يتيم يكتب: الحاكمية الإلهية وسيادة الأمة.. تمحيص وتدقيق

لا يزال البعض يطرح تعارضا موهوما بين الحاكمية والسيادة، إذ إن بعض الإسلاميين يعترضون على العلمانية والديمقراطية انطلاقا من كونهما تقرران دولة الإنسان وتؤكدان على سيادة الأمة، في حين أن الإسلام يقرر أن الحكم لله.

وبعض العلمانيين يدعون إلى تبني علمانية شاملة ترفض أن تكون للدولة مرجعية إسلامية، وتؤكد -في أحسن الأحوال- على احترام الدين، ولكن مع حصره في المجال الخاص؛ فإلى أي مدى يصح هذا التعارض وذلك التقابل؟

لنبدأ أولا بإلقاء الضوء على المفهومين وظلالهما المختلفة؛ فمفهوم السيادة يعرفه الأستاذ علال الفاسي -رحمه الله- قائلا: “المراد بالسيادة في القوانين الدستورية ما يستند إليه الحكم، أي المصدر التشريعي الذي يستمد منه القانون أو الحاكم حق الامتثال لأمره، والعمل بما يصدر من تشريع أو يتخذ من تدابير (…). وسياسيو العالم وإن اتفقوا على وجود سيادة ضرورية لتدعيم الحكم وشرعيته؛ فإنهم لم يتفقوا على مصدرها وأساسها، فمنهم من اعتبرها حقا طبيعيا، ومنهم من اعتبرها سلطة دينية يقوم بها رجال الدين، ومنهم من جعلها ذاتية للملوك بما لهم من النيابة عن الله، وهو ما سموه بالحق الإلهي”؛ (علال الفاسي، “مقاصد الشريعة”، ص: 213).

ومن الواضح أن فكرة استمداد الحاكم للسلطة مباشرةً من الله فكرة غريبة كل الغرابة عن التصور الإسلامي؛ كما أوضحنا سابقا. وذلك ما يؤكده جنوح الفقه الإسلامي إلى جعل الإمامة من المصالح المرسلة، ورفْض التيار العام من المفكرين الإسلاميين من “أهل السنة والجماعة” لفكرة الوصية؛ كما بيناه سابقا عندما تكلمنا عن الطبيعة المدنية للدولة الإسلامية.

وهو ما يدل عليه -قبل ذلك- رفض الخلفاء الراشدين تسمية أنفسهم خلفاء الله، بل اعتبر أبو بكر نفسه خليفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم تتسرب نظرية الحق الملكي المقدس إلا مع بعض الخلفاء العباسيين الذين أكدوا أنهم يحكمون بتفويض من الله، كما يظهر من قول أبي جعفر المنصور: “إنما أنا سلطان الله في أرضه”.

“إن الخضوع التشريعي والقانوني لا يكفي ما لم يكن خضوعا مصحوبا بغاية المحبة وغاية الرضا والاستسلام لشرع الله، والنتيجة هي أن تحقيق الحاكمية القانونية والتشريعية -أي على المستوى السياسي والمؤسسي- لا يحقق العبودية التامة ما لم يكن نابعا عن رضا وتسليم ذاتي لشرع الله، لا عن مجرد خضوع وطاعة قهرية. وتأسيسا على ذلك فإنه لا يمكن الفصل بين الحاكمية والتحكيم، أي أن الحاكمية لا تتحقق فعلا إلا بالتحكيم الإنساني الطوعي لشرع الله”

أما بالنسبة لنظرية الحق الطبيعي؛ فهي -كما يقول الأستاذ علال الفاسي- مجرد فرضية لا يترتب عليها أثر إيجابي، بدليل استعمال كل واحد من المذاهب السياسية لها في التدليل على رأيه.

إن سند الحكم في الدولة الإسلامية هو إرادة الشعب، والسيادة للأمة تمارسها من خلال أهل الحل والعقد، فـ”بيعة الإمام إنما تنعقد -باتفاق علماء الكلام- ببيعة أهل الحل والعقد لأن الإمام هو وكيل الأمة، وأنهم هم الذين يولونه ملك السلطة، وأنهم يملكون خلعه وعزله لأن مصدر قوة الخليفة هو الأمة، وإنما يستمد سلطانه منها. وأن المسلمين هم أول أمة قالت بأن الأمة هي مصدر السلطات كلها”؛ (علال الفاسي، “مقاصد الشريعة”، ص: 218).

ولكن كيف يمكن الإقرار بسيادة الأمة مع الإقرار أيضا بالحاكمية الإلهية العليا؟ لقد تضخمت فكرة الحاكمية في تصور بعض المفكرين الإسلاميين -وخاصة عند أبي الأعلى المودودي وسيد قطب- إلى الحد الذي جعلهم يقررون أنها من أخص خصائص الألوهية، لكن مفهوم الحاكمية كما استخدمه كل من المودودي وسيد قطب لا يشمل كل خصائص الألوهية ومعاني العبودية، كما أوضح ذلك العلامة أبو الحسن الندوي.

إن الخضوع التشريعي والقانوني لا يكفي ما لم يكن خضوعا مصحوبا بغاية المحبة وغاية الرضا والاستسلام لشرع الله، والنتيجة هي أن تحقيق الحاكمية القانونية والتشريعية -أي على المستوى السياسي والمؤسسي- لا يحقق العبودية التامة ما لم يكن نابعا عن رضا وتسليم ذاتي لشرع الله، لا عن مجرد خضوع وطاعة قهرية.

وتأسيسا على ذلك فإنه لا يمكن الفصل بين الحاكمية والتحكيم، أي أن الحاكمية لا تتحقق فعلا إلا بالتحكيم الإنساني الطوعي لشرع الله، تحكيما مصحوبا بكامل الاقتناع والرضا والتسليم الناشئين عن تأليه القلب للرب، تأليها يكون مقرونا بكمال الحب والتعظيم والإجلال والإكرام والخوف والرجاء ونحو ذلك؛ كما يقول ابن تيمية.

والمتأمل في الآيات التي تضمنت مسألة الحكم والتحكيم يلاحظ أنها قد جاءت تشير إلى دور كل من الحاكم والمحكوم: الحاكم الذي ينبغي أن ينفذ حكم الله، والمحكوم الذي ينبغي أن يحكم ويتحاكم إلى شرع الله. فتارة ترد الإشارة إلى الحاكم كما في قوله تعالى: (وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ فَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ ۗ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ)؛ (سورة المائدة/ الآية: 49).

ومثل قوله تعالى: (فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا)؛ (المائدة/ الآية: 48)، وقوله تعالى: (فَإِن جَاءُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)؛ (المائدة/ الآية: 42).

وتارة أخرى ترد الإشارة إلى المحكوم فيرتبط الحكم بالتحاكم، أي بإرادة المحكومين سلبا أو إيجابا؛ قال تعالى (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا)؛ (النساء/ الآية: 60). وقوله تعالى: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)؛ (النساء/ الآية: 65).

والخلاصة الأولى هي أنه لا معنى للحاكمية إلا إذا كانت قائمة على تحكيم مقرون بالرضا والاستسلام واليقين: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ)؛ (المائدة/ الآية: 50).

والخلاصة الثانية هي أنه لا فائدة دينية تُرجى من إكراه فرد أو مجتمع على تطبيق الشريعة وهو لا يؤمن بها. وبعبارة أخرى؛ لا معنى لتطبيق حكم الشريعة بالإكراه في مجتمع غير مستسلم لحكمها موقن بأنها الخير، ولا يجد أدنى حرج نفسي في أن تسوده أحكامها. وعليه؛ فلا يكون هناك تعارض بين مبدأ الحاكمية ومبدأ السيادة داخل مجتمع إسلامي لعدة اعتبارات:

“الشعب المسلم هو مصدر السلطات في إطار الدستور الأكبر الذي هو القرآن الكريم. فالدساتير التفصيلية في المجتمع الإسلامي لا تأخذ شرعيتها إلا بمدى تطابقها مع الدستور الأعلى، أو المرجعية العليا التي تعلو على الدستور ذاته وعلى غيره من القوانين. وتجدر الإشارة إلى أن تقنين سيادة الأمة بالإطار الدستوري -الذي يعبر عن هوية الأمة وعقيدتها وثقافتها- مسألة حاضرة في أعرق الدول الديمقراطية التي تعترف بسيادة الأمة”

أ- أن الحاكمية -في مثل هذا المجتمع- هي لله ابتداء، وهي قضية عقدية وتسليم اجتماعي ينبغي أن ينص عليه الدستور، حينما يقرر مبدأ إسلامية الدولة وسيادة الشريعة على غيرها من القوانين.

ب- أن مبدأ الحاكمية لا يأخذ دلالته الواقعية بقهر السلطان، بل بإذعان الإيمان، أي بالاستسلام والتحكيم الطوعي لشريعة الإسلام. إن الحاكمية الإلهية قضية عقدية مبدئية، ولكنها لا تأخذ طريقها إلى الواقع إلا عبر استسلام وقناعة ورضا الأمة.

ج- أن الشعب المسلم هو مصدر السلطات في إطار الدستور الأكبر الذي هو القرآن الكريم. فالدساتير التفصيلية في المجتمع الإسلامي لا تأخذ شرعيتها إلا بمدى تطابقها مع الدستور الأعلى، أو المرجعية العليا التي تعلو على الدستور ذاته وعلى غيره من القوانين.

يقول الأستاذ علال الفاسي: “سند الحكم في الدولة الإسلامية هو إرادة الشعب المسلم، وسند الأمة في الحصول على هذه السلطة هو الدستور المكتوب الذي هو القرآن، فيكون الإسلام اعترف لمجموع الأمة بما اعترف به رجال الدين السابقون للملوك والرؤساء أو لبعض الطوائف”؛ (علال الفاسي، “مقاصد الشريعة”، ص: 219).

وتجدر الإشارة إلى أن تقنين سيادة الأمة بالإطار الدستوري -الذي يعبر عن هوية الأمة وعقيدتها وثقافتها- مسألة حاضرة في أعرق الدول الديمقراطية التي تعترف بسيادة الأمة. إذ لا نتصور في دولة غربية كفرنسا سيادة قد تؤدي إلى خرق القاعدة الدستورية القائلة بعدم قابلية مبدأ العلمانية في فرنسا للمراجعة، أو عدم إمكانية وجود حزب يدعو للملكية في فرنسا، على اعتبار تناقضه مع القاعدة الدستورية التي تقر بالعلمانية والنظام الجمهوري.

محمد يتيم /المصدر : الجزيرة

أخبار / مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى