الموس يكتب: مخرجات ورش تعديل المدونة على ضوء قواعد تقييد المباح -1-
خلال دراستي لموضوع تقييد المباح، وقفت على مجموعة من القواعد التي ينبغي مراعاتها عند تقييد المباح منعا أو إرسالا، ولا شك أن كثيرا من قضايا الأسرة ومسائلها تتعلق بالمباح، وتحتاج إلى فقه فردي وجماعي، لئلا تخرج عن مقصود الشارع في حياة المكلفين. وسأحاول في هذه المقالات المتتالية الوقوف عند بعض مخرجات اللجنة الملكية حول ورش تعديل المدونة، مما أعطى فيه المجلس العلمي الفتوى بالموافقة أو بالرفض، وعرضه على بعض قواعد تقييد المباح، فأقول وبالله التوفيق:
أولا: قاعدة اختلاف المباح بحسب الكلية والجزئية:
من القواعد الكبرى التي تؤثر في حكم الإباحة قاعدة الكلية والجزئية، وقد ربط الشاطبي في الموافقات الأحكام التكليفية كلها بهذه القاعدة، ورأى أن الحكم الشرعي عامة والمباح خاصة يختلف بحسب الكلية أو الجزئية. ومعنى ذلك أن الحكم على تصرف معين بالنسبة لفرد معين وفي لحظة معينة قد يكون هو الإباحة، لكن لو نظرنا إليه نظرة كلية؛ أي عند تنزيله على مجموع الأمة، أو في فترة زمنية ممتدة، فإن الحكم قد يتغير من الإباحة إلى غيرها.
وسأختار ضمن هذه القاعدة مثالين اثنين من مخرجات لجنة مراجعة مدونة الأسرة:
المثال الأول سن أهلية الزواج:
أعتقد ألا أحد يجادل في حاجة الزواج إلى الرشد والأهلية النفسية والعلمية والاجتماعية، قصد إقامة أسرة مستقرة ومتماسكة. وقد تكلم العلماء قديما حول عدم الاكتفاء بالعلامات الطبيعية للبلوغ، وانتظار رشد خاص لبعض الأعمال، وهو ما يؤكده تصرف النبي عليه السلام حين منع بعض الشباب من المشاركة في الجهاد، وحدد عمر بن عبدالعزيز في زمانه خمسة عشرة سنة كحد فاصل بين الصغر والبلوغ. لكن الذي نُنكره هو هذا الحرص من طرف بعض المنظمات والمؤسسات؛ منها الرسمية أحيانا (مجلس حقوق الانسان)، على المنع بإطلاق لزواج من لم يصل ثماني عشرة سنة، دون مراعاة لقاعدة الجزئية والكلية، واختلاف أحوال الناس بحسب البيئات والأعراف والظروف الشخصية. فإذا كانت المصلحة العامة تقتضي تقييد أهلية الزواج بوصول ثماني عشرة سنة، فلابد من الإبقاء على الاستثناء لبعض الحالات الجزئية، والتي ينظر فيها القضاء ويأذن فيها حسب المعطيات الخاصة.
وهذا الاستثناء لسنا فيه بدعا من الأمم؛ فالناظر في كثير من التشريعات الغربية يجد التنصيص على إمكانية الإذن بزواج من لم يصل سن الأهلية، بل إن اتفاقية حقوق الطفل التي اعتمدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة في نوفمبر 1989 رقم 25/44 في مادتها الأولى تنص على أنه يُعني بالطفل: ” كل إنسان لم يتجاوز الثامنة عشرة، ما لم يبلغ سن الرشد قبل ذلك بموجب القانون المطبق عليه”.
ونرى، انطلاقا مما سبق، أن تحديد سبعة عشرة سنة كحد أدنى لإمكانية الإذن بالزواج مجانب للصواب، على اعتبار أن الواقع العملي يشهد لاستقرار طلبات الإذن في قريب منها وهو خمسة عشرة سنة، ثم إن نسبة الطلبات للزواج دون سن الأهلية مستقرة في حدود 5 في المائة، ولو قامت الدولة بدورها في محاربة الهشاشة والفقر، ويسرت التمدرس للأطفال، لانخفضت هذه النسبة بشكل كبير. إن كثيرا من حالات طلب الإذن بالزواج دون سن الأهلية تكون مبررة، وهي جزئية في محالها وفي خصوصيتها، ووجب على المشرع ألا يدفع أصحابها إلى مآلات سيئة. فحين تُمنع فتاة منقطعة عن الدراسة، ويتيمة الأبوين ولا عائل لها، من الزواج بكفء لها، فإنها تُدفع إلى الارتماء في أحضان الرذيلة، وهو ما حذر منه الله تعالى حين قال: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا. يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 27، 28].
وإذا كانت الفتاة متدينة، فإنها قد تقبل بزواج الفاتحة غير الموثق، وهو ما يعرضها لمآلات سيئة من حيث ضياع حقوقها وحقوق حملها إن حملت وتنكر لها الزوج. وقد نبه الدكتور مصطفى بنحمزة على بعض هذه المآلات خلال مناقشة صياغة مدونة 2004، وقال: ” فإذا وقعت المطالبة، وبهذا الإلحاح الشديد، على رفع سن زواج الفتاة إلى الثامنة عشرة حصريا، فإن هذا قد أوجد واقعا آخر، هو أكثر إضرارا بالمرأة التي قد لا يؤذن لها بالزواج، لأنها قد تتزوج؛ خصوصا في البوادي والمناطق النائية، بناء على عقد عرفي غير موثق، فتصبح فاقدة لأي حماية قانونية…”[1]. وها هي الضغوط لازالت تمارس من أجل المنع البات للاستثناء الذي تقتضيه الأعراف والحالات الخاصة، وهذه الضغوط ليست فقط في أمر الزواج؛ بل تتعداه إلى قضايا كبرى من مثل تحمل الولايات والمسؤوليات.
لقد ثبت في التاريخ الإسلامي وجود شباب عمرهم أقل من سبعة عشرة قادوا جيوشا، مثل أسامة بن زيد رضي الله عنه، ومنهم من كان رئيس لجنة علمية لجمع القرآن كزيد بن ثابت رضي الله عنه، وتولى إدريس الثاني الحكم وهو لم يتجاوز إحدى عشرة سنة. وتراضى المغاربة عبر استفتاء سنة 2011 م على ترشيد ولي العهد في سن السادسة عشرة من عمره.
ومن جهة أخرى، نرى أنه إذا كانت هناك ظروف موضوعية تمنع الشباب الذكور من الزواج المبكر بسبب عدم وجود الباءة المطلوبة شرعا، فإن الفتيات على العكس من ذلك يكون لديهن استعداد للزواج ممن يكبرهن بسنوات، وقد يحصل للواحدة منهن ارتباط عاطفي بقريب أو جار لها، ولاشك أن مطلب العفة والاستمتاع بالغريزة الجنسية في إطار الحلال مطلب شرعي، لا يمكن التغافل عنه.
ومما يؤاخذ على الداعين إلى منع زواج الصغيرة أنهم لا يرون يأسا من إقامتها لعلاقة جنسية خارج مؤسسة الزواج، ولا من إمكانية حملها وأن تصبح أما عازبة، وهم في ذلك يقلدون الغرب الذي وإن قيّد زواج الصغير، إلا أنه يسمح ويُشجع الصغار من خلال دروس العلاقات الجنسية النظرية، وأيضا من خلال سن قوانين تبيح المعاشرة الجنسية قبل سن الأهلية للزواج بكثير. فهل الممارسة الجنسية خارج الزواج، ثم إمكانية الحمل من خلالها، لا تشكل خطورة على الفتاة، بينما الزواج والممارسة الآمنة من خلاله تشكل خطرا عليها؟ ولمن أراد المقارنة فلينظر إلى سن العلاقات الجنسية خارج الزواج في بعض دول الاتحاد الأوروبي، والتي قد تكون أقل من خمسة عشرة سنة، كما هو الحال في إيطاليا والنمسا وبلغاريا.
إن أهم ما يرافع به الداعون لإلغاء الاستثناء في زواج من هم دون سن الأهلية هو مسألة الاستمرار في الدراسة، وهذه المسألة يمكن فيها للفتاة غير المنقطعة عن الدراسة أن تشترط على الزوج أن لا يمنعها من إتمام الدراسة، كما يمكن من خلال البرامج التثقيفية والتوعوية أن تحرص على تأخير الحمل إلى ما بعد الباكلوريا على الأقل، وبهذا يتحقق لها المتعة الشرعية الحلال، مع الاستمرار في الدراسة وعدم تضييع فرصة الزواج. وهناك الكثير من الحالات الناجحة لفتيات تزوجن قبل سن الأهلية، ووجدن العون والتفهم من الزوج، وهن الآن أطر نافعة للوطن ولهن أسر سعيدة.
المثال الثاني مسألة التعدد:
أما المثال الثاني الذي له تعلق بالكلية والجزئية فهو مسألة التعدد، فقد أباحه الله تعالى لحكمة قد تغيب عنا، ورغّب سبحانه وتعالى بالاكتفاء بالواحدة عند خوف الجور فقال: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} [النساء: 3]. ورأى كثير من أهل العلم أن الزواج في حد ذاته قبل الحديث عن التعدد يدخل في دائرة الإباحة رغم أنه كفيل بحفظ كليات شرعية كثيرة، ولعل الحكمة في الاكتفاء بالإباحة في حقه أنه ترك لدافع الجبلة والفطرة، حيث يميل الانسان بطبعه وفطرته إلى الزواج، ويحرص عليه وعلى إقامة أسرة، ومن جهة أخرى فإن النساء تختلفن في قبول الضرة أو رفضها، وإن كان الغالب عليهن هو الأثرة بنصبيهن من الزوج.
ومن ثم نرى أن التعدد بالنظر الكلي يبقى على أصل الإباحة، خاصة إذا لاحظنا أنه لا يشكل ظاهرة في المجتمع المغربي، فحسب إحصائيات السلطة القضائية فإن نسبة الإذن بالتعدد لم تتجاوز 0.66 في المائة من مجموعة حالات الزواج، وهو رقم ضئيلٌ جزئيٌّ، وليس بظاهرة اجتماعية مقلقة نحتاج لإدخال مزيد من القيود عليها؛ بل ينبغي أن يُترك للنساء وللرجال فيه تقدير ما يناسبهم من الشروط في حدود ما لا يعارض الشرع.
لقد كان المجلس العلمي الأعلى موفقا حين رفض اعتماد استشارة المقبلة على الزواج حين العقد عليها حول رغبتها اشتراط عدم التعديد عليها من طرف الزوج، ورأى ذلك لا يوافق الشرع ما لم ير ولي الأمر مصلحة راجحة في ذلك، وهو ما لم يعترض عليه ولي الأمر. إنه لو تم اعتماد هذا المقترح فهو من جهة ينافي الذوق وحساسية المناسبة، ومن جهة أخرى يخالف ما هو متعارف عليه بين أهل القانون من احترام سلطان الإرادة، ولعل الأولى وهو المعمول به حاليا أن يسأل العدل المكلف بالتوثيق : هل لأحد الزوجين من شرط يريد إضافته للعقد دون تخصيص بمسألة محددة.
وإذا كان الحنابلة لا يرون مانعا في الشروط في النكاح فإن المالكية يكرهونها، ويرون الأفضل أن يتزوج الناس على الدين والأمانة، تيسيرا للزواج وإبعادا له عن الشروط التي قد يعجز الناس لاحقا عن الوفاء بها . قال ابن رشد الجد: ” … لما كره مالك رحمه الله النكاح على هذه الشروط كره للشهود أن يشهدوا عليها إذ لا ينبرم العقد إلا بشهادتهم ، وقد قال في سماع ابن القاسم من كتاب السلطان: ” أشرت على قاض منذ دهر أن ينهى الناس أن يتزوجوا على الشروط، وأن لا يتزوجوا إلا على دين الرجل وأمانته، وأنه كان كتب بذلك كتاباً وصيح به في الأسواق، وعابها عيباً شديداً، والله يوفق برحمته للصواب “[2]. ولقد طالب كثير من أهل العلم بضرورة مراجعة بعض بنود مدونة الأحوال حول إمكانية التحلل من شرط عدم التعديد عندما يصبح مرهقا للزوج[3]، ورأوا أنه لا معنى لرفضه بإطلاق، بل الأولى إمكانية المراجعة إن قبلت به الزوجة، أو جعل أمرها بيدها، وتعويضها عن الضرر عند الاقتضاء.
إن التعدد في المغرب ليس ظاهرة اجتماعية مقلقة، ولا يشكل تهديدا للنسيج المجتمعي؛ بل قد يكون في كثير من الأحيان حلا لبعض الإشكالات المجتمعية. ولقد كان الأولى بمن يدافعون عن المرأة أن ينظروا إلى ما تتعرض له الزوجات من أنواع الخيانة الزوجية ويطالبوا بترتيب العقوبات الصارمة عليها، وكذلك أن يفكروا ويقدموا مقترحات حول ظاهرة العنوسة التي أصبحت تقلق النساء، وتوقع كثيرا منهن في أزمات نفسية.
الدكتور الحسين الموس باحث في أصول الفقه ومقاصد الشريعة
***
[1] ابن رشد، البيان والتحصيل (4/ 443)
[2] جاء في المادة 40 من المدونة : يمنع التعدد إذا خيف عدم العدل بين الزوجات، كما يمنع في حالة وجود شرط من الزوجة بعدم التزوج عليها”. وجاء بعدها في المادة 48 ما يفيد إمكانية مراجعة كل الشروط عندما تصبح مرهقة إلا شرط عدم التعدد: ” الشروط التي تحقق فائدة مشروعة لمشترطها تكون صحيحة وملزمة لمن التزم بها من الزوجين. إذا طرأت ظروف أو وقائع أصبح معها التنفيذ العيني للشرط مرهقا، أمكن للملتزم به أن يطلب من المحكمة إعفاءه منه أو تعديله ما دامت تلك الظروف أو الوقائع قائمة، مع مراعاة أحكام المادة 40 أعلاه”.
[3] مصطفى بن حمزة، فقه الأسرة: مرافعات مقدمة إلى لجنة مراجعة مدونة الأحوال الشخصية، مؤسسة الأندلس للنشر والتوزيع فاس، ط1، 2024، ص57.