إغتنم خمسا قبل خمس

إن الحمد لله نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا.

ونشهد أن الله وحده لا شريك له وأن سيدنا حبيبنا وقدوتنا محمد عليه أزكى الصلاة والسلام قد أدى الرسالة وبلغ الأمانة ورفع الغمة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده حتى آتاه اليقين.

أختي إخواني ما هي بالموعظة ولا بالتوجيه وإنما مجرد خواطر من وحي طبيعة هذه الأيام التي نعيشها اقتسمها معكم لعل الله سبحانه وتعالى ينفعنا بها جميعا.

وأنا في الطرقات في أسفاري انتبهت إلى الأرض السوداء القاحلة التي قبل فترة قليلة كنت أمر بها وليست بها حياة انتهيت إليها بعد الغيث الذي أنزله الله عليها وهي تتزين وتأخذ زخرفها وتصبح بهيجة للناظرين، ثم ما هي إلا أسابيع حتى اصفرت وخرجت آلات الحصاد وتولى كل فلاح حصاده لينظر في غلته إن كان من الرابحين أم من الخاسرين فانتبهت إلى دورة هذا الموسم الفلاحي وذكرني بدورة أخرى التي أسافر لأجلها في بعض الأحيان وهي دورة الموسم الدراسي الذي لا زلنا نتذكر كيف ابتدأ بإجراءات الدخول الدراسي وكيف تلته شهور من إرساء التعلمات ثم ها نحن نعد الآن لامتحانات يخرج منها الطالب إما رابحا أو خاسرا، فذكرني كل هذا بموسم آخر هو موسم العمر، فالواحد يأتي إلى هذا الدنيا رضيعا فيصبح صبيا وطفلا ثم شبلا يافعا ثم شابا فكهلا فشيخا لكن يأتي الموت، والفرق بين الموسم والمواسم الأخرى هي أن المواسم الأخرى ترجع، فالطالب إذا ضيع موسمه فشمر عن ساعديه وجد واجتهد وتدارك هفواته وأخطائه وقد يتدارك موسمه الذي مضى، والفلاح أيضا إذا ضيع شيئا من تنقية زرعه أو معالجته بالأدوية قد يتدارك ذلك في الموسم الموالي، ولكن موسم العمر إذا رحل لا يرجع واللحظة التي ملأتها بالغفلة أو بالمعصية أو باللغو أو بأي نوع من أنواع التفريط لا تستطيع أن ترجع إليها لتتدارك أمرك مهما فعلت ومهما أعطيت فيأتي الموت لينهي هذا الموسم، العمر وككل المواسم ليفضي إلى حساب ثم إلى ربح أو خسران، والحال أن الميت ما أن يموت حتى تقوم ساعته وقيامته، ولا دار خارج هاتين الدارين إما دار ربح جنة رب العالمين، أو دار خسارة نار جهنم والعياذ بالله، وينتهي هذا الموسم برحلة الموت التي تكون مباشرة بعد الموت وتعرفون جميعا حديث البراء بن عازب وهو صحابي أنصاري كان صغيرا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم حتى رده يوم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم خارجا لبدر يقول استصغرني رسول الله وردني لكنه كان كاتبا يدون كل ما يشهده ويحضره ولذلك انفرد برواية الأحاديث الطويلة والحكايات المروية في السيرة النبوية، مرة جاء أبو بكر إلى أبيه عازب في دكانه واشترى منه سلعة، فقال للبراء: إحمل عن عمك إلى دابته قال لا والله لن أفعل حتى يحكي ما كان من أمره مع رسول الله صلى الله عليه يوم بدر في فداء الأسرى، فروى له أبو بكر ما كان من ذلك الأمر فدونه وهي من المرويات التي يعتمدها كثير من رواة السيرة النبوية الشريفة، يروي البراء حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فيه، (خرجنا ذات يوم في جنازة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهينا إلى القبر فجلس رسول الله صلى الله عليه وفي يده عود ينكث به الأرض فقال استعيذوا بالله من عذاب القبر وقالها ثلاثا، ثم قال صلى الله عليه وسلم إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال على الآخرة نزلت إليه ملائكة وجوهها كقطع الشمس من الجمال والبهاء معهم كفن من الجنة وحنوط من الجنة فيقعدون منه مد البصر، فالميت الآن يحتضر، يملئون الأفق ثم يأتي ملك الموت فيقول يا أيتها الروح الطيبة اخرجي إلى مغفرة من ربك ورضوان قال صلى الله عليه وسلم فتخرج روحه تسيل كما تسيل القطرة من فم السقاء، تعبيرا على سهولة وليونة خروجها فيأخذها ملك الموت فلا يدعوها طرفة عين في يده فيأخذوها ويجعلوها في ذلك الكفن وفي ذلك الحنوط فيخرج منها كأطيب رائحة مسك وجدت على وجه الأرض ثم يصعدون بها إلى السماء فما يمرون بها على ملأ من أهل السماء إلا قالوا ما هذه الروح الطيبة فيقولون فلان بن فلان بأحب الأسماء التي كان يذكر بها في الدنيا حتى يبلغوا بها إلى السماء الدنيا فيستفتحون له فيفتح له فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها حتى يبلغوا بها السماء السابعة فيقول الله تعالى اكتبوا كتاب عبدي في عليين وأرجعوه إلى الأرض فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى فترجع روحه إلى جسده فيأتيه ملكان فيقعدانه ويسألانه من ربك فيقول ربي الله، ما دينك فيقول ديني الإسلام ما الذي تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم فيقول هو محمد رسول الله ونبيه، فينادي مناد من السماء أن صدق عبدي فأفرشوه من الجنة وألبسوه من الجنة وافتحوا له بابا إلى الجنة ثم يفسح له بابا من قبره مد بصره، ثم يأتيه رجل حسن الوجه حسن الرائحة فيقول من أنت فوجهك وجه الذي يأتي بالخير فيقول أبشر بخير يوم طلع عليكم منذ ولدتك أمك فأنا عملك الصالح وهو في هذا النعيم باب قبره مفتوحة على الجنة ومعه عمله الصالح في أحسن صورة وأحسن رائحة يؤنسه لكنه مع ذلك كله يرفع يديه إلى السماء ويقول أي رب أقم الساعة لماذا لأنه يرى مقعده في الجنة ويعرف أن ما ينتظره فيها خير مما هو فيه، قَالَ وَإِنَّ الْعَبْدَ الْكَافِرَ إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِنْ الدُّنْيَا وَإِقْبَالٍ مِنْ الْآخِرَةِ نَزَلَ إِلَيْهِ مِنْ السَّمَاءِ مَلَائِكَةٌ سُودُ الْوُجُوهِ مَعَهُمْ الْمُسُوحُ فَيَجْلِسُونَ مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ الْمَوْتِ حَتَّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَيَقُولُ أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْخَبِيثَةُ اخْرُجِي إِلَى سَخَطٍ مِنْ اللَّهِ وَغَضَبٍ قَالَ فَتُفَرَّقُ فِي جَسَدِهِ فَيَنْتَزِعُهَا كَمَا يُنْتَزَعُ السَّفُّودُ مِنْ الصُّوفِ الْمَبْلُولِ فَيَأْخُذُهَا فَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ يَدَعُوهَا فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ حَتَّى يَجْعَلُوهَا فِي تِلْكَ الْمُسُوحِ وَيَخْرُجُ مِنْهَا كَأَنْتَنِ رِيحِ جِيفَةٍ وُجِدَتْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْض فيَصْعَدُونَ بِهَا فَلَا يَمُرُّونَ بِهَا عَلَى مَلَإٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ إِلَّا قَالُوا مَا هَذَا الرُّوحُ الْخَبِيثُ فَيَقُولُونَ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ بِأَقْبَحِ أَسْمَائِهِ الَّتِي كَانَ يُسَمَّى بِهَا فِي الدُّنْيَا حَتَّى يُنْتَهَى بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيُسْتَفْتَحُ لَهُ فَلَا يُفْتَحُ لَهُ ثمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ } فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ اكْتُبُوا كِتَابَهُ فِي سِجِّينٍ فِي الْأَرْضِ السُّفْلَى فَتُطْرَحُ رُوحُهُ طَرْحًا ثُمَّ قَرَأَ { وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنْ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ }

فَتُعَادُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ وَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُجْلِسَانِهِ فَيَقُولَانِ لَهُ مَنْ رَبُّكَ فَيَقُولُ هَاهْ هَاهْ لَا أَدْرِي فَيَقُولَانِ لَهُ مَا دِينُكَ فَيَقُولُ هَاهْ هَاهْ لَا أَدْرِي فَيَقُولَانِ لَهُ مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ فَيَقُولُ هَاهْ هَاهْ لَا أَدْرِي

فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنْ السَّمَاءِ أَنْ كَذَبَ فَافْرِشُواَ لَهُ مِنْ النَّارِ وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى النَّارِ فَيَأْتِيهِ مِنْ حَرِّهَا وَسَمُومِهَا وَيُضَيَّقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ حَتَّى تَخْتَلِفَ فِيهِ أَضْلَاعُهُ وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ قَبِيحُ الْوَجْهِ قَبِيحُ الثِّيَابِ مُنْتِنُ الرِّيحِ فَيَقُولُ أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُوءُكَ هَذَا يَوْمُك الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ فَيَقُولُ مَنْ أَنْتَ فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ يَجِيءُ بِالشَّرِّ فَيَقُولُ أَنَا عَمَلُكَ الْخَبِيثُ فَيَقُولُ رَبِّ لَا تُقِمْ السَّاعَةَ)

هذا مآل رحلة الموت التي ينته بها موسم العمر الذي لا يرجع والذي ينته بحساب دقيق بين يدي الله عز وجل يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم يوم لا تملك نفس لنفس شيئا يوم يخون الغني غناه فيقول ما أغنى عني ماليه، ويخون السلطان ذو السلطان فيقول هلك عني سلطانيه، يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل امرؤ منهم يومئذ شأن يغنيه، يوم يكون الحساب دقيقا ويوضع الميزان فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا وليتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا، يوم تبلى السرائر فلا نملك أن نخفي من أنفسنا شيئا، هذا اليوم الذي قال عن الحساب فيه رب العالمين في الحديث القدسي يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه، وهذه الأعمال محصاة إحصاء دقيقا والإحصاء ليس هو الحساب، الإحصاء يعني الدقة في الحساب وكل إنسان ألزمانه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا لا حجة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فهل نستعد لنهاية هذه الرحلة رحلة لا يدري الواحد منا متى تأت تفاجئ القوي والضعيف والغني والفقير والسقيم والعليل فلا أحد يعلم متى تأتي منيته ومتى تقوم ساعته، ولكن من رحمة الله تعالى بنا أنه إذا كان هذا الموسم لا يرجع ولا يتكرر فإن الله سبحانه وتعالى الذي يعلم ضعفنا وحالنا فتح لنا بابا لا يمل أحد أن يغلقه باب وهو باب الرحمة والتوبة ونحن على أبواب شهر هو بامتياز شهر التوبة والرحمة، أخرج البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ثلاث أحاديث بمثابة الهدايا الكبرى العظمى للبشرية، قال من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه، كل هذا الذي جرى في رحلة وقال من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه، وقال من يقم ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه، وهو الشهر الذي لله في كل ليلة من لياليه عتقاء من النار في كل ليلة ينزل الله ملائكة يدونون أسماء المعتوقين من النار وبلا شك هذه الأسماء وهذه اللوائح لا تكتب في ليالي رمضان لا تكبت في مجال اللغو والحفلات والسهرات والمقاهي ولكن تكتب حيث تكون ليالي رمضان الحقيقية ليالي التوبة والاستغفار والذكر والاجتماع على الخير وعلى التواصي بالحق والصبر، فنسأل الله سبحانه وتعالى أن لا نحرم أن تكون أسماءنا في قوائم المعتوقين من النار في ليالي هذا الشهر المبارك ونسأل الله أن ندرك رمضان وأن نصومه وأن نقومه كما يحب ربنا عز وجل ويرضى أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين والحمد لله رب العالمين.

ذ. أوس رمال/ سلسلة تبصرة

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى