم ينظر إلى صلاته وإلى شهادته وصيامه وإنما نظر إلى أن هذا الرجل إلى سيد قومه وسيد القوم يحتاج إلى صفات تعينه على تدبير سيادته على قومه، يحتاج إلى الحلم والى الأناة، ويذكر الإمام الغزالي في الأحياء قولا لأبي قداسة رضي الله عنه أنه دخل المسجد فوجد رجلا يمسك رأسه بيديه فقال ما بك يا رجل قال: يا أمام ديون غلبتي وهموم ومشاكل، فقال له الحل ليس أن تبقى في المسجد، لئن أراك تطلب معاشك أحب إلي من ان أراك في زاوية المسجد، المسجد لم يجعل لهذا فأوقاته معدودة ومحدودة، فللصلوات الخمس أوقات محددة وبين الصبح والظهر أوقات وساعات طويلة، وكذلك بين الظهر والعصر، فما الذي نفعله بين هذه الصلوات؟ السعي في الأرض وأن تستثمر ما أعطاك الله من قوة البذل للعمل والعطاء كما جاء في الحديث الذي أشار فيه النبي للرجل يذهب إلى الغابة ويحتطب ويبيع ويشتري، وهذا عبد الرحمان بن عوف عندما هاجر من مكة إلى المدينة فقال دلني على السوق انأ صاحب حرفة وأبيع واشتري وعندي مهارة في البيع والتجارة حتى أصبح من أثرياء المسلمين، والحديث الآخر الذي قال فيه سيدنا محمد يطلع عليكم رجل من أهل الجنة ولما تبينوا الأمر وجدوا أن الرجل لم يأت الشيء الكثير يفضل به عن بقية أصحابه لكن الله أعطاه قلبا صفيا نقيا فلا يحقد على أحد ولا يضمر حقدا لأحد ولا ضغينة لأحد بل أكرمه الله بنعمة المسامحة يسامح حتى من أساء إليه.
ونحن كآباء إذا أحسنا تربية أبنائنا وبناتنا وكانت لدينا مهارة وقدرة في تربيتهم فهي صدقة جارية عند الله تعالى، فكل واحد فينا أعطاه الله مما يمكن أن يكون نقطة قوته في هذه الحياة كما جاء في الحديث (من كانت له ثلاث بنات فصبر عليهن وسقاهن وكساهن كن له حجابا من نار)، والتاجر الصدوق ليس له جزاء إلا الجنة، كذلك من أعطاه الله قدرة في التدبير والتنظيم والتخطيط ومن أعطاه قدرة على أن يخدم الناس، فهي كلها مداخل ونقط وعلينا أن نبحث عنها وكل واحد منا ميزه الله بها عن غيره، وقد كتب أحدهم كتابا اسماه “النبي باسما” عدد فيه ابتسامات النبي صلى الله عليه وسلم والمواطن التي كان يضحك فيها ويبتسم، فهذا جانب قد يعطيك الله إياه منة فتوظفه وتستثمره في علاقتك مع غيرك.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
د. صالح النشاط / سلسلة تبصرة
(هذا النص تم تفريغه)