خبير تربوي يحلّل الأسباب الكامنة وراء النتائج الهزيلة للمغرب في التقييمات التربوية الدولية
يشارك المغرب في عدد من الاستحقاقات التربوية الدولية في مجال التعليم من بينها البرنامج الدولي لتقييم التلاميذ((PISA، وبرنامج بيلز (PIRLS)الذي يستهدف قياس الكفاية القرائية، وتيمس (TIMSS ) الذي يستهدف مكتسبات الرياضيات والعلوم.
لكن القاسم المشترك بين هذه المشاركات في هذه الروائز التربوية هي النتائج الهزيلة التي يحصدها المغرب كل مرة، وتجعله في الرتب الأخيرة بين الدول المشاركة.
وجوابا على سؤال لموقع “الإصلاح” عن الأسباب الحقيقية لهذه النتائج الهزيلة، يُرجِع الأستاذ محمد سالم بايشى ذلك إلى عاملين أساسيين؛ يؤثران على نتائجنا في التقويمات الدولية، أولهما ما يتعلق بالاختيارات البيداغوجية وتنزيلها ميدانيا، وثانيهما ما يتعلق بثقافة التقويم والروائز والاختبارات.
الاختيارات البيداغوجية وتنزيلها ميدانيا
يرى الخبير التربوي أن الوثائق المرجعية للإصلاح التربوي مثل الميثاق الوطني للتربية والتكوين، والرؤية الاستراتيجية 2015-2030، وما جاء في النموذج التنموي، تضمنت رؤى متقدمة للإصلاح في مختلف مستوياته ومجالاته. لكن السياسات التربوية التي حاولت تنزيل هذه الرؤى لم توفق في غالب الأحوال. حيث يلاحظ المتتبع أن هناك هوة بين هذه الرؤى المؤطرة، والممارسات الميدانية على أرض الواقع.
وقال: بايشى “منذ سنوات تنزيل الميثاق الوطني للتربية والتكوين ونحن نسمع عبارة (الإصلاح وقف عند باب القسم الدراسي ، لكنه لم يدخل إليه). ولا تزال مثل هاته العبارة تتكرر مع الإصلاح الحالي، نتيجة لغياب تصور واضح منسجم يربط تلك الاختيارات الكبرى بالواقع الميداني، ويقدم للممارسين أدوات عمل ناجعة، بدءا بالنموذج البيداغوجي والمقاربات الديداكتيكية ، إلى نظام التقويم والدعم والتتبع والمواكبة”.
وذهب المفتش التربوي السابق إلى أنه رغم الشيوع الكبير اليوم في الأوساط التربوية لثقافة نظرية متقدمة، من عناوينها: التمركز حول المتعلم، المقاربة بالكفايات، المهارات الحياتية، المشاريع البيداغوجية، عدة التقويم والدعم…، إلا أن غالب تلك العناوين لا تجد طريقا للتطبيق، نظرا لعوامل كثيرة ليس المجال هنا مجال تقصيها.
ونبه المتحدث إلى أنه لا يزال تعليمنا يركز على الكم بدل الكيف، وعلى الحفظ الآلي مع قلة الفهم، وعلى الإلقاء بدل المشاركة والتفاعل، وعلى استرجاع المعلومات بدل تحليلها وإبداء الرأي فيها، وعلى التقليد بدل النقد والإبداع. في حين أن متطلبات التعلم اليوم، و متطلبات الروائز الدولية تتجاوز مثل هاته الممارسة التي دخلت التاريخ في البلدان المتقدمة تربويا.
ثقافة التقويم والروائز والاختبارات
يعتبر بايشى أنه من جوانب القصور في نظامنا التربوي التي لا ننتبه إليها كثيرا ثقافة التقويم والروائز والاختبارات، وهو مجال أصبح مستقلا في حد ذاته تحت مسمى الدوسيمولوجيا (Docimologie )، قد يتخرج فيه الفرد مستقلا أو يتدرب عليه ضمن تكوينات مهن التربية والتكوين. لكن ممارستنا الميدانية لا تأخذ به إلا قليلا، فهي تتوارث ممارسات تقليدية جيلا بعد جيل.
ولفت الخبير في هذا الإطار إلى أن الوزارة حاولت منذ سنوات عديدة الانفتاح على تجارب دولية كالتجربة الكندية، وحاولت اعتماد المقاربة الأداتية في التقويم، فنشرت كتيبات في الموضوع بتعاون مع جامعة كندية ، وكونت في فترة لاحقة فريقا من المكونين، وأصدرت كتابا مرجعيا في الموضوع بتعاون مع منظمة اليونيسيف. كما برمجت في فترة لاحقة تكوينات للممارسين خصوصا أثناء تنزيل البرنامج الاستعجالي، وذلك بهدف تعميم المقاربة الأداتية وثقافتها، لكن الأمر لم يستمر، وبقيت هذه التجربة تطفو إلى السطح حينا وتغيب أحيانا أخرى، لتبقى نتائجها محدودة الانتشار، مجهولة من لدن الكثير من الممارسين.
وتطرق المتخصص في مجال التربية والتكوين إلى تجربة “تقويم المستلزمات” الذي اعتبرها تجربة مهمة لنشر ثقافة التقويم والروائز قبل سنوات، حيث انطلقت بقوة في بدايتها متبناة من قبل المصالح المركزية، لكنها ضمرت بعد تخلي الوزارة عن الإشراف المباشر عليها تخطيطا وتنزيلا وتتبعا ، لتنتهي في السنوات الأخيرة إلى ممارسة عادية روتينية ينجزها الأساتذة تحت مسمى التقويم التشخيصي بداية كل موسم دراسي.
وذهب بايشى إلى أن مشكل ثقافة التقويم لا يقف عند هيئة التربية والتكوين، بل يتعداها للمتعلمين وأسرهم. فالخوف من الامتحانات والتخويف منها لايزال سائدا. والانتقال للنظرة الإيجابية المتعلقة بالاستفادة من التقويم قصد التطوير الذاتي لا تزال بعيدة المنال . فتلامذتنا يحرصون على النقط بسائر الوسائل المشروعة وغير المشروعة أكثر من حرصهم على التعلم والتطوير. وقد لا يولون اهتماما لرائز معين إذا علموا بأن نقطه لن تؤخذ بعين الاعتبار.
المسارات الممكنة للتطوير
وقال بايشى إن أولى خطوات المسار الصحيح هو أن نقر بالمشكل ونعمل على تشخيصه، فنُثَمِّن ما هو إيجابي في تجربتنا ونصحح السلبي، ونحلل نتائجنا في التقويمات الدولية، ونعمل على أخذ نتائج ذلك التحليل في بناء مناهجنا التربوية وتجديدها.
وثاني هاته المسارات، اقترح المتحدث بوضع نظام واضح للتقويم، يدرج التقويم اليومي والمراقبة المستمرة والروائز، ويتماشى مع المستجدات، ويستفيد من التجارب الدولية في المجال. كل ذلك في انسجام تام مع البرامج والمقاربات البيداغوجية، في إطار نظرة نسقية للمنهاج تضعها اللجنة الدائمة لتجديد وملاءمة المناهج والبرامج وفق ما تنص عليه الرؤية الاستراتيجية والقانون الإطار 51.17، ويستطلع بشأنها رأي المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي.
وفيما يخص ثالث هاته المسارات، دعا الخبير إلى انطلاقه باستعجال ويتمثل في إدماج المهارات العليا كالتحليل والتركيب والنقد والتقويم والإبداع في الممارسة اليومية للأساتذة، حتى يفكوا ارتباط المتعلمين بالنماذج الجاهزة، والتعلمات المحنطة، ويفتحوا عقولهم أمام آفاق المعرفة وأدواتها، واثقين في أنفسهم، قادرين على التعامل مع مختلف الوضعيات باستثمار مكتسباتهم المدرسية ومهاراتهم الحياتية.
ورابع هاته المسارات وآخرها هو إدراج الأطر المرجعية للروائز الدولية المشهورة (PIRLS-TIMSS-PISA) ضمن منهاجنا التربوي ونظامنا التقويمي، وهو ما سبقت إليه بعض الدول الأسيوية التي تتصدر باستمرار الترتيب في هاته الروائز. بالإضافة إلى الاستفادة من تجارب هذه الدول ومقارباتها البيداغوجية في اتساق تام مع خصوصياتنا الوطنية والحضارية.
وخامس هاته المسارات يكمن في تكوين الممارسين في مجال التقويم وبناء الروائز والاختبارات، وفق اختيارات واضحة. ومواكبتهم لتنزيل ما تدربوا عليه ميدانيا، مع إدراج مصوغات مستقلة للتقويم في التكوين الأساس، بشكل يُخَرِّج أساتذة يمتلكون الكفاية التقويمية، قادرين على الارتقاء بالممارسة الميدانية.
وخلص الأستاذ محمد سالم بايشى إلى أن ثقافة التقويم والنظرة الإيجابية له، ينبغي أن تشيع في حياتنا المدرسية كلها، لا في الممارسة الصفية فحسب، بل في التدبير الإداري، وفي عمل مفتشي الوزارة بمختلف أصنافهم، وفي تقويم أداء مختلف العاملين، وفي مواكبة المؤسسات التربوية، وفي مراجعة المناهج والبرامج والكتب المدرسية. بحيث يكون هدفها الأساس تطوير الأداء وتجويده، ويصبح التقويم بذلك مطلبا مرغوبا، لا شبحا مخيفا كما نشهده للأسف في الكثير من الممارسات.
موقع الإصلاح