فقه التحولات – محمد السائح
تعريفه
فقه التحولات هو فقه أشراط الساعة كما هو الاسم المشهور؛ واسم “فقه التحولات” استحسنتُه من كلام أحمد المتخصصين في هذا الفقه، وهو العلامة أبو بكر العدني المشهور من علماء اليمن المعاصرين، في كتابه “الأسس والمنطلقات”.
التحولات هي الحوادث التي أخبر الوحي بوقوعها من زمان البعثة النبوية إلى ما قبل قيام الساعة، وهي كثيرة جدا، ومنها كبرى وصغرى ووسطى.
والفقه فيها يعني تتبعها ورصد مقدماتها وممهداتها ولوازمها ونتائجها.
موقع هذا الفقه من الدين
هو جزء من التفقه في الدين، حسب حديث جبريل المشهور، الذي طرح الأسئلة الخمسة المعروفة، فذكر النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك أن جبريل جاء يعلم الناس دينهم؛ ومن الدين السؤال الخامس المتعلق بأشراط الساعة. وذلك الذي اعتنى المحدثون بتتبعه وجمعه في كتب الرواية المشهورة أو في كتب خاصة.
فهو يشكل بجانب أنواع الفقه الأخرى، جملة الدين، وهي فقه العقيدة وفقه الأحكام العملية وفقه السلوك.
وقد شاعت أنواع من الفقه في البحوث الشرعية اليوم، كفقه المقاصد والمآلات والموازنات، ولكنها راجعة كلها إلى فقه الأحكام العملية على وجه الخصوص.
ويجوز على سبيل الاختصار أن نقول: إن فقه العقيدة والأحكام العملية والسلوكية، متعلقة بالمكلف من جهة أفعاله الباطنة والظاهرة، وأما فقه التحولات فهو متعلق بالحوادث الواقعة في العالم وأثرها على المكلف.
ولهذا الفقه أصل([1]) في كتاب الله تعالى، في عدد من الآيات المخبرة بالتحولات المستقبلية، كالإخبار مثلا بانتصار الروم، وبهزيمة المشركين، وبتزخرف الأرض، وغير ذلك كثير.
أهميته وهدفه:
هذا الفقه هو الكفيل بفهم الواقع فهما دينيا، عن طريق ربط الديانة بالتاريخ([2])، فإن أنواع الفقه الأخرى تتعلق بالمكلف من جهة اعتقاده وفعله كما سلف، وهي في الغالب غير مرتبطة بالسيرورة التاريخية، إلا في جزئيات المسائل التي تراعى فيها أحوال المكلف عند التنزيل. أما فقه التحولات فهو الألصق بالسيرورة التاريخية، ولا يمكن اتخاذ المواقف الشرعية المناسبة، إلا بمعرفة هذا الفقه، فلا يقوم مقامه فقه مقاصدٍ ولا غيره، بل هو المسدد لفقه الأحكام ومآلاتها([3]).
وينطوي فقه التحولات على تحقيق جملة أهداف، منها: سد الحاجة إلى المعرفة، والتحلي بالحذر، وحسن التصرف عند وقوع التحول المخبر به.
أنواع التحولات:
من هذه التحولات ما هو منصوص عليه صراحة، ومنها ما يحتاج إلى نظر لمعرفة مطابقته للواقع، ومنها لوازم مرتبطة بالتحولات المخبر عنها، وإن لم ترد بنصها في الأخبار.
أمثلة من التحولات:
وقع عدد كبير منها، بدءا من عهد الصحابة رضي الله عنهم، كمقتل عمر وعثمان وعلي والحسين رضي الله عنهم، وكتنازل الحسن رضي الله عنه عن الخلافة، ثم نشوء الملك العضوض، وهجوم التتار، وتداعي الأمم على الأمة الإسلامية، وانقلاب القيم، والتطاول في البنيان، وغير ذلك كثير.
ومنها ما يترقب وقوعه، كخروج المسيح الدجال ويأجوج ومأجوج، والمهدي، ونزول عيسى عليه السلام وهزيمة اليهود، وهدم الكعبة ورفع القرءان، وغير ذلك كثير.
منهج التفقه فيها([4])
لا تخرج هذه التحولات عن منهج التفقه في النصوص الشرعية، المعلوم في أصول الحديث والفقه، غير أنها تختص أكثر من غيرها بمعايير منهجية، يلزم تتبعها عند التفقه فيها وهي:
- معيار الأصل والفرع:
بالنظر إلى نصوص التحولات، يمكن تصنيفها إلى ما هو أصل جامع لفروع تحته، وما هو فروع مندرجة تحت أصل جامع.
ومثال ذلك، أخبار الدجال: فهو من أصول الفتن والتحولات.
- معيار جمع التفصيلات (مع الوقوف على الصحيح والضعيف):
ونعني به استقراء ما ورد في الأخبار دائرا على أصل واحد، أو على فرع من فروعه، فتجمع تفصيلاته لرسم صورة أقرب إلى التكامل.
ومثال ذلك: أحاديث المهدي وأحاديث فتنة العرب.
- معيار الترتيب:
ونعني به أن تفصيلات الأخبار يرد فيها إشارة إلى كون بعضها يتوقف وقوعه على وقوع غيره.
- معيار التلازم:
ونعني به إعمال المقارنة بين جملة من أصول الأخبار وفروعها، لاكتشاف العلاقة بينها، وقد تصل هذه العلاقة إلى التلازم بينها، بحيث لا تفهم إحداها إلا بالأخرى.
ومثال ذلك، أحاديث تزامن المهدي وعيسى عليه السلام، وأحاديث تزامن المهدي والخلافة.
- معيار الحقيقة والمجاز:
ونعني بذلك الوقوف على ما يفهم من هذه الأخبار على وجه الحقيقة، وما يفهم على وجه المجاز.
ومثاله بعض تفصيلات أحاديث الدجال، وغيرها
- معيار تحقيق المناط:
ونعني به، المعرفة بعلوم مساعدة على كشف الواقع، كالجغرافية السياسية géo-politique والاقتصاد السياسي économie politique، والتاريخ العام أو الخاص وغير ذلك. والغرض من هذا التحقيق، القدرة على حسن تنزيل النصوص في مواقعها .
مثال تطبيقي
نمثل بخروج المسيح الدجال، فهو تحول كبير جدا في مسيرة البشرية، بل هو أخطر تحول يقع، وهو منصوص عليه في الأحاديث المتواترة، وكثيرٌ من تفصيلاته منصوص عليها أيضا.
والفقه في هذا التحول، يقتضي ترقبه واستجلاء مقدماته المباشرة وغير المباشرة والقريبة والبعيدة، من أجل استنباط ما يرتبط به وليس منصوصا عليه.
فما موقع عدد من الحوادث المعاصرة، من هذا التحول الخطير في تاريخ البشرية؟
تعتبر هذه الحوادث، كتلك النجوم المبعثرة في السماء، لا يرى الناظر فيها المتعجلُ، أيَّ رابط أو تنسيق؛ لكن عالم الفلك الخبير، أو المتأمل المتأني، يحاول الربط بينها، فتظهر له أشكال وأجسام من ذلك الترابط؛ فبرج العقرب مثلا أو الحوت أو غيرهما، جملة من النجوم المتفرقة، لكن المتأمل فيها استطاع أن يرسم خطا ذهنيا بينها، فاكتشف أنها تكوّن شكلا متناسقا. وقس على ذلك غيره.
فهكذا حوادث الزمان، إذا استطاع الناظر أن يربط بينها، وخصوصا الكبيرة منها، لوجدها مترابطة، تنبئ عن فعل وتدبير وتنسيق. وهذه مهمة فقه التحولات عند الاسترشاد بنصوص أشراط الساعة.
وهذا الأمر منطبق على فتنة الدجال، لأن فتنته مبنية على الدجل وقلب الحقائق، مما لا ينتبه إليه إلا ذوو البصيرة المسترشدون بالنصوص المعصومة، وقد ورد في هذه النصوص أن فتنة دَجَله تسبق خروجه الفعلي، وهو أمر مشاهد لمن تدبره في جميع مناحي الحياة اليوم، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا ودينيا أيضا، فيصدق على هذا الأمر وصفُ من قال: إن الحقيقة والواقع اليوم متغايران.
إن هذا الدجل مبثوث اليوم في حوادث كثيرة، ويكفي الإشارة إلى أهمها في سياق هذا التحليل:
فالثورات العربية مثلا، نقطة من هذه النقاط الكثيرةالمتفرقة التي إذا استطعنا الربط بينها وبين غيرها،نخرج بتصور عن ترابطها في سياق خدمة مقدمة من مقدمات خروج الدجال الكثيرة.
فالهدف المحقق من هذه الثورات، ليس ما كان يتمناه الثائرون، بل هو تفكيك الدول العربية وإحداث الفوضى فيها، لتتوسع “إسرائيل”مستقبلا في الأراضي التي تحلم بها دون منازع أو رادع.
ولهذا كان الموقف الشرعي منها، المسترشد بفقه التحولات، أن لا تُستحسن أو يرجى منها الخير، فالخير المرجو، ليس فيها ولا في ضدها الذي قامت عليه وهو التجبر في الحكم، وهو تحول أيضا مخبر به، بل يرجى هذا الخير ويتأمل في ما أرشدت إليه النصوص، وأقل ذلك الآن، أن يكف المرء يديه فلا ينتسب لظالم أو مظلوم ثائر؛ وتفصيل هذا الخير المرجو ليس هذا محل بسطه.
وهذا الوباء العالمي كوفيد 19، قد يكون سببا في تفكيك أنظمة وتحالفات قديمة،كالاتحاد الأوروبي والنظام المالي العالمي، من أجل نشوء تحالفات جديدة ونظام أمم جديد ونظام مالي جديد، فقد يكون هذا الوباء نقطة في سلسلة النقط المشار إليها([5]). ومن الآثار المتوقعة منه أيضا: الانخراط الإجباري والجماعي في الإنترنيت، مما يسهل التحكم في العقول والحريات،والاستغناء التدريجي عن النقود الورقية، لتعوض بالنقود الإلكترونية، فيسهل التحكم بثروات الشعوب أكثر، ومن الآثار أيضا التعود على حالة الطوارئ، وكذلك إثبات أن الأنظمة الناجحة في حماية شعوبها هي الأنظمة القمعية.وكل ما ذكر وغيره يخدم المشروع الصهيوني في إحداث اضطرابات متلاحقة في العالم، والاستفادة من ذلك في الابتزاز الاقتصادي والسياسي من أجل التوسع.
إن التفقه في نصوص التحولات المرتبطة بالمشروع اليهودي النصراني الصهيوني، يُرجِّح أن القضاء على هذا المشروع، لن يتم إلى بعد بلوغه معظم أهدافه، ومن أبرزها التوسع والتحكم، فلن تُطوى إسرائيل الكبرى حتى تنشر، ولو لوقت قصير.
وكل هذا وغيره، تمهيد لخروج الدجال. فكم هو بعيد عن الواقع، من يريد تفسير هذا الواقع، بعيدا عن استحضار نصوص التحولات المرتبطة بخروج الدجال؛ والنصوصُ الواردة فيه بالغة من الكثرة ودقة التفصيلات ما هو معلوم بالتواتر والشهرة المستفيضة.
ويجدر التنبيه إلى أن استحضار بعض الحوادث وجعلها نقطا في تشكيل إحدى مقدمات خروج الدجال، هو مجرد اجتهاد في التحليل، فقد يكون إدراج حادثة باعتبارها نقطة في التشكيل، غير صائب، ولكن ذلك لا يؤثر في حقيقة التحول المرتقب، وهو خروج الدجال الفعلي. وهذا شأن التفقه عامة، فحتى في فقه الأحكام يقع مثل هذا، وتكون بعض الاستنباطات أقرب أو أبعد من مراد النصوص.
لكن لا يليق أن تهجر هذه النصوص، ولا تستثمر في قراءة الواقع، وفيها ما دلالته قوية على تحليل ما يجري، ومن ذلك مثلا ما ذكرته آنفا عن الثورات العربية، فباستعمال بعض المعايير المنهجية السابقة كمعيار جمع التفصيلات ومعيار الأصل والفرع، يظهر أن للثورات العربية أثرا سيئا على العرب، ويكفي في هذه العجالة أن أستحضر نصا واحدا بمعيار الأصل والفرع؛فروى مسلم في صحيحه([6]) عن أُمِّ شَرِيكٍ، أَنَّهَا سَمِعَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: (لَيَفِرَّنَّ النَّاسُ مِنَ الدَّجَّالِ فِي الْجِبَالِ. قَالَتْ أُمُّ شَرِيكٍ: يَا رَسُولَ اللهِ فَأَيْنَ الْعَرَبُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: هُمْ قَلِيلٌ)، زاد ابن ماجه([7]): (وجلهم ببيت المقدس).
فما سبب قلة العرب يا ترى؟ وهل ما دخلوا فيه بسبب الثورات وغيرها من أساليب طلب الحكم، مقدمة لفناء أكثرهم؟
خاتمة
لا يتسع المقال للتفصيل في هذا الفقه، فحسبه الإشارة إليه والتنبيه إلى أهميته في فهم الواقع وسيرورة التاريخ،وأنه لا غنى عنه في ذلك، وأنه لا يقوم مقامه فقه آخر مما هو متداول اليوم، وإلا بقي جزء من الدين معطلا، كما يستنبط من حديث جبريل الآنف الذكر.
الهوامش:
([1])- وقد تناولت شيئا من التأصيل لهذا الفقه في كتابي “أفكار وأقدام”؛ انظر مقال أشراط الساعة، ومقال خفاء الواقع، ومقال نصوص الأحكام ونصوص الأخبار.
([2])- حسب تعبير الشيخ أبي بكر العدني في كتابه المذكور.
([3])- يجدر التنبيه هنا إلى أن الموقف السني في التعايش مع أنماط الحكم بعد فترة الخلافة الراشدة، يستمد من نصوص التحولات، ومن أشهرها تنازل سيدنا الحسن رضي الله عنه عن الخلافة مع أنه الأحق بها، وقد تمت الإشارة إلى استحسان فعله في قوله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ المُسْلِمِينَ) رواه البخاري 2704.
([4])- ملخص من ورقة قدمتها في ندوة فلسفة العلوم الإسلامية: النص والسياق، نظمها قطب حوار الحضارات والتراث الثقافي، بتعاون مع جامعة إرلانغين بألمانيا، بكلية الآداب فاس سايس، 25/26 يوليوز 2017.
([5])- لا يخفى أن هذا التحليل لا علاقة له بما يسمى بنظرية المؤامرة، فإن كان هذا الوباء مخططا له، فهو واقع سيثمر نتائج مرجوة عند مخططه، وإن كان طبيعيا، فإن المشروع الصهيوني قادر على استثماره استثمارا جيدا، كما هو معلوم من عدد من الحوادث المشهورة.