على هامش مقتل فلويد، هيرات تكتب: “القوى السوداء تتنفس”
حل وباء كورونا المستجد على العالم ضيفا ثقيلا على العالم وعلى الولايات المتحدة بشكل خاص، فلم يكن الرئيس دونالد ترامب يتصور سنته الانتخابية والمصيرية أن تمر في مثل هذه الأجواء، لاسيما وأنه قبيل الجائحة كانت الأزمات الداخلية يتم العمل على حلها بشكل تدريجي، ومنها منع الجمهوريون من محاولة عزله التي أطلقها الديمقراطيون، وبعض المؤشرات الاقتصادية الإيجابية، كما كان يستعد للمكتسبات التي أرفقت الاتفاقية التجارية مع الصين كخطوة أولى لتحسين علاقته مع هذه القوة المنافسة الصاعدة.
هذا الرئيس الذي استقبل الوباء بتقديم عروض كوميدية ساخرة، تارة بالسخرية من المرض وتارة باتهامه بعض الدول وعملاءه من داخل الولايات المتحدة بكونها مؤامرة تستهدفه شخصيا في سنته الانتخابية، وتارة أخرى بتقديمه وصفات وادعاءه الفهم في جميع القضايا، تحولت إلى كوميديا سوداء مع اندلاع الثورة المجتمعية التي أطلق عليها البعض ب”ثورة فلويد”.
وبغض النظر عن سبب حدث “مقتل جورج فلويد” وحيثياته، إلا أنه كان سببا في إيقاظ خلايا نائمة وقوى باتت في سبات طويل. احتجاجات وأعمال شغب كانت اللغة الوحيدة التي استعملها من لا يملكون صوتا في مراكز القرار وموقعا في البيت الأبيض، وفق نظرية مارتن لوثر كينغ “riots are the voice of the voiceless”.
ففي ستينيات القرن الماضي تشكلت حركة “القوة السوداء” في الولايات المتحدة، وتبنت مجموعة من الأهداف من قبيل الدفاع عن السود ضد الاضطهاد العنصري الأبيض، والعمل على بناء مؤسسات اجتماعية واقتصادية ومرافق عمومية ووسائل إعلام حصرية للسود، من فرط ما كانوا يعانونه خلال تلك الفترة من استعباد وعنصرية متطرفة على جميع المستويات، القانونية والسياسية والاجتماعية والإنسانية كذلك.
هذه الحركة التي مالت للعزلة في بداياتها التي تعود إلى أواخر القرن 19 وانصب اهتمامها على الاعتزاز بالعرق الأسود والمناداة بتقرير المصير، اكتسبت زخما بحلول عام 1966، حيث تبنى آلاف الأفارقة الأميركيين استراتيجية تقوم على الاحتجاج السلمي الذي ينبذ العنف ضد الفصل العنصري والمطالبة بحقوق متساوية بموجب القانون.
غير أن هذه الاستراتيجية لم تلب رغبات ولا حاجيات الأفارقة الأمريكيين من حيث القضاء على الفقر والعجز عن إحداث التغيير المنشود، وبات هدفها الرئيسي هو امتلاك القوة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية بدلا من محاولة الاندماج في المجتمع. وهذا ما جعل فئات منهم تتجه للحصول على القوة الاقتصادية بكل الإمكانات الممكنة حتى لو كانت غير مشروعة، وهذا ما جسدته وسائل إعلامهم لاسيما السينما الأمريكية التي غالبا ما تصور السود على أنهم “THE Bad Guys”، الذين يتحصلون على أموالهم بطرق غير مشروعة (سلاح، مخدرات،…).
فباستقراء تاريخي بسيط يمكننا لمس طريقة تعامل النظام الأمريكي مع فئة مجتمعية قد تكون الأكثر عدديا بالنظر للمتغيرات التي يعرفها المجتمع الأمريكي بشكل متسارع، وأسماء بل وضحايا التمييز العنصري عبر التاريخ الأمريكي الذي تحولوا لرمز كثيرة وعديدة، مثل حدث إطلاق النار عليه من قبل مسلح أبيض على جيمس ميريديث أول طالب أمريكي من أصول إفريقية الذي التحق بجامعة مسيسيبي في عام 1962، من خلال محاولة فردية كللت بالنجاح، وصاحب مبادرة “مسيرة الخوف” سنة 1966، وما تلاه من بروز مجموعة من الحركات السوداء الداعمة، قادها كل من مارتن لوثر كينغ الابن من مؤتمر القيادة المسيحية الجنوبية، وستوكلي كارمايكل من اللجنة التنسيقية الطلابية المناهضة للعنف، وفلويد مكيسيك من مؤتمر المساواة العرقية. حيث كانت أفكار حركة القوة السوداء تحظى بقبول متزايد وسط الأميركيين السود، التي تمكنت من انتزاع مجموعة من الحقوق والحصول على العديد من المكتسبات، حتى تم ترميز هؤلاء القادة السود في مناهج التعليم الأمريكي وتصويرهم بشكل نمطي بكونهم دعاة للسلام ونبذ العنف على عكس “مالكوم إكس” الثائر والمحرض على العنف.
لن أخوض في التاريخ المفصل لهذه الحركة، التي بدأت تتنفس مع آخر نفس لجورج فلويد، وبدأت تستعيد حراكا تم إقبار شرارته أثناء الأزمة المالية لسنة 2008. حيث أدت نظرية “مناعة القطيع” التي تم نهجها في الولايات المتحدة، إلى ارتفاع معدل البطالة بأكثر من الضعف في غضون شهر واحد، وبدأت الجرائم العنصرية تظهر بشكل جلي للعيان في بلد الحرية والسلام والديمقراطية. حيث يتأكد مع كل إصابة من إصابات المواطنين بهذا الفيروس اللعين، ومع ارتفاع نسبة الوفيات في هذه الدولة المتقدمة، أن الأرقام ترتفع في صفوف السود بشكل خاص وأنها الأعلى على الإطلاق، حسب العديد من المنابر الإعلامية. كما أن المستشفيات تقفل في وجوههم الأبواب بدعوى أن لا مكان لهم.
وهي الظاهرة التي مست كذلك الفئات الفقيرة التي تتزايد باستمرار، والأشخاص المسنين والأشخاص في وضعية إعاقة، وكذلك العرب المهاجرين مسلمين أو غيرهم، بدعوى أنهم يشكلون عبءا على النظام الصحي والاجتماعي وبالتالي النظام السياسي ككل. في الوقت نفسه الذي ظهر فيه بعض الأطباء المبتكرين الذين أرادوا اتخاذ الأفارقة فئران تجارب لأدوية يحاولون تصنيعها لمواجهة هذا المرض.
كل هذا جعل اجتياح كوفيد 19 يحمل معه تيارا جديدا بل ينبؤ بظهور حركة عنصرية فاشية/نازية معاصرة، لا تعترف إلا بالشباب البيض والأصحاء.
ولكن بنظرة متفائلة، فهي ثورة مجتمعية تتجلى، العبرة فيها ليست باللون أو العرق، بل السواد هو صفة كل القوى المنهكة من قبل الأنظمة العنصرية المتغطرسة، التي كشف كائن مجهري عنها الغطاء ليغدوا بصرها حديدا يتطلع لمستقبل إنساني زاهر بإذن الله.
دة. فاطمة الزهراء هيرات
باحثة في القانون العام والعلوم السياسية