ما جدوى تغيير لغة تدريس العلوم بالمغرب في هذا الظرف الزمني بالذات؟
مدخل: إن الجدل الحاصل منذ السنين الأخيرة حول لغة تدريس العلوم بالمدارس المغربية و الذي أدى إلى اعتماد قانون يلزم فرنستها منذ الإعدادي وما يترتب عليه من تأثيرات على المجتمع المغربي وعلى تطور البلاد بصفة عامة مما أدى إلى ردود فعل في الصحافة الوطنية وعلى شبكة التواصل الاجتماعي وإلى عريضة تستنكر هذا الاختيار وقع عليها عدد مهم من الشخصيات الثقافية والسياسية، أوجب علينا تقديم للقارئ هذه الشواهد و الملاحظات المأخوذة من الجامعة المغربية وسوق الشغل الوطني والدولي.
1- مستوى خريجي مسالك التخصص بالمؤسسات العلمية بالجامعة جيد
بعد اجتياز مراحل التعليم الأولي للعلوم بالعربية يتابع الطلبة دراستهم بالتعليم العالي بالفرنسية قبل أن يشرع المتفوقون منهم في مرحلة التخصص والبحث العلمي في مختلف مجالات العلوم حيث يبرز عنصر لغوي أساسي آخر، ألا وهو الاستعمال الضروري للانجليزية قراءة وكتابة وإلقاء شفوي. فهي بالضرورة لغة الندوات العلمية الدولية ولغة المجلات العلمية ذات التصنيف الدولي. ولتوضيح الرؤية فيجب الإشارة أولا إلى أن نشر مقالات تعرض نتائج البحث العلمي بالمجلات الدولية المتميزة هو شيء إلزامي بالنسبة للطالب في سلك الدكتوراه العلمية قبل السماح له بمناقشة أطروحته، ثانيا لا يتم نشر مقال بمجلة ذات تصنيف دولي إلا بعد موافقة خبراء مختصين في المجال، تعرض عليهم المقالات من لذن إدارة المجلة للإدلاء بآرائهم وانتقاداتهم. و نتيجة هذا النظام السائر به العمل هو أن مختبرات البحث العلمي بالجامعات المغربية التي تقوم بتأطير طلبة الدكتوراه وبنشر نتائج بحوثها بالمجلات الدولية تقوم ببحوث ذات مستوى علمي دولي.
ثم لا بد أن نشير كذلك إلى المستوى الجيد في اللغة الانجليزية عند أغلبية الطلبة في مجالات التكنولوجيات الحديثة حيث أصبحت عدد من أطروحات الدكتوراه تكتب بالانجليزية بل إن البعض منها نوقشت في مجال الرياضيات والإعلاميات في المغرب بلغة شكسبير. كما يكتب خريجي الدكتوراه والأساتذة الجدد كتب بالانجليزية في الميادين العلمية تصدر في دور النشر الدولية نعرف من بينها على الأقل ثلاثة كتب في الرياضيات التطبيقية.
لكن هذا لا يعفي الجامعات المغربية من ضرورة التطور والحرص على تكتل الجهود وترشيدها في مجالات البحث العلمي بالخصوص حتى تكون ذات حجم وفعالية في مستوى نظيراتها دوليا لأن الجهود المبذولة حاليا، مع أنها علميا في الصميم، تبقى ضعيفة في نتائجها لقلة الأساتذة الباحثين في نفس المؤسسة ونفس التخصص العلمي.
2 – ثلاث لغات مرشحة الآن لتدريس العلوم بالجامعة المغربية
ميدانيا من الملاحظ أن الأساتذة الباحثين في المؤسسات العلمية العليا جلهم درسوا العلوم بالعربية في مؤسسات التعليم بالمغرب حتى دخولهم الجامعة حيث تابعوا دراستهم بالفرنسية و شيء ما بالانجليزية وما دونهم هم أساتذة الجيل السابق درسوا العلوم منذ البداية بالفرنسية وجلهم يجهل حتى مصطلحات تخصصه بلغة الضاد. هذا الجيل بكامله مقبل الآن على التقاعد في حدود سنوات معدودة بعد أن رفع جلهم طوال مهنته مشعله العلمي مع تطوراته الباهرة حتى بلَغ علمه لطلبة الدكتوراه المرتبطين به ومن بين هؤلاء من تفوق على زملائه في مباريات التشغيل فأصبح أستاذا جامعيا من الجيل الجديد.
إنه من السهل جدا الآن أن يتم إدخال اللغة العربية تدريجيا في المؤسسات العلمية من التعليم العالي وتعريب السلك الأول العلمي منه مع الانفتاح أكثر على الانجليزية، لأن التدريس بالعربية يهون على الأساتذة الجامعيين الشبان بخلاف زملائهم القدامى ولأن هذا يوافق المستوى اللغوي لجل الطلبة مما سيخفف العبء على من يصعب عليه استيعاب الدروس بلغة أخرى مع أن مستواه العلمي لا بأس به،… لولا القيامة التي أدت أخيرا إلى إصدار القانون الإطار والفقرة الأخيرة من المادة 32 منه “المقيدة للأستاذ باستعمال اللغة المقررة للتدريس دون سواها” ما يعني الفرنسية في المؤسسات العلمية بالتعليم العالي.
بل إن بعض الإشارات بدأت تبرز في هذا الاتجاه نذكر منها الشعار الذي رفعته الجمعية المغربية للتواصل الصحي الذي يعبر بصراحة “مستعدون لتدريس الطب بلغة المواطن المغربي ومعالجته بها…منفتحين بلغة الفاعل الدولي، الانجليزية“.
إن أغلبية الأساتذة الجامعيين من الجيل الجديد متفوقون حقا في الانجليزية أكثر من أساتذتهم القدامى فهم مستعدون لتطوير مسالك الماجستر بالانجليزية طبقا لمتطلبات دقة المواضيع التي من شأنها أن تكون مرتبطة بأحدث مجالات البحث العلمي على المستوى الدولي. وقد شرعت منذ سنوات قليلة بعض الجامعات المغربية في فتح مسالك التخصص من هذا النوع نذكر من بينها ماجستر في البيولوجيا الوراثية الدقيقة فتح مؤخرا بإحدى كليات الطب تدرس كل مواده بالانجليزية لطلبة جاؤوا من مختلف المؤسسات العلمية وكلهم درسوا العلوم أولا بالعربية قبل اللجوء إلى التعليم العالي.
تجدر الإشارة هنا إلى الإحصائيات الدولية المتعلقة بمؤشر الابتكار وبترتيب الجامعات التي تؤكد أن كل جامعة درَست العلوم بغير اللغة الأم فهي في أسفل الترتيبات وبدون استثناء والعكس بالعكس. وتبقى الانجليزية لغة التواصل العلمي للجميع وقد فصَل هذه النتائج الواقعية القاطعة، الأستاذ محمد عدنان التازي في مقال له في الموضوع نشر بمجلة الفرقان العدد 83.
بل نتساءل هل لفئة من المغاربة مشكلة مع اللغة العربية والشعور بتفوق لغة المستعمر كما أشار العالم المغاربي مؤسس علم الاجتماع ابن خلدون حيث قال أن النفس البشرية بطبيعتها تنظر أبدا بالكمال لمن غلبها؟ وهل من بين هؤلاء منتخبين ومسئولين وقياديي أحزاب دفعوا بفكرة القانون الإطار حتى يمنعوا هذا التطور الطبيعي للغات المستعملة في الفضاء الجامعي؟
3 – المشروع المجتمعي
وبعد هذه الشهادات يبقى أهم سؤال مطروح، ألا وهو: كيف سيكون وكيف ستكون المهندس(ة) والطبيب (ة) والباحث (ة) العلمي (ة) المغربي (ة) في أفق 2035 – 2040؟ وما هو المشروع المجتمعي الذي نسعى من وراءه؟
إن خريجي مسالك التخصص من المؤسسات العلمية الوطنية لهم خصوصيات أساسية نذكر من بينها: أولا مستوى علمي ولغوي دوليين يسمحان لهم بالاندماج في المعاهد وفي سوق الشغل الدولية – إن لم يتدهور هذا المستوى شيئا فشيئا إذا لم توجد خطة دقيقة جوهرية لتعزيزه، ثانيا ذوي المؤهلات الكافية من اللغة العربية تمكن من الانتقال ببلدنا إلى مرحلة رئيسية في مسلسل التنمية، ألا وهي مرحلة ترجمة وإنتاج الكتب والمجلات العلمية بالعربية حتى تعم المعرفة– ولكن من المرتقب أن لا يحافظ الجيل الصاعد على مستوى جيد في اللغة العربية إذا ما أصبحت غالبية المواد تدرس بالفرنسية منذ السنوات الأولى – أما الخصوصية الثالثة لخريجي المؤسسات العلمية الوطنية فهي اعتزازهم بالهوية مما يجعلهم من أهم المساهمين في الإشعاع الحضاري المتقدم بل حتى في النقاشات الفكرية التي تحيط في الوقت الراهن بثقافتهم من شتى نواحيها المبدئية والحضارية والتي يعالجونها بمنظورهم العلمي وبأسلوبهم المنطقي الإيجابي – إن لم يفقدوا القدرة على استيعاب التحديات العلمية باللغة العربية بل حتى التمكن من المصطلحات العلمية العربية إن هم واجهوا تعلم العلوم منذ البداية بلغة أجنبية.
خلال الأسابيع و الأشهر الماضية حيث كان الجميع يترقب المداولات البرلمانية حول القانون الإطار عبر عدد من الأساتذة والمثقفين عن آرائهم إزاء هذه القضية المصيرية نذكر من بينهم المفكر المستشار عباس الجراري الذي أكد في برنامج إضاءات مسار وأفكار “لا تعليم الا باللغة الوطنية مع الانفتاح على اللغات الحية كالانجليزية، وإن الأمة لا يمكن أن تنجح وتقوم إلا باللغة العربية“.
4 – توصيات
اعتمادا على الملاحظات الميدانية السابقة الذكر فسيفهم القارئ أنه يجب أولا تحسين ظروف التدريس بما في ذلك التكوين المستمر للأساتذة والمعلمين وإدخال حلول ملائمة لتحسين تحصيل التلميذ بصفة عامة مع الانفتاح المبكر على لغة أجنبية حتى يسهل على الطفل التمكن منها جيدا ولكن بعد الترسيخ الكافي للغة الوطنية و كذلك بالنسبة للعلوم فيجب استيعابها باللغة العربية أولا حتى تصبح المرجعية الأولى في ذهن التلميذ قبل إدخال ازدواجية لغوية بصفة تكميلية في هذه المواد يستفيد منها كل تلميذ حسب قدراته فتكون حينئذ انفتاحا إيجابيا يمكنه أن يؤدي إلى تحسن أرقى في مستوى الاستيعاب وإلى التعريب التدريجي المرتقب للسنوات الأولى من الجامعة، مع الانفتاح أكثر على الانجليزية.
أما القانون الإطار فمن المحتمل جدا أن يحظى بفهم جدري يدفع إلى تدريس العلوم منذ البداية باللغة الأجنبية مما سيؤدي إلى رجوع إلى الخلف يعسر هذا التطور الطبيعي المرتقب.
هنا نتساءل هل لدينا إمكانية تتبع التطورات التي ستحصل في ميدان التعليم منذ السنوات الأولى منه عبر المؤشرات الدقيقة المعبرة عن نوعية الخصوصيات التي تسعى السياسة التعليمية للبلاد التركيز عليها؟ وهل توجد مسطرة فعالة لتصحيح المسار من قريب إذا ما اتضح الابتعاد ولو جزئيا عن التوجه المحمود؟
أم لا بد أن تذهب ضحية أخطاء محتملة، أفواج من التلاميذ والطلبة إلى أجل إصلاحات أخرى ستأتي في المستقبل؟ وهو ما يعادل حالة انتحار لا محالة، علما أن الحروب اللغوية التي أشار إليها عدد من المفكرين منذ عدة عقود تطورت هي نفسها لتستعمل الجذب عوض الإجبار كما نبه لذلك المفكر المغربي الكبير المهدي المنجرة في كتابه “قيمة القيم“.
الدكتور يوسف الكتاني
بالقنيطرة في 12 شتنبر 2019