نورالدين الهادي يكتب: فلسطين والاعتراف الأوروبي

غزاويات طوفان الأقصى (6)

حدث تاريخي مميز وغير مسبوق عرفه مقر الأمم المتحدة بنيويورك خلال الأسبوع، حيث اعترفت دول أوروبية وازنة بالدولة الفلسطينية، ليرتفع العدد إلى 157 دولة من بين 193 التي تشكل المنتظم الدولي، وكان من بين هذه الدول بريطانيا و ملحقاتها كندا وأستراليا، وفي نفس اليوم يرفع العلم الفلسطيني في لندن، وبذلك تكفر المملكة المتحدة ولو جزئيا، عن خطيئتها التي ارتكبتها في نوفمبر 1917 عندما وعد وزير الخارجية البريطاني آرثر بلفور بإنشاء وطن قومي لليهود على أرض فلسطين، كذلك اعترفت فرنسا ورفع علم فلسطين فوق 86 من البلديات الفرنسية.

وصرح رئيسها ماكرون أن الاعتراف هو من أجل السلام وحل الدولتين، كذلك اعترفت البرتغال وسلوفينيا ودول أخرى بالدولة الفلسطينية، وصرح رئيس وزراء سكتلندا أن الاعتراف يستوجب وقف الإبادة، في الوقت الذي يصف فيه الأمين العام للأمم المتحدة أن العالم صار قاسيا جدا أمام ما يقع في غزة، بينما دعا رئيس كولومبيا في الجمعية العامة إلى إنشاء جيش عالمي لتحرير فلسطين واعتقال مجرمي الحرب الصهاينة، فلينظر الزعماء “العرب والمسلمون” موقعهم وموقفهم وهم يكتفون بالشجب والاستنكار والتنديد أمام المحرقة الصهيونية الجارية في غزة، بل تناول بعضهم الكلمة أمام ممثلي العالم ليتحدث عن معالجة النفايات ومحاربة التصحر، وتناسى التصحر السياسي والفكري والقيَّمي الذي يعاني منه الزعماء الذين ابتلي بهم عالمنا العربي.

لقد جاءت هذه الاعترافات من دول لها علاقات خاصة مع الكيان الإرهابي، وهي عقاب لأمريكا وللصهاينة على حد سواء، حيث وصل الغرب إلى مرحلة القناعة بكون هذا الكيان الذي زرعوه في المنطقة العربية، صار عبئا ثقيلا على العالم، ومهددا للسلام العالمي بسبب عجرفته وحروبه التي لا تنتهي مع كل جيرانه، وطموحاته النازية التوسعية من أجل المزيد من التمدد  لتحقيق حلم إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات، وكانت هذه الاعترافات أيضا ثمرة لوعي جديد عند الإنسان الأوروبي بعدما انكشف الستار عن الوجه القبيح والبشع لدولة بني صهيون، بما تمارسه من إبادة جماعية تبث مباشرة ليل نهار، فكانت المسيرات والتجمعات التي تنظم منذ بداية هذه الحرب الظالمة، في مختلف المدن الأوربية، منددة بالحرب ومطالبة بوقف شلال الدم الذي ينزف من الأطفال والنساء، ومنادين بالحرية لفلسطين، في الوقت الذي يمنع فيه العديد من الحكام العرب أي شكل لمناصرة المستضعفين في غزة ولو بالدعاء لهم.

لقد كانت هذه الاعترافات نتاج ضغط شعبي أوروبي على برلمانات الدول الأوربية التي ضغطت بدورها على الحكومات من أجل تغيير مواقفها تجاه كيان بني صهيون وتجاه القضية الفلسطينية العادلة، لذلك انطلقت مسيرات ومظاهرات في إيطاليا تطالب الحكومة بالاعتراف بالدولة الفلسطينية استجابة للشعب الإيطالي المتعاطف مع المظلومين في فلسطين، على غرار الدول الأوروبية الأخرى التي أعلنت هذا الاعتراف.

إن هذا التحول في الموقف الأوروبي ستكون له تداعيات استراتيجية وانعكاسات جد إيجابية على القضية الفلسطينية، فالأوربيون عموما لا يكتفون بالمواقف السياسية المعزولة خاصة مع الضغط الشعبي الممارس على حكوماتهم، بل ستتبع هذه المواقف إجراءات عملية عقابية ضد الكيان، وهو ما أكده مسؤولون  في الإتحاد الأوروبي الذي يستعد لإطلاق سلة عقوبات على الكيان الغاصب نتيجة تردي الوضع الإنساني بغزة وباقي الأراضي الفلسطينية، علما أن دولا أوربية كانت سباقة إلى معاقبة دولة بني صهيون على الجرائم التي تقترفها في حق المواطنين العزل بالقطاع، حيث عمدت إسبانيا إلى إلغاء العديد من الصفقات العسكرية مع الصهاينة تقدر بمئات ملايين الدولارات، إضافة إلى منع السفن المحملة بالأسلحة المتجهة إلى الكيان، من الرسو في الموانئ الإسبانية، مما يعمق الأزمة الاقتصادية التي يعاني منها نظام الأبرتايد الصهيوني، وهو وضع يشبه إلى حد كبير سيناريو جنوب أفريقيا إبان حكم نظام الفصل العنصري الذي كان سائدا.

وأدت مقاطعة الدول الأوربية لهذا النظام وفرض عقوبات تجارية واقتصادية عليه إلى سقوطه، واستقلال البلاد من سيطرة البيض، ومما لا شك فيه أن هذا الوضع سيزيد من عزلة بني صهيون، ويضاعف من متاعبهم الاقتصادية وهشاشة الوضع الاجتماعي مما يكون له تأثير خطير على أوضاع الصهاينة في فلسطين المحتلة، ويضطرهم إلى عودة تلقائية إلى دولهم الأصلية وهجرة عكسية، مادام الكيان لم يحقق لهم الأمن ولا السلام المزعوم والرفاهية والاستقرار.

هذه الاعترافات أثارت حفيظة الرئيس الأمريكي ترامب حيث أبدى غضبه من موقف الأوربيين وصرح أن موقفهم  يعوق إيجاد حل للقضية الفلسطينية، وأن هذا الموقف مكافأة لحماس على ما فعلته في السابع من أكتوبر، متناسيا حق الشعوب في المقاومة لنيل استقلالها، وجدد مطالب الصهاينة بإطلاق سراح الأسرى الأحياء وتسليم جثث المتوفين، دون الحديث عن ستة وستين ألف شهيد وأضعاف هذا العدد من الجرحى، وعداد المصابين في تصاعد جنوني نتيجة الهجوم الوحشي على مدينة غزة ، ولا إلى حرب الإبادة التي ينفذها الصهاينة برصاص وقنابل أمريكية، ولا إلى معاناة شعب فلسطيني برمته يرزح تحت الاحتلال، كذلك سارع ترامب إلى الاجتماع مع بعض زعماء الدول العربية والإسلامية “لطمأنتهم” على مصير غزة.

أما نتن ياهو فقد رد في نفس اليوم على اعتراف دول أوروبية جديدة بالدولة الفلسطينية، وتعهد بعدم السماح بإقامة دولة فلسطينية على الأرض “الإسرائيلية ” هكذا، ورد على هذه الاعترافات بتصعيد خطير في الحرب على القطاع، والزيادة في القصف وفي عدد المجازر والشهداء في مدينة غزة، ثم كان خطاب نتن ياهو ليوم الجمعة 27 شتنبر 2025 في الجمعية العامة، الذي قاطعته أغلبية الوفود منها الوفد المغربي، وحضرته ثلاثة وفود عربية، وأكدت هذه المقاطعة لدول العالم العزلة الواضحة للكيان، مما أحرج نتن ياهو وهاجم الدول المعترفة بالدولة الفلسطينية وأعلن رفضه القاطع لقيام دولة فلسطينية مهما كان حجمها، وأن السلطة الفلسطينية المقيمة في رام الله “سلطة فاسدة  حتى النخاع”، وأكد أنه لا سبيل لوقف الحرب في غزة إلا بتحقيق الانتصار الكاسح في غزة، وهو بذلك يلغي علانية أي أرض يمكن أن تسمى فلسطينية، فكل فلسطين “أرض صهيونية” بحسبه، و يطلق رصاصة الرحمة على كل أوهام المتفاوضين، وأوهام تكتكجيين، وأوهام التعويل على المؤسسات الدولية والأمم المتحدة ومجلس “الأمن” الذين عجزوا أمام الفيتو الأمريكي والتوحش الصهيوني، من أجل إيقاف هذه الحرب الظالمة.

لقد فطنت شعوب العالم للسردية الكاذبة للحكومات الصهيونية المتتالية التي سعت جميعها إلى إفشال وتفكيك كل المسارات السياسية بقيام دولة فلسطينية ولو على ما تبقى من فلسطين، وهي الأراضي التي احتلت في حرب يونيه 1967، تلك الحرب التي احتل فيها الكيان الصهيوني القدس الشرقية والضفة الغربية وقطاع غزة وصحراء سيناء المصرية وهضبة الجولان السورية، ورغم قرار مجلس الأمن رقم 242  في نوفمبر 1967 القاضي بانسحاب “إسرائيل” من هذه الأراضي، لم ينفذ الصهاينة القرار، وسوفوا وراوغوا على مشهد من العالم، إلى أن نسف هذا القرار ونسفت معه “الشرعية الدولية”، وتم إخراج القضية الفلسطينية من أروقة المنتظم الدولي إلى دهاليز أوسلو، حيث تنازل تكتكجيو السلطة عن أجزاء من الضفة، مقابل وعد كاذب بقيام “دولة فلسطينية” وتمويل دولي لهذه السلطة، والتزمت السلطة ببنود الاتفاق كاملة لكن الصهاينة تنصلوا من أبسط بنوده، لأن هدف الصهاينة كان منذ البداية هو القضم المتدرج للأراضي الفلسطينية تباعا إلى حين ابتلاع كل أرض فلسطين، الشيء الذي صار الآن باديا للعيان ويصرح به الصهاينة على مسمع الجميع دون حياء، لذلك استعملوا مرحليا المفاوضات التي لا تكلف مجهودا عسكريا، واستثمروا الزمان للمزيد من القوة والتفوق العسكري والتكنولوجي على الجيران، ولما حانت الفرصة يقوم الكيان بحرب الإبادة في غزة وفرض التهجير على سكانها، ورغم كل المجازر والدمارالذي ارتكبه الجيش الصهيوني النازي، ورغم محاولات الوسطاء العرب ورغم المرونة التي أبدتها فصائل المقاومة وعلى رأسها حماس، من أجل وقف هذه الحرب ووضع حد لمعاناة الغزاويين، شهد العالم انقلاب نتن ياهو على مخرجات المفاوضات في كل مرة، وإعلانه عن مطالب تعجيزية جديدة، دون الاستجابة سواء لأسر الأسرى الإسرائيليين أو لنداءات الأمين العام للأمم المتحدة أو العديد من زعماء العالم، وحتى من الأوربيين أصدقاء الكيان ، بل أعلن عن نيته في ضم الضفة وجعلها سجنا مفتوحا، ومحاصرتها من أجل التمهيد لتهجير مماثل، كذلك ونظرا لفائض القوة التي يتمتع بها الكيان، تم شن حروب خاطفة على الدول  العربية والإسلامية المناوئة المحيطة دون رادع ، لتكريس الرعب والهيمنة والطغيان على منطقة الشرق الأوسط، وبالتالي يتجه الصهاينة نحو حسم الصراع مع الفلسطينيين، من أجل التفرغ للتوسع نحو الدول المجاورة.

إن صحوة الضمير العالمي التي يقودها أحرار وشرفاء العالم، وتغير مواقف العديد من الشعوب والدول تجاه الغطرسة الفاشية لكيان بني صهيون، وتعاطفهم مع القضية الفلسطينية العادلة، سيغير العديد من موازين القوى في المنطقة، بالإضافة إلى ذلك وبالتأكيد فإن المنطقة ستعرف أحداثا عظيمة ما زالت تتخلق حيثياتها، وستنقلب المعادلات، وإن مزيدا من الإرهاب الصهيوني سيقابله المزيد من صمود الشعب الفلسطيني على طريق النصر وتحقيق الاستقلال ودحر المحتل وزوال الكيان وتحرير فلسطين كل فلسطين.

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى