أزمة النزاهة الأكاديمية: محاولة لفهم ظاهرة الغش الجامعي في المغرب- مصعب شرعي
يمثل الغش في الامتحانات الجامعية أزمة أخلاقية ومعرفية تهدد مبادئ النزاهة الأكاديمية وتلقي بظلالها على مستقبل التعليم العالي. ولا يقتصر الأمر على كونه سلوكا فرديا منعزلا، بل هو ظاهرة معقدة تعكس تداخلا بين عوامل اجتماعية، اقتصادية، وثقافية، تشير إلى خلل في القيم المجتمعية وآليات التربية والتعليم. إن تزايد انتشار هذه الظاهرة في السنوات الأخيرة، مدعوما بتطور التكنولوجيا الحديثة وضعف الرقابة، يدعو إلى تساؤل جاد: ما هي العوامل التي تسهم في تفاقم هذه الظاهرة؟ لفهم أعمق لهذه الإشكالية، من الضروري تبني رؤية شمولية تبرز التأثيرات الفردية والجماعية والمؤسسية التي تؤطرها.
الغش كظاهرة منبوذة دينيا واجتماعيا
من منظور الدين الإسلامي الحنيف، يعتبر الغش سلوكا محظورا ومرفوضا بشكل قاطع، فقد ورد في الحديث الشريف عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم: “من غشنا فليس منا” [1]، وهو نص صريح يدين هذا الفعل ويعتبره جريمة أخلاقية ودينية تُقوض القيم الإنسانية الأساسية.فالغش لا يقتصر فقط على العلاقة بين الفرد وربه، بل يضعف الروابط الاجتماعية التي تتأسس على الأمانة والصدق. وفي هذا السياق،يظل الإسلاممشددا على أهمية الأمانة كجزء من التقوى، وأن الالتزام بها يظهر شخصية الإنسان المسلم ومبادئه. علاوة على ذلك، يعتبر الغش اعتداء على حقوق الآخرين، وهو ما يناقض روح العدالة التي يدعو الإسلام إلى ترسيخها في جميع مناحي الحياة.
من الناحية الاجتماعية، يعتبر الغش انتهاكا لمبادئ العدالة والمساواة، حيث يكرس ثقافة الانتهازية ويضعف الثقة داخل المجتمع. فالغش لا يهدد فقط التماسك الاجتماعي ولكنه ينتج جيلا يفتقر إلى الكفاءة الحقيقية ويعتمد على الالتفاف حول القواعد بدلا من الامتثال لها. كما يساهم في خلق فجوة بين الشرائح المختلفة في المجتمع، بما يضربالأفراد النزيهين الذين يعتمدون على جهودهم الذاتية لتحقيق النجاح، بينما يستفيد الآخرون من الممارسات غير المشروعة.
من منظور سوسيولوجي، الغش يعكس أزمة قيمية عميقة تظهر ضعفا في منظومة الضوابط الاجتماعية، مثل ضعف الرقابة الأسرية وغياب التأطير المجتمعي [2]. كما أن انتشار الغش يعد مؤشرا واضحا على انهيار الثقة بين الأفراد والمؤسسات، حيث يصبح الغش وسيلة “مشروعة” لتحقيق النجاح السريع في غياب نموذج أخلاقي يحتذى به. وفقًا لنظرية دوركهايم، فإن ضعف الضوابط الاجتماعية يؤدي إلى تفشي السلوكيات المنحرفة، مما يبرز الحاجة إلى تعزيز القيم الأخلاقية كجزء من أي مقاربة شمولية لمعالجة هذه الظاهرة [3].
السياق الثقافي والتاريخي للغش
الغش ليس سلوكا مستحدثا، بل له جذور تاريخية عميقة تتشابك مع التحولات الاجتماعية والاقتصادية في مختلف العصور [4]. ففي المجتمعات التقليدية، كان الالتزام بالنزاهة جزءا لا يتجزأ من الهوية الثقافية، حيث فرضت القيم المجتمعية رقابة صارمة على السلوكيات الفردية، ما حد من انتشار ظاهرة الغش [5][6]. إلا أن التغيرات الناتجة عن الثورة الصناعية ثم العولمة أدت إلى تغيرات عميقة في هذه الديناميكيات [7]، وفقًا لدراسة بياضي، محي الدين، بعنوان “العولمة وتأثيرها على صنع السياسة التعليمية في المغرب” (2018)، فإن العولمة ساهمت في إعادة تشكيل القيم التعليمية، حيث أصبح النجاح الأكاديمي وسيلة لتحقيق التقدم الاقتصادي والاجتماعي في سياق تنافسي عالمي. أشار الباحث إلى أن هذه التحولات زادت من النزعات الفردية والمادية، مما دفع البعض إلى استخدام وسائل غير مشروعة، مثل الغش، لتحقيق النجاح الأكاديمي. كما أبرزت الدراسة كيف أن السياسات التعليمية في المغرب تأثرت بالمعايير الدولية، مما خلق ضغوطًا إضافية على الطلاب وأسرهم لتحقيق التفوق الأكاديمي بأي وسيلة ممكنة. علاوة على ذلك، فإن العولمة عمقت الفجوة بين الأجيال، حيث بات الطلاب يعتمدون على وسائل التكنولوجيا الحديثة لتجاوز القيود الأكاديمية، مما أدى إلى تصعيد الظاهرة. في ظل هذه التغيرات، فإن فهم السياقات الثقافية والتاريخية لهذه الظاهرة يساعد في تصميم استراتيجيات فعالة لمواجهتها [8].
في هذا السياق، يشير كليفوردغيرتز إلى أن الثقافة شبكة من المعاني التي ينسجها الإنسان، وتعمل هذه الشبكة كإطار لفهم السلوك البشري [9]. فالغش الأكاديمي، وفقا لهذا الطرح، يعبر عن محاولة رمزية لتجاوز القيود الأكاديمية والاجتماعية، حيث تصبح النتيجة النهائية أهم من الوسيلة المستخدمة لتحقيقها. كما تبرز مارغريت ميد أن السلوكيات البشرية تتغير تبعا للسياقات الثقافية والاجتماعية، مما يجعل الغش وسيلة للتكيف مع الضغوط الاجتماعية، مثل التنافس الاقتصادي، في ظل غياب بيئة تشجع النزاهة [10].
علاوة على ذلك، فإن التطورات التكنولوجية مثل الهواتف الذكية والإنترنت جعلت عمليات الغش أكثر انتشارا وتعقيدا، حيث تُظهر الدراسات أن الطلاب يعتمدون بشكل متزايد على هذه الأدوات لتجاوز القيود الأكاديمية، مما يطرح تحديات جديدة أمام المؤسسات التعليمية. [11][12] في ظل هذه التحولات، فإن انخفاض مستويات الرقابة الاجتماعية والمؤسسية يسهم في قبول الغش كظاهرة طبيعية، حيث يرتبط ذلك بتراجع الثقة في المؤسسات التعليمية ذاتها [13]. لذا، فإن فهم السياقات التاريخية والثقافية لهذه الظاهرة يسهم في تصميم استراتيجيات فعالة لمواجهتها.
الغش كمنتوج لتقصير فردي ومؤسسي
البعد الفردي:
الغش لا يعكس فقط ضعفا في الرقابة الذاتية، بل يكشف أزمة في القيم الأخلاقية لدى الأفراد. غالبا ما يكون الطالب مدفوعا برغبة مفرطة في تحقيق النجاح بأي وسيلة، متأثرا بتوقعات بيئته الأسرية والاجتماعية التي قد تبرر هذا السلوك كوسيلة مقبولة[14]. وفقا لنظرية التوتر الاجتماعي لروبرت ميرتون، يمكن تفسير الغش كاستجابة لضغوط مجتمعية تطلب النجاح الأكاديمي كمعيار أساسي دون توفير الوسائل الكافية لتحقيقه بشكل شرعي، مما يدفع الأفراد إلى تبني وسائل غير مشروعة [15]. كماتظهر دراسات أكاديمية أن الطلاب الذين يفتقرون إلى الدعم النفسي أو التربوي يميلون إلى اللجوء للغش كطريقة لتخفيف الضغوط الأكاديمية [16]، وفقًا لدراسة أجرتها رقاد العونية ووحدة تومي بعنوان “دراسة تربوية في الأسباب والآثار لظاهرة الغش في الوسط التعليمي” (2023)، فإن ضعف الدعم النفسي والتربوي يعتبر من العوامل الرئيسية التي تدفع الطلاب إلى الغش. أشارت الدراسة إلى أن 35% من الطلاب الذين يعانون من ضغوط نفسية بسبب نقص التأطير التربوي يلجؤون إلى الغش كآلية للتعامل مع متطلبات التعليم. كما أوضحت الدراسة أن غياب المرشدين الأكاديميين وبرامج الدعم النفسي داخل المؤسسات التعليمية يؤدي إلى تفاقم هذه الظاهرة، حيث يشعر الطلاب بالضياع ويفتقرون إلى أدوات التعامل مع التحديات الأكاديمية.بالإضافة إلى ذلك، فإن غياب التربية الكافية على مبادئ النزاهة يجعل الغش يبدو خيارا مشروعا لتحقيق الأهداف قصيرة المدى، مع تجاهل العواقب طويلة المدى.كما أن ضعف الوازع الديني والأخلاقي يعتبر أحد أهم المحركات لهذه الظاهرة [17]، فالفرد الذي يفتقر إلى الإحساس بالمسؤولية تجاه الآخرين غالبا ما ينظر إلى الغش على أنه وسيلة لتجاوز العقبات بدلا من السعي لحلها، من منظور أنثروبولوجي، يمكن اعتبار الغش انعكاسا للقيم الثقافية التي تمجد النتائج النهائية على حساب الوسائل المستخدمة لتحقيقها، مما يعكس أزمة في منظومة القيم المجتمعية.
البعد المؤسسي:
يساهم النظام التعليمي في المغرب بشكل مباشر وغير مباشر في تكريس ظاهرة الغش [18]. فالمناهج التعليمية الحالية تركز بشكل أساسي على الحفظ والاسترجاع بدلا من تعزيز مهارات التفكير النقدي والإبداع [19]، هذا النهج يضعف من قدرة الطلاب على الاستقلالية في التعلم ويشجع على البحث عن وسائل سهلة لتحقيق النجاح.علاوة على ذلك، يعتبر ضعف الرقابة أثناء الامتحانات عاملا رئيسيا يُسهم في انتشار الغش، فالمؤسسات التعليمية تفتقر إلى سياسات صارمة وواضحة لمكافحة الغش وترسل رسالة ضمنية بعدم جدية التعامل مع هذه الظاهرة. ووفقا لتحليل إميل دوركهايم، فإن غياب الضوابط المؤسسية يمكن أن يؤدي إلى حالة من “الأنومي” أو اللامعيارية، حيث يفقد الأفراد احترامهم للقواعد والقيم بسبب غياب الرقابة الفعالة [20].
من منظور أنثروبولوجي، يمكن النظر إلى الغش كرمز ثقافي يعكس مقاومة النظام التعليمي الذي ينظر إليه على أنه غير عادل[21]، حيث تعتبر هذه الممارسة وسيلة للتكيف مع قيود النظام لتحقيق الأهداف المرجوة.أكثر من ذلك، يلاحظ أن هناك سياسات تطبق على مستوى التعليم الابتدائي والثانوي تؤدي إلى إنجاح الطلبة المتعثرين بشكل اصطناعي لتجنب تكاليف الرسوب [22]، حيث إن إعادة السنة تعني تحميل الدولة أعباء مالية ولوجستية إضافية. هذا التوجه يضعف من قيمة النجاح الأكاديمي ويكرس الغش كحل مؤسسي غير معلن لمواجهة المشكلات الهيكلية في النظام التعليمي.
البعد الاقتصادي والاجتماعي للغش
في ظل التحولات الاجتماعية والاقتصادية العميقة، أصبحت ظاهرة الغش الأكاديمي تعبيرا عن اختلال ميزان القيم المجتمعية. يعكس هذا السلوك رغبة مفرطة في تحقيق الترقي الاجتماعي وتحسين الوضعية الاقتصادية والمادية، خاصة لدى الفئات التي تعاني من محدودية الفرص التعليمية والمهنية. بالنسبة للعديد من الطلاب، يُعتبر النجاح الأكاديمي بمثابة المفتاح للخروج من دائرة الفقر وتحقيق مكانة اجتماعية أفضل، مما يجعلهم يلجؤون إلى وسائل غير مشروعة لتحقيق هذا الهدف[23].
في الوقت نفسه، تسهم البطالة المرتفعة، التي بلغت نسبتها 21.3% في المغرب عام 2024 [24]، في تعميق هذه الظاهرة. في ظل هذا الواقع، يصبح الحصول على شهادة أكاديمية أولوية قصوى، حتى وإن كان ذلك على حساب الالتزام بالنزاهة، يمكن ربط الظاهرة بنظرية العقلانية الاقتصادية (Rational Choice Theory) لجاري بيكر، حيث ينظر إلى الغش كقرار منطقي يتخذه الفرد لتحقيق مصلحته الشخصية في سياق يعلي من شأن النجاح الأكاديمي دون توفير الظروف المواتية لتحقيقه. كما أن غياب الثقة في النظام التعليمي، الذي غالبا ما يركز على النتائج أكثر من الكفاءة، يدفع الكثيرين إلى الاعتقاد بأن الوسائل غير المشروعة هي السبيل الوحيد لتحقيق النجاح والاعتراف الاجتماعي، وفقًا لنظرية الثقافة الفرعية (Subcultural Theory) لألبرت كوهين، قد ينظر الطلبة من خلفيات متواضعة إلى الغش كوسيلة مشروعة اجتماعيا في مواجهة نظام تعليمي يعزز التفاوتات بدلا من تقليصها. هؤلاء الطلبة، الذين يعانون من تدهور جودة التعليم في المناطق المهمشة خاصة، يرون في الغش فرصة لتحقيق مكانة اجتماعية تُجنبهم دائرة الفقر.
من جهة أخرى، تظهر الممارسات المتعلقة بالغش تحولا ثقافيا نحو تقديس النتائج النهائية بغض النظر عن الوسائل المستخدمة للوصول إليها. في بيئة تعلي من شأن الشهادات كرمز للنجاح، يصبح الغش وسيلة مقبولة ضمنيا، مما يعكس أزمة عميقة في القيم الأخلاقية الجماعية. وهو ما أسماه كليفوردغيرتز بالاقتصاد الرمزي حيث تصبح الشهادات الأكاديمية رموزًا للنجاح بغض النظر عن الوسائل المستخدمة للحصول عليها [25]، وهو ما يبرز تحولا ثقافيا نحو براغماتية مفرطة تمجد النتائج النهائية على حساب القيم الأخلاقية [26].
الغش كصورة من صور الفساد المجتمعي
تحول الغش من ظاهرة فردية إلى ممارسة جماعية يبرز أزمة أخلاقية واجتماعية أعمق. فقد أظهرت تقارير الشفافية الدولية [27][28] أن المغرب يحتل المرتبة 94 عالميًا في مؤشر مدركات الفساد، مما يشير إلى مستويات مرتفعة من الفساد في مختلف القطاعات. وهو ما يترجم إلى انتشار ثقافة الغش خاصة في قطاع التعليم. في هذا السياق، يعبر الغش الجماعي عن تدهور القيم المجتمعية وتحولها إلى أدوات براغماتية تبرر التجاوزات [29]. تشير الإحصائيات الرسمية إلى ارتفاع معدلات الغش في امتحانات الباكلوريا [30]، حيث تنظم أحيانا ممارسات الغش بشكل ممنهج داخل بعض المؤسسات، وهو ما يعكس انخراط أطراف متعددة في ثقافة الغش.
عندما يصبح الغش مقبولا اجتماعيا، فإنه يؤدي إلى إضعاف التماسك المجتمعي وتعزيز الانقسامات [31]. الأفراد الذين يحققون تفوقا بطرق نزيهة يتحولون إلى أقلية في مجتمع يقدس النتائج دون اعتبار للوسائل المستخدمة للوصول إليها. هذه الثقافة تفضي إلى بيئة تتسم بعدم الثقة بين الأفراد والمؤسسات [32]، مما يضعف الأسس التي يقوم عليها المجتمع [33].
علاوة على ذلك، يعتبر الغش الجماعي انعكاسا لتأثير الفساد المستشري، حيث يلاحظ أن الطلاب يرون في المحسوبية والرشوة نموذجا لتحقيق النجاح، مما يدفعهم إلى اعتبار الغش امتدادا طبيعيا لهذه الممارسات [34]. بناء على ذلك، فإن التصدي للغش يتطلب معالجة الفساد بشكل جذري وتعزيز الشفافية في مختلف القطاعات.
من منظور أنثروبولوجي، يحمل الغش الجامعي قيما رمزية تعبر عن مقاومة للضغوط المؤسسية والاجتماعية [35]. في ظل نظام تعليمي يركز على النتائج بدلا من العملية التعليمية، يعيد الطلاب تعريف النجاح بأسلوب رمزي يعكس رفضًا ضمنيا للنظام القائم. كما أن الاعتماد على التكنولوجيا في عمليات الغش يظهر تكيُّفا مع التحولات الرقمية [36]، مما يجعل الظاهرة أكثر تعقيدا. وفقا لهذا التحليل، فإن الغش ليس مجرد انحراف أخلاقي، بل هو تعبير عن محاولات الأفراد لتحقيق أهدافهم بطرق بديلة في سياق يفتقر إلى العدالة والشفافية.
انحسار دور الجامعة ورهاناتها في ظل الإشكالات الراهنة
لقد شكلت الجامعة المغربية، على مر العقود، فضاء رئيسيا لتخريج نخب المجتمع وصناعة قادة المستقبل في مختلف المجالات [37]. ومع ذلك، بدأ هذا الدور الحيوي يتراجع بشكل ملحوظ نتيجة الأزمات البنيوية التي تعاني منها الجامعة. من أبرز هذه التحديات: ضعف البنيات التحتية، ارتفاع معدلات الهدر الجامعي، وغياب التوجيه البيداغوجي الفعّال [38]. في هذا السياق، أصبحت الجامعة تواجه صعوبات جمّة في تحقيق أهدافها الكبرى المتمثلة في تأهيل الكفاءات وخلق بيئة تُعزز التميز والابتكار.
علاوة على ذلك، يرى بيير بورديو أن المؤسسات التعليمية غالبا ما تعمل كأدوات لإعادة إنتاج الأزمات الهيكلية التي يعاني منها المجتمع بدلا من أن تكون قاطرة للتغيير. ينطبق هذا التحليل على الجامعة المغربية، حيث تساهم المناهج التقليدية وآليات القبول غير العادلة في ترسيخ الفوارق الاجتماعية، مما ينتج نخبا تفتقر إلى الكفاءة الحقيقية [39]. إلى جانب ذلك، تؤدي سياسات التوجيه والموارد المحدودة إلى تضييق الفرص أمام الطلاب من الفئات الأقل حظا، مما يعمّق الفجوة الطبقية [40].
في ظل هذه الأزمات، تعتبر ظاهرة الغش الأكاديمي أحد أبرز المؤشرات على هذا التراجع. وفقا لتقارير رسمية، سجلت معدلات الغش ارتفاعا مقلقا، مدعوما بضعف الرقابة وانتشار الوسائل التقنية الحديثة [41]. يعكس هذا الواقع أزمة عميقة في النزاهة الأكاديمية، مما يؤدي إلى إضعاف صورة الجامعة وتقليص قدرتها على أداء دورها الأساسي في تحقيق التنمية الاجتماعية والاقتصادية [42].
بناء على ذلك، يمكن القول إن الغش الأكاديمي ليس مجرد سلوك فردي، بل هو انعكاس مباشر لفقدان الثقة في المؤسسات التعليمية. عندما تصبح الشهادات الجامعية مجرد وثائق شكلية لا تعكس الكفاءة الحقيقية، تتحول الجامعة إلى أداة لإعادة إنتاج الفوارق بدلا من أن تكون منبرا لإعداد أجيال قادرة على التغيير.
وفي الختام، يتضح مما سبقأن ظاهرة الغش الجامعي تمثل تحديا مركبا يتطلب معالجة شمولية تتجاوز الحلول الجزئية أو المؤقتة. حيث أن هذه الظاهرة تتشابك مع الاختلالات الهيكلية في منظومة الحكامة، وفشل الإصلاحات المتعاقبةلنظام التربية والتكوين، إضافة إلى التراجع في أدوار الأسرة، المدرسة، والمساجد كمؤسسات مركزية للتنشئة الاجتماعية.
إن مواجهة هذه الظاهرة تبدأ بإصلاح عميق لمنظومة الحكامة الجامعية لمحاربة الفساد وتعزيز قيم الشفافية والاستحقاق، إلى جانب إصلاح شامل للتعليم العالي يهدف إلى إعادة الاعتبار للجامعة المغربية لتصبح فضاءلإنتاج النخب وبناء مجتمع الكفاءة. كما أن تعزيز القيم الأخلاقية وغرس ثقافة النزاهة يتطلب تفعيل أدوار الأسرة والمدرسة والمساجد بشكل متكامل، باعتبارها الحلقة الأهم في تنشئة أجيال تحمل وعيا بمخاطر الغش وتنبذه.
ورغم التحديات، فإن المجهودات المبذولة من قبل الحركة الطلابية، ولا سيما مبادرة منظمة التجديد الطلابي “لننجح بشرف”، تقدم نموذجا رائدا يعكس إمكانية التغيير عبر التوعية والتحسيس بأساليب مبتكرة. هذه الجهود تستحق الإشادة والدعم لتكون جزءًا من رؤية متكاملة تسعى إلى بناء جامعة وطنية تساهم في تحقيق التنمية الشاملة عبر الالتزام بالقيم والمعايير الأكاديمية.
إن تحقيق هذا الهدف لن يتأتى إلا من خلال تكاتف الجهود المجتمعية والمؤسساتية لبناء منظومة تعليمية تتسم بالنزاهة والجودة، وتعيد للجامعة دورها الريادي في تخريج أجيال مسؤولة ومؤهلة تقود مسيرة التقدم والتنمية.
مراجع ومصادر:
[1] مسلم، صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب قول النبي: “من غشنا فليس منا”.
[2] سعد العيشي، “النسق القيمي وبنيوية الغش الاجتماعي”، مجلة حقائق للدراسات النفسية والاجتماعية، المجلد 9، رقم 9 (10 مارس 2018): 144–152.
[3] دوركهايم، إميل، في تقسيم العمل الاجتماعي، ترجمة حافظ الجمالي، بيروت، المنظمة العربية للترجمة، 2015، ص378.
[4] Bourdieu, Pierre. Distinction: A Social Critique of the Judgement of Taste. Translated by Richard Nice. Cambridge, MA: Harvard University Press, 1984, p. 23.
[5] كلود ليفي شتراوس، “البنى الأولية للقرابة”، الطبعة العربية، ص 125.
[6] إميل دوركهايم، “الأخلاق والتعليم”، ترجمة محمد سبيلا، الفصل الثاني: الأخلاق في المجتمع التقليدي، ص 45.
[7] زيجمونتباومان، “الحداثة والهولوكوست”، ص 18.
[8] بياضي، محي الدين، “العولمة وتأثيرها على صنع السياسة التعليمية في المغرب”، مجلة المفكر، العدد 17 (2018)، ص 318-331.
[9] Geertz, Clifford. The Interpretation of Cultures. New York: Basic Books, 1973, p. 5.
[10] Mead, Margaret. Coming of Age in Samoa. New York: William Morrow and Company, 1928, p. 117.
[11] فهد أحمد الفيلكاوي، “انتشار ظاهرة الغش الإلكتروني وعلاقتها بالتعليم عن بُعد خلال انتشار جائحة كورونا من وجهة نظر طلبة كلية التربية الأساسية – دراسة وصفية”، مجلة كلية التربية الأساسية، المجلد 31، العدد 4 (أكتوبر 2023)، ص 269.
[12] سحنون، أم الخير، “الغش الإلكتروني وتأثيره على الممارسة التعليمية في المؤسسات التربوية – دراسة ميدانية لعينة من تلاميذ الطور الثانوي”، مجلة سلوك، العدد 8، رقم 2 (31 ديسمبر 2022)، ص 69–86.
[13] المعهد المغربي لتحليل السياسات، “مؤشر الثقة في المؤسسات 2020: البرلمان وما وراءه في المغرب”، المعهد المغربي لتحليل السياسات، https://mipa.institute/8231.
[14] “الغش المدرسي.. مقاربة سوسيولوجية”، هسبريس، 2023، https://www.hespress.com/الغش-المدرسي-مقاربة-سوسيولوجية.
[15] Merton, Robert K. Social Theory and Social Structure. Revised and Enlarged Edition. Glencoe, IL: Free Press, 1957, pp. 185-189.
[16] رقاد، العونية، وحدة تومي، “دراسة تربوية في الأسباب والآثار لظاهرة الغش في الوسط التعليمي”، مجلة الدراسات التربوية، المجلد 2، العدد 1 (28 فبراير 2023)، ص 60–66.
[17] أحمد خيري محمود عثمان، “الغش: أسبابه وأضراره وصوره المعاصرة وطرق علاجه في الفقه الإسلامي”، مجلة كلية الشريعة والقانون بتفهنا الأشراف، جامعة الأزهر، 2021.
[18] Durkheim, Emile. Education and Sociology. Translated by Sherwood D. Fox. Glencoe, IL: Free Press, 1956, p. 71.
[19] منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (OECD)، “تقييم دولي يتحدث عن ضعف التفكير الإبداعي لدى التلميذ المغربي”، الإصلاح. نُشر عام 2023/ https://alislah.ma/تقييم-دولي-يرصد-ضعف-التفكير-الإبداعي/
[20] دوركهايم، إميل، في تقسيم العمل الاجتماعي. ترجمة حافظ الجمالي، بيروت، المنظمة العربية للترجمة، 2015، ص 375-380.
[21] غيرتز، كليفورد، تفسير الثقافات، ترجمة محمد بدوي، القاهرة، المركز القومي للترجمة، 2012، ص 18-22.
[22] المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، المدرسة المغربية: من الإنصاف إلى الإنصاف، الرباط، منشورات المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، 2018، ص 45-48.
[23] البحث الوطني حول الطلبة والحياة الجامعية، المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، المغرب، 2018، ص 78
[24] المندوبية السامية للتخطيط. مذكرة حول النتائج الرئيسية: الخصائص الديموغرافية والاجتماعية والاقتصادية للسكان، الإحصاء العام للسكان والسكنى 2024. الرباط: المندوبية السامية للتخطيط، 2024، ص. 17.
[25] غيرتز، كليفورد. تفسير الثقافات. ترجمة محمد بدوي. القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2012، ص25.
[26] باومان، زيجمونت. الحداثة السائلة. ترجمة حجاج أبو جبر. بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2016، ص 47.
[27] الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها. التقرير السنوي برسم 2023. المغرب، 2023.
[28] الشفافية الدولية، مؤشر مدركات الفساد 2022، برلين: الشفافية الدولية، 2022، ص. 15.
[29] : Sykes, Gresham M., and David Matza. “Techniques of Neutralization: A Theory of Delinquency.” American Sociological Review 22, no. 6 (1957): 667-670.
“[30] ارتفاع عدد حالات الغش في بكالوريا المغرب 116%.” العربي الجديد https://www.alaraby.co.uk/society/.ارتفاع-عدد-حالات-الغش-في-بكالوريا-المغرب-116.
[31] بوفاتح، إيمان. “المحددات الاجتماعية والثقافية لظاهرة الغش في الوسط المدرسي.” رسالة ماجستير، جامعة محمد بوضياف بالمسيلة، 2018، ص 78 .
[32] المرجع: روبرت ميرتون، النظرية الاجتماعية والبنية الاجتماعية، غلينكو: مطبعة فري برس، 1949، ص. 199.
[33] قندري، حورية، وبوزوران، سعيدة. “واقع جودة التعليم في ظل انتشار ظاهرة الغش.” مجلة العلوم الإنسانية والاجتماعية، المركز الجامعي سي الحواس بريكة، 2019، ص35.
[34] محمود عبد الله بني دومي، “أسباب ظاهرة الغش في مؤسسات التعليم العالي في المملكة الأردنية الهاشمية,” مجلة كلية التربية الأساسية للعلوم التربوية والإنسانية، العدد 4 (2019): 45.
[35] Geertz, Clifford. The Interpretation of Cultures. New York: Basic Books, 1973, p. 89
[36]: McCabe, Donald L., Kenneth D. Butterfield, and Linda K. Treviño. Cheating in College: Why Students Do It and What Educators Can Do About It. Baltimore: Johns Hopkins University Press, 2012, p. 124.
[37] أنطونيو غرامشي، مختارات من دفاتر السجن، تحرير وترجمة كوينتين هور وجيفري نويل سميث، نيويورك، إنترناشونال بابليشرز، 1971، ص 257.
[38] الهدر الجامعي.. ما أسبابه؟ وما طرق الحد منه؟ SNRT News | الهدر الجامعي .. ما أسبابه؟ وما طرق الحد منه؟
[39] بورديو، بيير، وباسرون، جان كلود. إعادة الإنتاج: في سبيل نظرية عامة لنسق التعليم. ترجمة: ماهر تريمش. المنظمة العربية للترجمة، 2007، ص 45.
[40] المرجع نفسه، ص78.
[41] المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، المنظومة الوطنية للتربية والتكوين: مكتسبات، تحديات، ورهانات الإصلاح، الرباط، المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، 2015.
[42] بن عيسى، فاطمة الزهراء، “الغش الإلكتروني في الامتحانات: قراءة سوسيولوجية في العوامل والآثار”، مجلة العلوم الاجتماعية والإنسانية، العدد 15 (2022)، ص 215-230.