نموذج لدور المرأة الحضاري
لم تكن المرأة المسلمة في العصر العباسي بعيدةً عن مجال صناعة الحضارة الإسلامية، بل كانت ركنًا أساسيًّا من ركنَي الحضارة الفاعلة، وكان لها وجود فاعل في داخل البيت؛ حيث تشرف على صناعة الإنسان وتحويله إلى إيجابي مؤمن مؤثِّر، كما كان لها وجود – أيضًا – في المسجد والتعليم والفكر والثقافة والجهاد، في الإطار الذي حدَّدته شريعة الله، وثمة كتب كثيرة رصدت (أعلام النساء) ودور المرأة الحضاري، ونكتفي بنموذج نقدِّمه من حياة ابن عساكر (499 – 571هـ) نفسه، ومن إطلالة عابرة على الجزء الذي خصه لتراجم النساء من كتابه: “تاريخ مدينة دمشق”.
كان بيت الحافظ أبي القاسم علي المعروف بابن عساكر معمورًا بالعلم؛ كل من فيه بين حافظ ومحدِّث.
لقد استطاعت شخصيته القوية، وروحه السمحة أن تفعل في نفوس أبنائه وزوجه فعل السِّحر، كان ابنه القاسم بن علي بن الحسن جمال الإسلام حافظًا، سار على خطوات أبيه، وأتم عمله في التاريخ وَبيَّضه وسمعه على أبيه، وكانت زوجه وأم أبنائه عائشة بنت علي بن الخضر أم عبدالله السلمية تهتم بالحديث وتَسمعه من شيخات يُحضِرهن لها زوجُها، ثم يسمع أبناؤها منها، كما يسمعون من والدهم، أما أبو الفتح الحسن بن علي، فقد سمع على والده الحافظ أبي القاسم، وعمه الفقيه الصائن[1].
أما خارج البيت، فقد كان لابن عساكر شيخات تعلَّم على أيديهن، وقد ذكر منهن في كتابه: (شكر بنت أبي الفرج) سهل بن بشر، وخُجُسْتة بنت إبراهيم أم الشمس الأصفهاني، وخُجُستة بنت أبي المظفر بنت أبي الوفاء عمر( أم البهاء)، وشهدة بنت أحمد بن الفرج، وضوء بنت محمد الطويل (أم الكرام)، وفاطمة بنت محمد بن أحمد أم البهاء بنت البغدادي، وملكة بنت إبراهيم بن داود بن محمد سعيد القرطقي (العالمة الصوفية)، ونورسي بنت أبي الوفا عبيدالله بن محمود (أم النجم)[2].
ونحن نتوقع – بالطبع – أن هذه التلمذة على هؤلاء الشيخات كانت في إطار الشريعة، وكانت إما في الصغر، وإما في إطار المسجد، أو التلقي غير المباشر، ويكفي أن نرصد هذا الحشد الكبير الذي دوَّنه ابن عساكر في تراجمه للنساء؛ لنعلم كم كان دور المرأة فاعلاً في العصور التي يصفها بعضُهم بالجمود؛ ففي حرف الألف فقط أورد ابن عساكر هذه الأسماء:
أسماء بنت محمد بن الحسن بن طاهر القرشية (ابنة خالة المصنف)، وأسماء بنت واثلة بن الأسقع الليثية، وأسماء – ويقال: فكيهة – بنت يزيد بن السكن بن رافع بن امرئ القيس الأشهلية، أسماء امرأة كانت في عصر أم الدرداء، آمنة – ويقال: أمة – بنت سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبدشمس، آمنة بنت الشريد، زوج عمر بن الحمق، آمنة – ويقال: أمينة – بنت عمر بن عبدالعزيز بن مروان بن الحَكَم بن أبي العاص، آمنة – أو أمية – بنت أبي الشعثاء الفزارية، آمنة بنت محمد بن أحمد، أم اليمن العجلية، آمنة بنت محمد بن الحسن بن طاهر القرشية (ابنة خالة المصنف)، آمنة ذات الذئب، أمة العزيز بنت سهل الإسفراييني، أمة العزيز بنت محمد بن الحسن الديلمية، أميمة بنت أبي بشر بن زيد بن الأطول – ويقال: زيد الأطول – أميمة بنت رقيقة، وهي أميمة بنت عبد، ويقال: عبدالله بن بجاد بن عمير[3].
ولنا أن نقيس على حرف الألف بقية الحروف، ويكفي أن نعلم أن هذا الجزء الذي خصه لتراجم النساء من كتابه الموسوعي: “تاريخ مدينة دمشق، وذكر فضلها، وتسمية من حَل بها من الأماثل، أو اجتاز بنواحيها من وارديها وأهلها”، يقع في أكثر من ستمائة صفحة من القطع الكبير، كما يجب أن نتذكر أيضًا أن هذا الكتاب يرصد حركة الحضارة في مدينة واحدة مدينة دمشق، وأنه لا يرصد إلا الأعلام البارزات اللائي استطاع ابن عساكر أن يصل إليهن، ولنا – بل يجب علينا – أن نضع عند تقويمنا النساءَ اللائي كن في بغداد التي كانت تتصدر الحواضر الإسلامية في العصر العباسي.
ولنا – بل يجب علينا – أن نضع الأندلس بقرونها الثمانية عند التقويم أيضًا.
ولنتذكر كذلك الأدوار الحضارية التي تعاورتْها العواصم والحواضر الإسلامية الكبرى على امتداد العالم الإسلامي: المدينة، والقاهرة، والقيروان، وفاس، وبجاية، ودهلي، وغيرها.
وكانت المرأة العابدة والعالمة، والمربية والمجاهدة موجودةً هنا وهناك، تتحرك في إطار الشريعة، وقد تخطئ – وَفْق سنن الله البشرية – كما يخطئ الرجال، لكنها كانت وستبقى أشرف امرأة عرفها تاريخ البشرية، إنها تموت ولا تبيع دينها أو تأكل بثَدْييها في الأعم الأغلب.
الهوامش:
[1] الحافظ أبو القاسم علي بن الحسن الشافعي المعروف بابن عساكر: تاريخ مدينة دمشق، قسم تراجم النساء، بتحقيق سكينة الشهابي، ص: 16.
[2] المرجع السابق، ص: 31.
[3] المرجع السابق، ص: 593، ويلاحظ أنهن من عصور مختلفة، تبدأ من العصور الأولى للإسلام.
أ. د. عبد الحليم عويس/ شبكة الألوكة