منزلة الإنابة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه به ونومن به ونتوكل عليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعملنا من يهدي الله فلا مضل له ومن يهدي فلا مضل له، واشهد ألا اله إلا الله وحده لا شريك له واشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل على هذا النبي وعلى اله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
إخواني أخواتي اخترت فاتحة لهذا اللقاء المبارك الحديث في منزلة من منازل الإيمان، منزلة من منازل الطريق إلى الله عز وجل، منزلة تدفع مخاطر السير إليه عز وجل وتسهل اجتيازه واجتياز عقباته، وتيسر قطع فلواته، فالطريق موحش لا محالة والعقبة كؤود كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا منجاة إلا بزاد الإيمان، اخترت لكم منزلة الإنابة وقد وردت الإنابة بصيغ ومشتقات مختلفة في القران الكريم بلغ عددها 18مرة، وردت في صيغ الأمر ووردت في سياق الإخبار ووردت في سياق الوصف والثناء.
والإنابة كما تحدث عنها علماء التزكية لغة من أناب ينيب فهو منيب، أي أقبل وأسرع ورجع كما يقول ابن الأثير، وبذلك تكون الإنابة هي الإسراع والتقدم، ونقول أناب إلى الله أي رجع إليه بسرعة، وهذا هو السر في هذه الكلمة، وهو الرجوع بسرعة، واصطلاحا كما عند ابن القيم : هي الإسراع إلى مرضاة الله عز وجل مع الرجوع إليه في كل وقت وعند الزمخشري أناب : أقبل إلى الحق وحقيقته الدخول في نوبة الخير، إنها رجوع دائم إلى الله عز وجل وإقبال على الخير، إنها الرجوع إلى الكل إلى من له الكل، إنها الرجوع من الغفلة إلى الذكر، ومن الوحشة إلى الأنس، إنها رجوع دائم إلى الله وهي من ألطف المنازل كما اجمع من ذلك عدد من المربين على رأسهم ابن القيم رحمه الله وهي أخص من التوبة فهناك فرق كبير بين التوبة والإنابة لأن التوبة قد تأتي من معتذر إلى ربه عز وجل من ذنب ارتكبه وقد تكون على التراخي وتأتي على مراحل، ولكن الإنابة هي رجوع فيه سرعة وحبة وشوق، إذ المنيب يكون عابدا محبا حتى ذا زل أو شرد وغفل يأسف فيعود سريعا إلى مكان عليه، لأنه قبل هذه الزلة أو قبل هذه الغفلة يكون قد تذوق وقد اشتاق وقد أحب ويكون في منزلة من منازل القرب من الله ولكن لأنه إنسان ولأنه بشر قد تأتيه هذه الغفلة التي لا يسلم منها أحد من الناس، ولكن ما أن يزل، وما أن يكبو حتى يؤوب إلى الله وينوب إليه على عجل.
إذ المنيب يكون عابدا محبا حتى إذا زل أو شرد أو غفل يأسف فيعود سريعا إلى ما كان عليه، إنه يتذكر حبه له عز وجل فيستحي منه ويحن شوقا إليه وينيب إليه أي يعود على وجه السرعة ولسان حاله يقول :”وعجلت إليك ربي لترضى”، والإنابة كما قسمه علماء التربية إنابتين، خاصة وعامة : الإنابة الأولى يستوي فيها كل البشر من دون استثناء مؤمنهم وكافهم عالمهم وفاجرهم، يترجمه ضعف هذا الإنسان وافتقاره إلى الله عز وجل واضطراره الدائم إليه، قال تعالى :” وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه”، يقول الشهيد رحمه الله وهو يتفيأ ظلال هذه الآية:”إن فطرة الإنسان تبرز عالية حينما يمسه الضر ويسقط عنها الركام وتزول عنه الحجب وتتكشف عنها الأوهام فتتجه إلى ربها وتنيب إليه وحده وهي تشعر أنه لا يكشف الضر غيره وتعلم كذب من تدعي شركاء وشفعاء، فأما حين يذهب الضر ويأتي الرخاء ويخوله الله نعمة منه ويرفع عنه البلاء فإن هذا الإنسان الذي تعرت فطرته عند مس الضر يعود فيضع عليها الركام من جديد، وينسى تضرعه وإنابته وتوحيده لربه وتطلعه إليه في المحنة وحده ينسى هذا كله ويجعل لله أندادا، هذا ما قلت له صلة بالإنابة الأولى، هي إنابة ولكنها إنابة حاجة واضطرار فالإنسان بطبيعته وجبلته وبفطرته وشعوره بالافتقار ينوب إلى الله تعالى، قال عز وجل :”إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا”.
ونحن لا نقلل من قيمة هذه الإنابة ولا من قدرها وهذا الافتقار إلى الله عز وجل، إلا أن هذه الإنابة لا فضل للإنسان فيها، لأنها من طبيعة افتقاره إلى الله وقد يعود إلى ما كان عليه إذا رفعت عنه الشدة قال الله تعالى :”وإذا مس النار ضر دعوا ربهم منيبين إليه ثم إذا أذاقهم منه رحمة إذا فريق منهم بربهم يشركون ليكفروا بما أتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون”، إنها إنابة ربوبية، يشترك فيها كل الخلق تبعا لافتقارهم إلى الله ولضعفه ولحاجتهم إلى الله عز وجل.
أما الإنابة الثانية فإنابة ألوهية وتتضمن أربعة أمور : محبته عز وجل، والخضوع إليه والإقبال عليه والإعراض عمن سواه، وبذلك لا يستحق صفة المنيب إلا من اجتمعت فيه هذه الأربع، إنها إنابة عبودية ومحبة أن تعبد الله مؤمنا به وترجوه وأنت راغب فيما عنده دونما اضطرار أو إكراه بل تعبده وأنت محب له عز وجل، وإنما تقوى محبة الله بشيئين اثنين :
أولا إخراج حب غير الله من القلب، فبقدر ما يؤنس القلب بالدنيا ينقص أنسه بالله.
ثانيا قوة معرفة الله فإذا حصلت المعرفة تبعتها المحبة ولا يوصل إلى هذه المعرفة إلا بعد انقطاع شواغل الدنيا من القلب.
ومن علامات الإنابة :
1 – الخروج من التبعات وذلك بالابتعاد عن كل تبعة أمام الله، ففي الحديث دخلت امرأة في هرة فحبستها.
2 – التوجع للعثرات وذلك بالتألم لكل ذنب أو مخالفة أو معصية فتشعر أن هذه العثرات والكبوات توجع قلبك، وما أكثر العثرات والكبوات: فهجر القران كبوة وعثرة، والتقاعس عن النوافل كبوة وعثرة، والتهاون عن أوراد الصباح والمساء كبوة وعثرة، وإهدار الوقت فيما لا ينفع كبوة وعثرة، وخائنة الأعين كبوة وعثرة، واللغو كبوة وعثرة، والقيل والقال كبوة وعثرة، وكذلك في سيرنا الحركي: تأخير الواجب عن وقته كبوة وعثرة، والتقاعس عن الالتزام الشهري كبوة وعثرة، وعدم إنفاذ ما تقرر في المؤسسة كبوة وعثرة، وتأجيل ما لا يؤجل كبوة وعثرة، وتفويض ما لا يفوض كبوة وعثرة، وجميع ما ذكر وغيره كثير عثرات وكبوات وزلات تستحق من أحدنا إذا اقترفها زالا أو عاثرا أن يتوجع لها، وأن يتألم منها وبالتالي أن ينوب على عجل وبالسرعة المطلوبة ومرة أخرى “وعجلت إليك ربي لترضى”.
3 – تدارك الفائتات، وذلك ببذل الجهد والمسارعة نحو الخيرات، فالحياة ميدان سباق وحيازة قصب السبق دونها مكابدة ومجهدة “وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين”، واستدراك الفائتات إخواني أخواتي هو استدراك ما فاتك من طاعة أو قربة بما فاتك بمثلها أو خير منها، ولعل سويعات السحر من أفضل الأوقات لهذا الاستدراك ففيه يستشعر المؤمن لذة القرب من الله ولذة الأنس به عز وجل، وقد قال بعض الصالحين :”ليس في الدنيا وقت يشبه نعيم أهل الجنة إلا ما يجده أهل التملق في قلوبهم بالليل من حلاوة المنجاة”، فالمناجاة وبالمناجاة يدرك المؤمن المنيب ما فاته من خيرات.
فالله نسال أن يجعلنا من الأواهين المنيبين إليه،
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى اله وصبحه وسلم تسليما كثيرا،
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
سلسلة تبصرة / الأستاذ مولاي أحمد صبير