مقالات رأي

الشكر طريق الرضوان – رشيدة المنصوري

الحمد لله حمدَ الشاكرين، الحمد لله في كل وقت وحين، الحمد لله الذي علَم بالقلم، علَم الإنسان ما لم يعلم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي كان من دعائه:” اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك” وعلى آله وصحبه إلى يوم الدين.

 الرضوان هو أكبر وأعظم الرضا، وهو مصطلح خاص بالله تبارك وتعالى، فالقرآن الكريم لم يرد فيه مصطلح الرضا، ولكن ورد فيه مصدران هما: مرضاة ورضوان، والمرضاة استعملها القرآن لله تعالى ولغير الله، ولكن الرضوان خُص به الله سبحانه وتعالى كقوله سبحانه:﴿ وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ۚ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [ سورة التوبة: 72]

 فالرضوان مصدر من الفعل رضي رضا ورضوانا، وهو الرضا الكثير أو كمال الرضا، وذُكر في القرآن 13 مرة، وهو أكبر من الجنة كما جاء في التفاسير وورد في الحديث:” انَّ اللهَ تبارَك وتعالى يقولُ : يا أهلَ الجنَّةِ فيقولونَ : لبَّيْكَ ربَّنا وسعدَيْكَ والخيرُ في يدَيْكَ فيقولُ : هل رضِيتُم ؟ فيقولونَ : ما لنا لا نرضى وقد أعطَيْتَنا ما لَمْ تُعْطِ أحدًا مِن خَلْقِكَ فيقولُ : ألا أُعطيكم أفضَلَ مِن ذلكَ فيقولونَ : يا ربِّ وأيُّ شيءٍ أفضَلُ مِن ذلكَ ؟ فيقولُ : أُحِلُّ عليكم رِضواني فلا أسخَطُ بعدَه أبدًا.” متفق عليه، وطرق مرضاة الله كثيرة وبابها الأول القرآن الكريم والسنة النبوية ومن طرقها الشكر.

 العرب تقول دابة شكور وهي التي تسمن على قلة العلف كما جاء في القاموس المحيط، أي يظهر عليها أثر النعمة، وهو نفس المعنى في الاصطلاح كما يقول ابن القيم في مدارج السالكين:( وقالوا الشكر في الاصطلاح هو ظهور أثر نعمة الله على لسان العبد ثناء واعترافا، وعلى قلبه شهودا ومحبة، وعلى جوارحه انقيادا وطاعة) ولذلك قال ربنا: ﴿ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾ [ سورة الضحى: 11]، ويبقى العبد مع ذلك مقصرا، وشكر النعم طريق لقرارها واستدامتها لأنها إن شكرت قرت وإن كفرت فرت، والمؤمن مدين لله بالشكر لأن الفضل منه ابتداء وانتهاء، ولذلك علينا طلب رزق الشكر وسؤال التوفيق إليه كما ورد في الدعاء القرآني:﴿… حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي ۖ إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [ الأحقاف: 15]

  وهو دعاء تكرر في القرآن مرتين مرة على لسان نبي الله سليمان في سورة النمل ومرة على لسان الصالحين من عباده في سورة الأحقاف مع تغير قليل، و”أوزعني” من فعل وَزع قال الرازي وزع يَزع وزعا مثل وضع يضع وضعا أي كف، ومنه الوازع أي الزاجر والمانع الذي يردع عن شيء ما ويكف ويمنع من ارتكاب  سلوك معين كما ورد في معجم المعاني الجامع، وأوزع بالشيء أغرى به، ومادة وزَع وردت في القرآن الكريم 5 مرات (3 منها يوزعون،و2 أوزعني)، ويوزعون كما جاء في التفاسير يحبسون ويكفون ويجمعون، ولذلك قال سيد قطب رحمه الله في الظلال في تفسير هذه الآية 🙁 أوزعني أي اجمعني كلي. اجمع جوارحي ومشاعري ولساني وجناني وخواطري وخلجاتي وكلماتي وعباراتي وأعمالي وتوجهاتي. اجمعني كلي. إجمع طاقاتي كلها أولها على آخرها وآخرها على أولها لتكون كلها في شكر نعمتك علي وعلى والدي). ظلال القرآن6/268

 وهذا الدعاء القرآني من جوامع الكلم وهو سؤال ربنا أن يقدرنا ويلهمنا شكر نعمه التي لا تعد ولا تحصى وذلك بأن نرى النعمة أولا فلا نعمى عنها وأن نعظمها ولا نحقرها، وأنها منة منه سبحانه وليس استحقاقا منا﴿ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ [ الجمعة: 4]

 إذن شكر النعم تقديرها وإجلالها وأكثره عملا ولهذا قال ربنا :﴿…اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا ۚ وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾ [ سبأ: 13]، وبهذا فإن للشكر قواعد قال عنها ابن القيم في مدارج السالكين:( والشكر مبني على خمس قواعد:

1-خضوع الشاكر للمشكور

2-وحبه له

3-واعترافه بنعمته

4-وثناؤه عليه بها

5-وألا يستعملها فيما يكره

والشكر من حيث الشاكر نوعان:

شكر العامة على المطعم والمشرب والملبس وقوت لأبدان.

وشكر الخاصة على التوحيد والإيمان والقلوب.

 وكلاهما مطلوب بحسب كمال إيمان العبد، عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:” إنَّ اللَّهَ ليَرضى مِن العبدِ أن يأكُلَ الأَكلَةَ فيحمَدَهُ عليها ويشرَبَ الشَّربَةَ فيحمَدَهُ علَيها.” رواه مسلم، وقد ذكر ابن القيم في كتابه عدة الصابرين:( وكان السلف يسمون الشكر الحافظ، الجالب لأنه يحفظ النعم الموجودة ويجلب النعم المفقودة) ولهذا قال ربنا:﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ [ إبراهيم:7]، والتوفيق للشكر نعمة عظمى تستوجب الشكر ولله در قول الشاعر:

إِذا كانَ شُكري نِعمَةَ اللَهِ نِعمَةً

 عَلَيَّ لَهُ في مِثلِها يَجِبُ الشُكرُ

فَكَيفَ بلوغُ الشُكرِ إِلّا بِفَضلِهِ

 وَإِن طالَتِ الأَيّامُ وَاِتَّصَلَ العُمرُ

إِذا مُسَّ بِالسَرّاءِ عَمَّ سُرورُها

 وَإِن مُسَّ بِالضَرّاءِ أَعقَبَها الأَجرُ

وَما مِنهُما إِلا لَهُ فيهِ نِعمَةٌ

تَضيقُ بِها الأَوهامُ وَالبرُّ وَالبَحرُ

 والسبيل إلى ذلك عبر طلب العون على الشكر “أوزعني” أي ألهمني وقدرني وأولعني ،وبتذكر جذور الخير عند العبد وهم والداه فهم كانوا سببا بعد الله في وجوده وفي تربيته وفي النعم التي بين يديه، والدعاء لهما من حقوقهما ومن البر بهما، ومن النعم التوفيق للعمل الصالح المقبول عند الله أي العمل الخالص والصواب ولا بد كذلك من الدعاء للذرية بالصلاح وأن يكون هذا الصلاح ساريا متمكنا فيهم حتى تبقى مسيرة الإيمان والتوحيد ممتدة عبر الزمن في العائلة حتى بعد موت الوالدين، وقد قرن في الدعاء القرآني بين صلاح الذرية والتوبة لله لأن توبة الآباء مفتاح صلاح الأبناء وذلك بالخضوع لله والانكسار بين يديه والاستسلام لأوامره. فمنه الفضل والمنة.

 إن هذا الدعاء مقبول عند الله إن شاء سبحانه لأنه قال في الآية الموالية: ﴿ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ ۖ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ﴾ [ الأحقاف: 16]، وعليه فإن الحرص على هذا الدعاء العظيم مطلوب وخصوصا من وصل ال40 والذي هو سن كمال القوة العقلية والنفسية والبدنية.

 إن رضوان الله تعالى هو مبتغى المؤمن ولذلك لا بد من معرفة طرقه، والشكر من أعظم طرقه، ولهذا ديننا نصفه شكر ونصفه صبر.

 فاللهم تقبل دعاءنا وأصلح ذريتنا واجعلنا من الشاكرين الذاكرين الذين رضيت عنهم ورضوا عنك.

 لو لم تُرِدْ نَيْلَ ما أرجو وأطلُبُهُ            من فَيضِ جُودِكَ ما علَّمتني الطَّلبا

أخبار / مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى